خيبة العمر

منذ 2014-08-23

كان الفزع والقلق هو القابض على القلوب، أيقن أن الأمر مقبل على فاجعة، لما رأى مضيفة الطائرة، قد ارتدت ثيابًا طويلة، وغطت شعرها بمنديل، وكفت عن توزيع الابتسامات والضحكات على الركاب، وكسا وجهها العبوس، أما المضيف الآخر فأمسك مصحفًا وجعل يرتل القرآن الكريم، وتبعه كثير من الركاب، وانشغل آخرون بالدعاء والاستغاثة بالله تعالى..


طفق يروح ويجيء في حجرته كأنه في انتظار مولود يوشك أن يخرج توًّا إلى الحياة، جعل ينظر إلى الهاتف في قلق وقلبه يدق بقوة، إما أن تكون صفقة العمر أو خيبة العمر، إما أن يصبح مليونيرًا أو يعيش إلى نهاية عمره مطاردًا في بلاد الغربة يبحث عن مأوى وما يسدّ رمقه، هي لحظات فارقة تكشف لثامَها دقة هاتف.

في الماضي القريب ومنذ سنوات قليلة كان يعيش حياة مستقرة، كان الولد المدلل والوحيد، ورث عن أبيه معرضًا للسيارات، وتزوّج جارته الجميلة التي أحبها من أعماق قلبه، وأنجبت له ثلاث لآلئ ملكوا شغاف قلبه، لكن البحر لا يبقى هادئًا أبدًا، فقد تعرّف عليه شلة من أصدقاء النقمة، وكانت السهرات والرحلات البريئة وغير البريئة معهم. 

أدار ظهره لعمله، وتسرب جُلّ ماله، إلى أن أفلس وباع معرض السيارات، لم يقف معه أو يُقِل عثرته أيٌّ من أصدقاء ورفاق الرحلات، بل أسلموه لقضائه، وتلقّى الطعنة من أقرب الناس إليه زوجته وأم أحبابه، لم تصبر وأبت الوقوف معه في محنته، ذهبت إلى بيت أبيها ومعها بنوه، طلبت الطلاق، وحصلت عليه رغمًا عنه، قالت له في المحكمة أمام القاضي والحضور: "إنك قامرت بمستقبل زوجتك وبنيك بكل رعونة واستهتار، فلا يحق لك أن تطلب ولا تستحق أن يكون لك زوجة ولا أبناء". حرمتهُ من رؤية بنيه، قالت: "إنه ليس بالقدوة الصالحة التي يتعلم منها الأبناء شيئًا ينفعهم". 

عزم على أن يُثبت للجميع أن زوجته وأصدقاءه كانوا مخطئين فيما فعلوه معه، قرَّرَ أن يثبت لهم ذلك بأي ثمن مهما كان باهظًا، يومها سيعضون أصابع الندم على ما جنت أيديهم، والآن وعندما يدق الهاتف لينبئني بوصول عشرين مليون دولارًا إلى حسابي في بنوك سويسرا، ساعتها سأولد من جديد، وتستأنف الساعة دورانها من جديد، بعد أن توقفت طويلاً عند ساعة الفقر والذل.

وتزاحمت الأماني والخواطر عما سيصنع المليونير بتلك الثروة الضخمة، ودق الهاتف بعد عذاب انتظار، ودقَّ قلبه واضطرب كطير ذبيح، تجمّد في مكانه، تنازَعَه الأمل والخوف، البشري والفاجعة، كانت أصعب رفعة سماعة هاتف في حياته، كان كبطل أوليمبي يهم بجولة رفع أثقال أخيرة يغامر عليها بمستقبله الرياضي، رفع السماعة بسرعة، وأغمض عينيه، قال: "نعم هو أنا" وأصغى السمع لبضع كلمات، ووضع السماعة جانبًا وصرخ صرخة مدوية: "الآن أصبحت مليونيرًا".

تمدد على سجادة الغرفة، ومد رجليه، وضحك دون وعي، قام وضغط على الجرس، وحضر عامل الفندق الفرنسي، صافحه بحرارة واحتضنه بقوة، وأعطاه ألف فرانك في يده، ألجمت العامل الدهشة للحظات، ثم رد الألف فرانك في أدب، لكنه أخذها مع إصرار النزيل، كان يريد أن يعبر عن فرحه أمام أي أحد، فلم يجد إلاّ عامل الفندق!

قام حتى الصباح ولم ينم، كانت ليلته خليطًا من الأحلام والتفكير وأرق السعادة التي تمنع النوم، وفي الصباح عزم على أن يسحب مليون دولار من رصيده، ثم يعود إلى بلاده على أول طائرة، حُق له أن يعود لينتقم ويُذهب غيظ قلبه، حار بمن يبدأ سلسلة الانتقام: بالزوجة الخائنة أم بالأصدقاء الأوغاد! 

ولن ينسى بالطبع الشامتين بفقره وضياعه، كل هؤلاء لن يُحرموا نصيبهم من العقاب، المليون دولار كلها مخصصة للانتقام، سيأخذ أولاده بطريقة أو بأخرى، ويترك الخائنة أمهم ?أشهُرَ طويلةً لا تدري أين هم، حتى يحترق قلبها كمدًا عليهم، كما حُرِقَ قلبه، ثم بعد.. لا بد أن تموت قتيلة أو محروقة في حادث مرير، والمال يصنع العجائب، أما أصدقاء النِّقمة أعداء الأزمة، فسأحاربهم في أرزاقهم بكل مال وجهد، إلى أن يمسوا شحاذين لا يملكون قوت يومهم، فإذا أتَوْا إليّ يستعطفونني، سأعتذر، سأطردهم من أمامي طرد الكلاب.

صعد إلى الطائرة، وجلس في مقعده، وحلّقت الطائرة في السماء، وما لبث قليلًا حتى نام في مقعده تراوده أحلام الانتقام، واستيقظ على هزة عنيفة، ولم ينتظر طويلاً، فقد خرجت عليهم مضيفة الطائرة بعيون زائغة وكلمات مرتعشة، تطلب منهم ربط الأحزمة؛ لأن عطلًا طارئًا أصاب الطائرة، وأنها ستهبط اضطراريًا في أقرب مطار، عرف بعد قليل أن محركيْنِ من محركات الطائرة أصابهما خلل ما، كما أن هناك عطلًا في مجموعة العجلات، صاح راكب من المقاعد الخلفية ساخرًا: "مرْحبًا بطائرات العالم الثالث!". 

لم يكن أحد يملك التجاوب معه، فقد كان الفزع والقلق هو القابض على القلوب، أيقن أن الأمر مقبل على فاجعة، لما رأى مضيفة الطائرة، قد ارتدت ثيابًا طويلة، وغطت شعرها بمنديل، وكفت عن توزيع الابتسامات والضحكات على الركاب، وكسا وجهها العبوس.

أما المضيف الآخر فأمسك مصحفًا وجعل يرتل القرآن الكريم، وتبعه كثير من الركاب، وانشغل آخرون بالدعاء والاستغاثة بالله تعالى، نظر إلى المقعد المجاور فوجد صاحبه مستغرقًا بالدعاء وعيناه تهطلان بالدموع، ربت على كتفه، وقال: "لا تخف ستنجو"، فرد عليه: "أنا لا أبكي فزعاً من الموت بل لشيء ما في حياتي؟" فقال له: "لا عليك"، فقال: "كلا يا أخي، فقد كنت طبيبًا مشهورًا، لكنني منذ سنوات قتلت مريضًا لي بكل إهمال ورعونة، أثناء عملية جراحية، لم أبذل كل جهدٍ لديّ وعناية، فكيف إذا سُئلت عن ذلك؟"، فقال له:" لكنك..."، فقال الطبيب: "استغفر لذنبك، الوقت أثمن من ملئه بفضول الكلام".

أدرك أن الموت قادم لا مفر، شيء لم يفكر فيه أبدًا، ضحك بكل جنون ثم غلبه البكاء، بعد كل هذه التضحية بكل خُلُق وقيَم، ثم يموت دون أن ينال أي غرض من أغراضه.. 

لا هو تمتع بما جمع من ثروة حرام، ولا شفى صدره بالانتقام، ثمن باهظ دفعه ولكن حُرِمَ قَدَرًا من أن يأخذ أدنى مقابل، ثمن فادح أن يتحول من رجل أعمال محترم، إلى مُهرِّبِ مخدرات، وها هو الموت يلقاه فجأة، يقضي على كل أحلامه وأمانيه، ويخطف روحه، إذ لم يكن تهريب أطنان المخدرات صفقة العمر، بل هي بكل حق خيبة العمر، صفقة خسر فيها دنياه، وربما آخرته، كان الأفق أمامه حالك الظلمة وسيطر عليه الإحباط والقنوط، فلم يبحث عن شعاع نور، كان ينبغي أن يتعلق به في تلك الساعة الفاعلة، لكنه سكت في ذهول، والطائرة في طريقها إلى هبوط اضطراري.


 أبو بكر عثمان

  • 5
  • 0
  • 3,979

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً