قُطَّاع الطريق

منذ 2014-08-17

"لقد دعونا نحن وغيرنا كثيراً من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممن يعظّمهم الجهّال؛ من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به؛ فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به. فالله طليب قطّاع طريق الله وحسيبهم"

"لقد دعونا نحن وغيرنا كثيراً من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممن يعظّمهم الجهّال؛ من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به؛ فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به. فالله طليب قطّاع طريق الله وحسيبهم" (إغاثة اللهفان، لابن القيم [2/416]).

وقد أكّد ابن القيم رحمه الله مقالته السالفة في موطن آخر، فقال: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم؛ فكلما قالت أقوالهم للناس: (هلموا)؛ قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم؛ فلو كان ما دعوا إليه حقاً لكانوا أول المستجيبين له. فهم في الصورة أدلّاء، وفي الحقيقة قُطّاع الطرق" (الفوائد، لابن القيم، ص 94).

فابن القيم يتوجّع من حال هؤلاء المتبوعين أرباب الظلم والبدع والفجور والاحتيال، والذين يلصقون تلك الشناءات كلها بالشرع المطهّر، فأضحوا سبباً للصدّ عن سبيل الله تعالى، والنفرة عن دين الله عز وجل. كما ذم ابن القيم -في مقالته الأخرى- علماء السوء الذين يقولون بألسنتهم ما ينقضونه بأفعالهم.

وقد أطنب ابن القيم في تحريم نكاح المحلِّل وذمّه وتغليظ جرمه كما في كتابه (إعلام الموقعين)، ومن قبله شيخه ابن تيمية في (بيان الدليل على بطلان التحليل)، وبيّنَا ما فيه من استحلال المحرمات، ومخادعة الله عز وجل، والتوثّب على محارم الله تعالى. بل كان تجويز هذا (النكاح) مسبّةً على أهل الإسلام، وذريعة لشماتة الأعداء، وتزهيداً في الإسلام.

يقول ابن تيمية -في بطلان نكاح التحليل وذمّه-: "ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول: (إن المطلّقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه)، وقد رأى أن معنى هذا معنى الزنا، وحَسِب أن هذا من الدين المأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تجاهل بإظهار ذلك؛ أخذ يعيّر المسلمين بهذا، ويقول: (إن دينهم أن المطلقة تحرُم حتى تزني، فإذا زنت حلّت)! وأخذ ينفِّر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بهذا. ولم يعلم عدوُّ الله أن هذا لا أصل له في الدين، ولا هو مأخوذ عن السابقين ولا عن التابعين لهم بإحسان، بل قد حرّمه الله ورسوله، فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرِّم فرجاً من الفروج حتى يستعار له تيس من التيوس، لا يُرغب في نكاحه ولا بقاؤه مع المرأة أصلاً، فينزو عليها، وتحلّ بذلك. فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح، بل هو سفاح وزنا كما سمّاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..." (بيان الدليل على بطلان التحليل، ص 437، 438. باختصار).

وسرى وباء قطّاع الطريق فأصاب عامة المسلمين ما أصابهم من الانحراف والزيغ، إذ استحوذ على كثير منهم الضُّلال، واستحكمت عليهم الشبهات، حتى إن النصارى شغَّبوا على ابن تيمية في أكثر من مناظرة، محتجين بهذا الواقع المريج. ومن ذلك: أن ابن تيمية لما ناظر ثلاثة من رهبان مصر وأقام عليهم الحجة، وأنهم ليسوا على دين إبراهيم ولا المسيح عليهما السلام عندئذٍ قالوا: نحن نعمل مثل ما تعملون؛ أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين من قبلكم، ونحن كذلك.

فقال لهم: "إنّ من فعل ذلك ففيه شبه منكم؛ فإن الدين الذي كان إبراهيم عليه أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك.." إلخ. فلما سمع الرهبان ذلك منه؛ قالوا: الدين الذي ذكرتَه خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه (انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية، ص 89، 90، ومجموع الفتاوى [1/370]، [27/461]).

وقَبلَ شيخ الإسلام، كَابَد ابن الجوزي هذا الداء، فكشف عن عُوار هذه الآفة في غير موطن. ويتجلى ذلك في ذمّه للمتصوفة وبيان حالهم، كما قال في إحدى خواطره: "فجاء أقوام فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زيّنها لهم الهوى، ثم تطلّبوا لها الدليل. وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقاً ويطلب دليلَها، ثم انقسموا: فمنهم متصنع في الظاهر، يتناول في خلواته الشهوات، ويعكف على اللذات، ويُرى في الناس بزيِّه أنه متصوف متزهد، وما تزهّد إلا القميص، وإذا نظر إلى أفعاله فعنده كِبْرُ فرعون (صيد الخاطر، ص 55).

ولا يخلِّف هذا التلوّن والنفاق إلا زهداً في التدين وفراراً من الاستقامة. ولذا؛ صار هؤلاء المتصوفة محلّ تندُّر عند الظَّلَمة المستبدين، فضلاً عن غيرهم. وهاك مثالاً سطّره ابن الجوزي في هذا الصدد، إذ يقول: "ولقد بلَغَنا أن بعض الصوفية دخل على بعض الأمراء الظلمة، فوعظه، فأعطاه ألف درهم، فقبِلها، فقال ذاك الظالم: كلنا صيّادون ولكن الشباك تختلف" (تلبيس إبليس، ص 207، والمنتظم لابن الجوزي، 14/ 12، 13). وصدق الظالم!

وقد قيل لصوفي آخر: تبيع جُبّتك الصوف؟ قال: إذا باع الصيّاد شبكته؛ بأي شيء يصطاد؟! (انظر: تلبيس إبليس، ص 222) فتماثلتْ مقالة الصوفي ومقولة الظالم، كما تشابهت قلوبهم.

وقد تحدَّث الشيخ محمد الغزالي عن ذاك الداء الذي فتَكَ بنفر من المنتسبين للدعوة في هذا العصر، وسطّر عبارات لاذعة تليق بهذا الصنف، فقال: "ومن صِدْق الداعية مع ربّه -في أخذ نفسه ابتداء بكل إصلاح- أن يكون مدى ما يصيب من توفيق في عمله مع الناس.
ومن أعجب النقائض في دين الله ودنيا الناس، أن هناك نفراً ممن يتسمَّوْن بالدعاة يحسبون أن ما يقولون لغيرهم من عِلْم إنما هو أمر يخص المخاطَبين فحسب! إنهم نَقَلة فحسب، إنهم (أشرطة مسجلة) تدور بعض الوقت ليستمع الناس إليها وهي تهرف بما لا تعرف. والدعاة الذين يَحْيَوْن على ذلك النحو المتناقض هم آفة الإيمان، وسَقام الحياة، ذلك أنهم تكذيب عملي للكلام الذي يلقون، والمبدأ الذي إليه ينتمون. أي أنهم عُذْر قائم بين يدي كل مقصر، وإياس من الصلاح أمام بغاته من السامعين والمطّلعين. وكثير من هؤلاء المنتسبين إلى الدين بألسنتهم، الخارجين عليه بأعمالهم؛ من يُلوِّن الدين برغبته، ويمزُج تعاليمه بشهوته، فهو -أولاً- يتعرف ما يشتهي، فاذا حدّده ألبسه ثوب الدين، وربما أقنع نفسه بأن شهوته هذه حق محض، ثم سعى إلى بلوغها، وكأنما هو يؤدي عبادة ولا يشبع نهمة!
إن الرجل القذِر البَدَن لا يغني عنه أن يحمل بين يديه قِطَع الصابون. ودعاة الدين الذين تهُبّ من سيرتهم سموم حارقة، إنما هم عار على الدين وصدٌّ عن سبيله.
والمراد من الدعاة المسلمين أن يتحسسوا أنفسهم، وأن يداووا ما قد يكون بها من عِلل، تلك العلل التي تشيع بين من لم يُرزقوا العصمة، والتي يستحيل أن نخلو منها يوماً.." (كتاب (مع الله)، ص 182 - 184، باختصار).

إنّ أخْذَ الدين بقوة عِلماً وعملاً، والقيام بدين الله تعالى كله؛ لَهو الغذاء والدواء تجاه هذه البلية، وقد ورد في الأثر: "إنه لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من جميع جوانبه" (قال ابن كثير في البداية [3/142]: "أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، والحاكم، والبيهقي")، كما أن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم كفيل برفع هذا الداء ودفعه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:12]، إضافة إلى أن النظر في سير السلف الصالح (العالمين العاملين) باعث على سلوك سبيلهم ومدافعة تلك الآفة.

"قيل لعبد الواحد صاحب الحسن البصري: أي شيء بلغ الحسن فيكم إلى ما بلغ، وكان فيكم علماء وفقهاء؟ فقال: كان الحسن إذا أَمَر بشيء أعملَ الناس به، وإذا نهى عن شيء أتركَ الناس له" (أخبار الحسن البصري، لابن الجوزي، ص 28).

"وكان يحضر حلقة الإمام أحمد بن حنبل خمسة آلاف، منهم خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حُسْن الأدب والسّمْت" (سير أعلام النبلاء، [11/316]).

"وقال بعض تلاميذ عبد الوهاب الأنماطي عنه: استفدت من بكائه أكثر من روايته" (ذيل طبقات الحنابلة، [1/202]).

وما قد يقترفه بعض المنتسبين للعلم لا يعدّ مذهباً لهم -فضلاً عـن أن يُستدل به؛ فالعبرة باتباع نصوص الوحيين- إذ قد يكون فَعَلَه ناسياً أو ذاهلاً أو متأولاً، أو ذنباً يستغفر الله منه، كما بينه ابن القيم في إعلام الموقعين [3/ 196].

{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} [الممتحنة:5].

 

عبد العزيز العبد اللطيف

  • 2
  • 0
  • 8,015

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً