أوراق في السيرة و الأخلاق - جبريون وربِ الكعبة!

منذ 2014-09-02

هذا الإحياء للجبرية المقيتة، والخلط الزائف بين القدر وتبعات الحرية الإنسانية في التصرف والفعل، يفرض اليوم مراجعة حثيثة لسلوك المسلم المعاصر كي يُحدد منشأ هذا الوهم وأسبابه، ويبذل الفقهاء والدعاة وسعهم للتحذير من مزالقه وتبعاته على العقيدة والسلوك، وإذا كان السلف قد بذل جهدًا محمودًا في رد هذه الفرية التي سيج بها الأمويون حكمهم، وبرروا جورهم، فلا محيد اليوم عن جهد مثيل أو مضاعف لتنقية الفكرة الإسلامية مما لحقها من سوء فهم.

لا يكاد يخلو التداول اليومي بشأن الهموم والمشاكل والبلايا من إساءة للقضاء والقدر، كركن من أركان الإيمان، وجزء حيوي من عقيدة المسلم، وقلما يفطن شاك ومتبرم من علة أو بلوى أنه يهدم ركنًا جليلاً من عقيدته حين ينسب ما ألم به لقدر الله السابق، وما كتبه على الخلائق قبل الخلق، نافيًا مسؤوليته عن صدور الخطأ من جهته، وتحمله وزر ما اقترفت يداه!

هذا الإحياء للجبرية المقيتة، والخلط الزائف بين القدر وتبعات الحرية الإنسانية في التصرف والفعل، يفرض اليوم مراجعة حثيثة لسلوك المسلم المعاصر كي يُحدد منشأ هذا الوهم وأسبابه، ويبذل الفقهاء والدعاة وسعهم للتحذير من مزالقه وتبعاته على العقيدة والسلوك، وإذا كان السلف قد بذل جهدًا محمودًا في رد هذه الفرية التي سيج بها الأمويون حكمهم، وبرروا جورهم، فلا محيد اليوم عن جهد مثيل أو مضاعف لتنقية الفكرة الإسلامية مما لحقها من سوء فهم.

روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاء سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خُلقنا الآن، ففيم العمل اليوم؟ أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم في ما يُستقبل؟ قال: «لا، بل في ما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير»، قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر»"، هذا الهدي النبوي يرشد الأمة إلى سبب من أهم أسباب تحصيل السعادة وهو: التحرر من وهم التعارض بين وجوب الإيمان بالقدر مع الإتيان بالأسباب التي توصل المسلم إلى الخيرات، وتُجنبه الشرور..

وهذا من أعظم ما تعلمته الأمة وتميزت به، فبإقرار الأمرين معاً يقول الأستاذ محمد قطب: "يتوازن القلب في مسيرته على هذه الأرض، فلا يزايله الإحساس الدائم بقدر الله والتطلع إليه في الكبيرة والصغيرة، ولا يزايله كذلك مراقبته لأعمال نفسه ووزنها بميزان الخطأ والصواب" (مفاهيم ينبغي أن تصحح:1994، ص261). وقد ساعدت بعض أحداث السيرة النبوية ووقائعها على إنضاج هذا التوازن في نفوس الجماعة المسلمة، حتى يستقر في وعي المسلم أن إيمانه بالقضاء والقدرلا ينفي مسؤوليته عن الخطأ والتقصير.

كان درس أُحد مؤلمًا حين خالف الرماة الأمر النبوي بلزوم مواقعهم، وشغلهم حظهم من الغنائم عن تبين حيوية موقعهم في إدارة المعركة، فانقلبت الموازين وحدث الاضطراب في صفوف الجيش، ولما تردد على الألسنة سؤال: "أنى هذا؟" جاء الرد الإلهي حاسمًا: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ..} [آل عمران:165-167]، صحيح أنه بإذن الله، لكن أقداره لا تحابي المقصر والمخطيء، لأن له سبحانه سننًا جارية في الكون تُلزم الأخذ بالأسباب المؤدية إلى النتائج.

وحين تجلى في حنين اعتداد مفرط بالأسباب، وترددت في الصفوف مقالة: "لن نُغلب اليوم من قلة"، بوغت المسلمون بخطة مالك بن عوف زعيم هوازن، فاضطرب الصف قبل أن يستعيد الرسول صلى الله عليه وسلم زمام المبادرة لترجح كفة المسلمين، ونزلت الآيات محذرة من الفصل بين الأسباب وموجبات التوفيق الإلهي: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة.25].

استقر في النفوس هذا التوازن فتحقق الإيمان على بصيرة، ولم يعد قدر الله السابق حائلاً دون التطلع إلى قدر جديد، كما عبر عن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طاعون عمواس، حين رد على أبي عبيدة قائلاً: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"! أما اليوم فإن لوثة الإفرنج سرت في الفكر والوجدان والسلوك، واجتهدت في نقض أسس العقيدة الصلبة هدمًا وتشكيكًا، حتى علا في الأمة صوت من يدعو للتخلص منها إسوة بالغرب الذي نبذ الخرافات والأساطير، وأعاد النظر في صلته بالسماء!

تشرب العقل المسلم عبر التربية الحديثة والثقافة والإعلام مقولات التحدي والصراع، التي ورثها الغرب عن الفكر اليوناني الغابر، وضجت مئات، بل آلاف رسوم الأطفال والأعمال التلفزية والسينمائية برسائل تمتدح دون مواربة نموذج الإنسان الفائق الذي يتحدى الأقدار، وينازع الإله سلطته في تدبير الخلق والأمر..

وكان لهذه المقولات -المشفرة حينًا والصريحة أحيانًا كثيرة- آثارها على تفاعل المسلم مع صور البلاء وتبرير تواكله السلبي، لن يتسع المجال هنا لعرض آليات التضليل والخداع التي ينهض عليها الخطاب الإعلامي المعاصر، وما يخلفه التوظيف الخبيث لتنقيات التواصل من تلاعب بالعقول، لكننا سنكتفي بتناول نماذج للرسائل المشفرة التي تهدم عقيدة القضاء والقدر وتشوه حقيقتها في وعي الصغار والكبار على السواء.

لا تزال رسائل العنف وصوره هي الأكثر استحواذًا على مضامين رسوم الأطفال المتحركة، وألعاب الفيديو، رغم الكم الهائل من الدراسات والأبحاث التي رصدت مخاطره وحذرت من تبعاته على سلوك الطفل وعلاقاته الاجتماعية، ولعل من أخطر هذه الصورعلى البناء العقدي للطفل تلك التي حررت صراع الخير والشر من امتداده الأفقي -حيوانات مخيفة، عصابات، إنسان آلي..- لتجعله صراعًا عموديًا مع القوى الكونية التي تستوطن السماء، ومواجهة بين بطل أرضي تتوفر لديه كل مقومات الجرأة والقوة والمغامرة، وبين شرور وأخطار قادمة من الفضاء..

هذه المشاهد التي تبدو للراشد تسلية من وحي الخيال، هي في نظر الصغير وقائع تتكدس ببطء في مخيلته، وتتلاعب بإدراكاته الحسية لتعيد صياغة تصوره وموقفه من السماء، -أو بشكل أكثر تحديدًا وإن بدا مراوغًا-: من الله!

إن أخطر ما في هذه الرسائل على المستوى العقدي هو ربط الوجود الإنساني بالتحدي المستمر لقوة مجهولة تصر على الحؤول دون توسيع هامش حريته وانفراده بتقرير مصيره وتحديد معالم مستقبله، وبالتالي يصبح الشر جولة خسرها البطل، والخير ضربة قاضية أنهى بها النزال، ويزداد الأمر سوءًا حين تنكشف عيوبنا التربوية في بسط وتقريب الحقائق الدينية للصغار!

أما على مستوى الراشدين فإن كثيرًا من المنتجات الدرامية تراهن بدورها من خلال الأساطير والخيال الجامح على زعزعة الثقة في القضاء والقدر، وتصنيفه ضمن عوائق الفكر والإرادة خاصة في الجماعات الإنسانية المهمشة، وتدفع حتى بعض البرامج التلفزية في هذا الاتجاه، خاصة تلك التي تعنى بقضايا الجريمة والبؤس الاجتماعي، إذ لا تخلو الرسائل المبطنة من تكريس للجبرية في تبرير الفساد والظلم والتفاوت الفلكي بين فئات المجتمع، وعلى إيقاع معزوفة حزينة يُروج للتعايش مع الواقع المر والقبول بصور البر والإحسان كحل وحيد، في تنصل واضح من تحميل المسؤولية لحراس الأوضاع الهشة والمائلة..

أما حين يُفتح ملف الإجرام على مصراعيه، فإننا نتابع بحسرة كيف تتم الاستعانة بتوليفات من علم النفس والاجتماع للتخفيف من وقع الجريمة، وترويض المجتمع للقبول بالوضع الشاذ والتطبيع مع انحرافات خلقية تغذي العنف، فلا يملك المشاهد أو القارىء سوى التعاطف مع مجرم هو بدوره ضحية لإله الشرالذي يملك زمامه، تمامًا كما يحدث لعرائس الدمى حين يشد اللاعب الخيط!

يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه (المحاور الخمسة للقرآن الكريم): "كل ميل بعقيدة القدر إلى الجبر تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية، ومن أثرها في حاضرالمرء ومستقبله، وكأنهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه، ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم، إن هذا الكلام الرديء، ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا، ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا، إنه تخليط جنينا منه المر!". 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 2
  • 5
  • 4,576
المقال السابق
التبسم.. زاد دعوي
المقال التالي
سيرة أم مسيرة؟

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً