تدبر - (383) سورة الأحقاف (3)

منذ 2014-09-06

إنما يُعبد الله بالذي يرتضيه في الحال الذي يكون عليه الإنسان، والمقام الذي أقيم فيه، فإذا كان الوقت وقت جهاد وفداء، كان الأحب والأرضى لله أن يجاهد وليه، وإذا كان الوقت وقت بر وإحسان لم يقدم على ذلك تنفل وانقطاع للتنسك، وإن كان الوقت وقت أداء أمانة وعمل لم يدر ظهره لذلك، ولم يضيع أمانته بمستحبات أو مفضولات..

{...وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ...} [الأحقاف:15].
إذاً فقضية التعبد ليست فقط فيما يرضي المرء، ليست فيما تتلذذ به نفسه، وتميل إليه جوارحه، ويستمتع به فؤاده، القضية قضية استرضاء، العبادة إنما هي استرضاء لله جل وعلا، وعمل بما يحب، وليست بتقديم ما تحب نفسي على ما يحب ربي، حتى لو كان ما أحبه عبادة أيضًا..

إنما يُعبد الله بالذي يرتضيه في الحال الذي يكون عليه الإنسان، والمقام الذي أقيم فيه، فإذا كان الوقت وقت جهاد وفداء، كان الأحب والأرضى لله أن يجاهد وليه، وإذا كان الوقت وقت بر وإحسان لم يقدم على ذلك تنفل وانقطاع للتنسك، وإن كان الوقت وقت أداء أمانة وعمل لم يدر ظهره لذلك، ولم يضيع أمانته بمستحبات أو مفضولات..

وإن كانت أيام فضل، وأوقات ذكر، ولحظات مضاعفة، عُني بتحصيل الأجر وتبييض الصحائف، وهكذا حال العابد يستغرق في عبادة الوقت مؤثرًا مرضاة ومحبة مولاه، وإن التلذذ بالطاعة، والاستمتاع بالعبادة، والبكاء من خشية الله، ومشاعر السمو الروحي، وأحاسيس العلو في سماوات التذلل والتقلب في درجات الخشوع والإخبات، هي بلا شك من فتوحات العبودية، وبركات القنوت، وفيوضات الركوع والسجود، لكن النية الأعظم، والمقصد الأسمى للعبادة و العمل الصالح إرضاؤه.. (إرضاء الله).

أن يرضى وأن يغفر، هذه هي حقيقة الفوز، سواء أجاء الاستمتاع وحضرت اللذة في ذلك العمل، أو كان عملاً لم يجد فيه العبد ذلك؛ ولكن صح الدليل أنه أفضل أو أولى في هذا الوقت وذاك المقام، وهذا معيار صدق نفيس يتجلى ظاهرًا في قوله تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}، إذاً فالعبرة في رضاه هو، المهم أن يرضى، حتى لو لم تستمتع، حتى لو لم تجد قلبك..

الرجل الذي كان يحمل أمه قديمًا ويطوف بها، ربما لم يكن مستمتعًا بهذا الجهد المضني، لكنه فعله لأنه الأرضى لله جل وعلا، ولو نظرت فيما روي من حال عابد آخر، وهو أويس القرني رحمه الله، لوجدت نموذجًا بديعًا لتفضيل رضا الله على ميل النفس..

فالرجل أسلم وعاصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستطيع اللحاق بالحبيب والتنعم بصحبته، وقد يكون هذا أمتع للمحب من المكث بجوار أمه يخدمها، ولو وضعت أيها المحب نفسك مكانه، لوجدت رغبة عارمة في اللحاق بحبيبك في مدينته..

لكن المعيار لدى أويس كان (رضا الله)، والتقديم كان لمراد مولاه، والتفضيل كان للأحب لسيده والأجلب لرضاه، وقد كان ها هنا بره بأم ليس لها غيره، فاختار ذلك، فهل ضره هذا؟! أبدًا، لقد زكاه الحبيب، ولقبه بخير التابعين، وإن لم ينل شرف الصحبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر من نال ذلك الشرف -الصحبة أعني- أن يسأل هذا الذي لم ينلها أن يستغفر له..

تخيل تابعي يستغفر لصحابي، وأي صحابي؛ إنه الفاروق عمر! ولقد حفظها الفاروق وانتظرها وطلبها، دعوة بالمغفرة، يطلبها فاروق الأمة، وخليفة خليفة رسولها، من رجل بسيط، لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فأي شرف هذا وأي فضل؟! إنه فضل الاسترضاء وأنعم به من فضل، ذلك الذي ناله هذا المسترضي اختار رضا الله، وآثر مراده على مراد نفسه، وهذا ما تشد له الرحال، وتنفق فيه الأعمار قبل الأموال، إرضاء الله حيث أراد، وكيف أراد..

وإن هذا القرآن كتاب باعث على الحركة..
إنه كتاب يبث في قلب من يستمع إليه ويعيه طاقة هائلة سرعان ما تترجم إلى قول وعمل وحركة دؤوب، كان هذا ما حدث للجن حين استمعوا القرآن، لقد لفتت روعته انتباههم وسيطرت عظمة معانيه على كيانهم فقالوا: {...أَنصِتُوا...} [الأحقاف:29]، ثم كان أول رد فعل لهم حين قُضِيَ أن تحركوا، لقد سارعوا إلى قومهم منذرين: {...فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين} [الأحقاف:29].

لقد شعروا أن عليهم واجبًا تجاه الحق، ومسؤولية تجاه قومهم فهرعوا إلى البلاغ، ولقد خرجت منهم كلمات دعوية بديعة تحمل حرصًا على قومهم ورغبة صادقة في هدايتهم، خرجت منهم كلمات حوت ترغيبًا وترهيبًا وإقناعًا وتذكيرًا: {...يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَن لّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِين} [الأحقاف:31-32].

من أين أتوا بكل تلك المعاني؟
من أين جاءوا بكل هذه الحماسة؟
من أين حل عليهم ذاك الإصرار؟

إنه القرآن وإنها تلك الطاقة الروحية الهائلة التي يبثها، والتي ينبغي أن تتحول لرغبة صادقة وحرص حقيقي، رغبة في هداية الخلق وحرص على بلاغ الحق، وذلك من أعظم آثار القرآن فتأمل.. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 3
  • 0
  • 4,184
المقال السابق
تدبر - [359] سورة غافر (8)
المقال التالي
(384) سورة الأحقاف (4)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً