بداية زائغة.. فنهاية منحرفة

منذ 2014-09-07

أساسُ كلِ بناءٍ متينٍ هو إحسانُ البداياتِ على الأسسِ السليمةِ، والانحراف أو الميل أو الزيغ في البدايات لا شك أنه سيثمر ضلالًا في النهايات وربما لا يمكن تقويم هذا الانحراف الخطير إلا بالهدم وإعادة البناء من جديد.

أساسُ كلِ بناءٍ متينٍ هو إحسانُ البداياتِ على الأسسِ السليمةِ، والانحراف أو الميل أو الزيغ في البدايات لا شك أنه سيثمر ضلالًا في النهايات وربما لا يمكن تقويم هذا الانحراف الخطير إلا بالهدم وإعادة البناء من جديد. ويتفاوت مقدار الميل في البداية عن مقداره كانحراف وزيغ في النهايات، فالميل البسيط مهما كانت درجة قلته في البدايات ينتج انحرافًا شديدًا في النهايات تهدد كل كيان أُصيب به بالفساد أو البطلان، وكما يفسد به الكيان تفسد نواتجه لفساد أصله، فلا ينتج منه ولا يخرج من خلفه إلا نماذج أكثر منه تشوهًا لتستمر سلسلة الأخطاء التي تتوالى في إنتاجها السيء.

ومثلما ينطبق هذا على كل بناء مادي ينطبق تمامًا وبصورة أشد على البناء العقدي والتربوي والنفسي للمسلم، وعليه فكل مربٍ وكل أب وكل مسؤول مُطالَب بأن يدقق جدًا في بدايات من معه حتى تستقيم حياتهم وتصلح خاتمتهم. فهكذا النفوس البشرية في سيرها إلى الله سبحانه لا بد لها من ضبط بوصلة صحيحة لوضعها على المسار الصحيح بدقة وعناية وخاصة في بداياتها، وكل خطأ أو انحراف بسيط في أول سيرها إلى الله سينتج عنه خلل ضخم في النهاية.

وإذا تأملنا بنظرة فاحصة لانحرافات الفرق التي خرجت عن أهل السنة والجماعة نجدها تتشابه في نقطة فاصلة وهي وجود انحراف في مفاهيم وأفكار ورؤى لحظات البداية لمؤسسيها، فما بين إفراط أو تفريط، أو غلو أو تهاون تكمن وتختبئ علامات المخاض للفرقة المنحرفة. ولهذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم غاية الاهتمام ببذور أي انحراف ظهر في تربيته لأصحابه حتى يضمن لهم نقاء البدايات، فواجهه بحسم كل حدث يمكن أن يؤدي بعد ذلك إلى فرقة مادية أو معنوية. فقاوم النبي صلى الله عليه وسلم فكرة سيطرة العصبية القبلية التي ورثها العرب حيث كان قائلهم يقول: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" دون نظر أو اعتبار لقيمتي الحق والعدل حيث كانوا:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانًا

فهذّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المصطلح النفسي فلم يقاومه ولكنه قَوّمه، فأخرج البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه وغيرهم ولفظه في البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، فقال رجل: يا رسول الله صلى أنصره إذ كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم».

وفي اليوم الذي وقعت فيه بذرة خلاف بين الصحابة فتنادت لديهم فكرة النعرة القومية والعداءات العنصرية واجهها بكل حسم وقوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن جابر بن عبد الله قال: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، قال: فجاء قوم ذا، وقوم ذا، فقال هؤلاء: يا للمهاجرين! وقال هؤلاء: يا للأنصار، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوها فإنها منتنة»، ثم قال: «ألا ما بال دعوى الجاهلية؟ ألا ما بال دعوى الجاهلية؟» (مسلم:2584)، فكان وصفها بالجاهلية كفيلًا بإعادتهم إلى رشدهم ووأد هذا الباب العظيم من الفتنة الذي نعلم جميعًا كم جَرّ على الأمةِ مِن الويلات.

وفي مجال التفاعلات الاجتماعية الحياتية اليومية وقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفًا حاسمًا في إعادة المعايير الصحيحة التي ينبغي أن يقيم على أساسها المسلم، فحارب ظهور الطبقية الاجتماعية ووأد فتنتها، فعن المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بِالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» (البخاري:30).

وفي مجال الانحراف الفكري حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على ضمان صفاء مصدر التلقي عند الصحابة، فلم يسمح بدخول مصدر من المصادر الغريبة على تكوينهم العقائدي والفكري في البدايات حتى لا يعكر صفو مصدرهم النقي وليبقى مشربهم نظيفًا ونقيًا، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: «أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي» (رواه أحمد والبيهقي في كتاب شعب الإيمان، وهو حديث حسن). وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب ألم آت بها بيضاء نقية، لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي».

ولا يُفهم من ذلك تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم التربية الفكرية المنغلقة لأصحابه، بل على العكس تمامًا، فبعد ضمان نقاء البدايات نجد النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أحد صحابته بتعلم لغة اليهود، ولو كان هناك قلق من الناحية الفكرية من تعلم لغة غير المسلمين لمنعهم من ذلك، ففي سنن أبي داود: قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: «إني والله ما آمن يهود على كتابي»، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته"، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليهم، وقال ابن حجر في الفتح: "ويمكن حمله على تعلم لغتهم قراءة وكتابة، لأنه كان يقرأ له كتبهم ويكتب له إذا أراد الكتابة إليهم"، ويدل لهذا تبويب الترمذي لهذا الحديث بقوله: باب ما جاء في تعليم السريانية وذكر فيه رواية أخري يقول فيها زيد: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم السريانية"، فما كان إذنه صلى الله عليه وسلم في تعلم لغتهم إلا بعد ضمان نقاء وصفاء البدايات حتى لا يختلط المعين الصافي بغيره.

وفي مجال الانحراف والغلو في العبادات واجه النبي صلى الله عليه وسلم بذرة غلو ناشئة صدرت من ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (متفق عليه واللفظ للبخاري). وفي رواية مسلم: فحمد الله وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

وكما حارب النبي صلى الله عليه وسلم الغلو والتشدد والإفراط حارب التساهل والتفريط، فكلاهما جنوح وكلاهما واجب التقويم، ولا نجاة لمجتمع بتقويم جانب والوقوف ضده وترك الحبل على الغارب للآخر، ففي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء».

وفي مجال التفرق والتحزب باسم الدين واتخاذ وسائل العبادة لتفرقة جماعة المسلمين من قبل المنافقين وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام ثلة من المنافقين اتخذوا مسجدًا للاجتماع فيه والكيد وتبييت المكر والدسائس لجماعة المسلمين، فنزلت الآيات الكريمات تمنع النبي من الصلاة فيه وتفضح فيه سرائرهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:107، 108]، فأمر النبي صلى الله وسلم بتحريق المبنى الذي كان يعد -ظاهرًا- مسجدًا للصلاة، وفي زاد المعاد قال ابن القيم في فوائد غزوة تبوك: "ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى اللهُ ورسوله فيها وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له".

وهكذا إذا نظرنا إلى كل انحراف في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والبحث في الأصل الفكري أو العلمي أو التربوي لكل فرقة ضلت عن الصراط المستقيم نجد أن لها نبتة بدأت بالظهور في حياة الجماعة المؤمنة في بدايتها، وفي نفس الوقت نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد واجهها بكل حسم وقوة، فقوم اعوجاجها ووضع الحلول السليمة الناجعة ونجده تنبه للخطر منها فوأد الفكرة قبل أن تولد وتستفحل، والأمر الأهم أنه ما انتظر حتى تظهر الفتنة ويعلو صوتها ويشتد عودها ثم ذهب ليقيمها بل كان مُنتبهًا ناصحًا لأمته صلى الله عليه وسلم فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة. وهكذا يجب أن يقتدي كل داعية عالم يتصدى لتعليم الناس ولدعوتهم إلى الله سبحانه، ويتأسى كل مرب تصدى لأمر التربية لعدد من الناس صغارًا أو كبارًا، ويتعامل كل أب وأم في بيوتهما، ويعي كل مسؤول وراع استرعاه الله أمر رعية صغيرة أم كبيرة، فالانتباه للفتنة وهي تطل برأسها لتجتث من أصولها أيسر بكثير من تركها حتى تنمو وتترعرع ويشتد عودها ثم بعد ذلك يطلب علاجها.

وإن كل مسؤول ممن سبق يترك رعيته دون أن ينتبه لما يحاك لهم أو مما يصدر عنهم حتى من الأخطاء التي لا يراها -بحسب قلة علمه ونقص درايته- بسيطة، فقد تحمل في طياتها بذرة خبيثة سرعان ما تلتهم كل ما زرعه في سنين وتفسد عليه كل عمله ويحتاج فيها التقويم إلى الهدم وإعادة البناء، فإن كان هذا متصورًا في حق المباني المادية فهو عسير جدًا في النفوس البشرية وهي أهم بكثير في الحفاظ على أمر الدين وعلى ثبات واستقرار المجتمعات المسلمة.

يحيى البوليني| 9/11/1435 هـ

  • 1
  • 0
  • 3,573

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً