الأحكام السلطانية للماوردي - (33) ولاية القضاء (4)

منذ 2014-09-10

وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ.

الباب السادس: في ولاية القضاء (4)

فَصْلٌ: "ولاية القاضي بين العموم والخصوص" 

وَلَا تَخْلُو وِلَايَةُ الْقَاضِي مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ:

أَحَدُهَا: فَصْلٌ فِي الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَيُرَاعَى فِيهِ الْجَوَازُ، أَوْ إجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُجُوبُ.

وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِمَّنْ مَطَلَ بِهَا، وَإِيصَالُهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إقْرَارٌ، أَوْ بَيِّنَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ حُكْمِهِ فِيهَا بِعِلْمِهِ؛ فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَصَحُّ قَوْلَيْهِ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعِلْمِهِ فِيمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَهَا[1].

وَالثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعَ التَّصَرُّفِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، وَتَصْحِيحًا لِأَحْكَامِ الْعُقُودِ فِيهَا. 

وَالرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الْأَوْقَاتِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَالْقَبْضِ عَلَيْهَا وَصَرْفِهَا فِي سَبِيلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ فِيهَا رَاعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْخَاصِّ فِيهَا إنْ عَمَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْعُمُومِ وَإِنْ خُصَّتْ.

وَالْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شُرُوطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَحْظُرْهُ، وَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيِّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا بِالْإِقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْصُوفِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا أَنْ يَتَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّوهَا بِالِاجْتِهَادِ وَيَمْلِكُوا بِالْإِقْبَاضِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَصِيٌّ رَاعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ.

وَالسَّادِسُ: تَزْوِيجُ الْأَيَامَى بِالْأَكْفَاءِ إذَا عَدِمْنَ الْأَوْلِيَاءَ وَدُعِينَ إلَى النِّكَاحِ، وَلَا يَجْعَلُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حُقُوقِ وِلَايَتِهِ؛ لِتَجْوِيزِهِ تُفْرَدُ الْأَيِّمُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ.

وَالسَّابِعُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ طَالِبٍ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَوْفِيهَا مَعًا إلَّا بِخَصْمٍ مَطَالِبِ.

وَالثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ مِنَ الْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ مُسْتَعْدٍ، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْتَعْدِي وَغَيْرُ الْمُسْتَعْدِي، فَكَانَ تَفَرُّدُ الْوِلَايَةِ بِهَا أَخَصَّ.

وَالتَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِيَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ فِي إقْرَارِهِمْ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِمْ، مَعَ ظُهُورِ السَّلَامَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَصَرْفِهِمْ، وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ مَعَ ظُهُورِ الْجُرْحِ وَالْخِيَانَةِ.
وَمَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ عَمَّا يُعَانِيهِ كَانَ مُوَلِّيهِ بِالْخِيَارِ مِنْ أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَكْفَى، وَإِمَّا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يَكُونُ اجْتِمَاعُهُ عَلَيْهِ أَنْفَذَ وَأَمْضَى.

وَالْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمَشْرُوفِ وَالشَّرِيفِ، وَلَا يَتَّبِعْ هَوَاهُ فِي تَقْصِيرِ الْمُحِقِّ أَوْ مُمَايَلَةِ مُبْطِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
وَقَدْ اسْتَوْفَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ شُرُوطَ الْقَضَاءِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ، فَقَالَ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ،
فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ. الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا؛ وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ، ثُمَّ اعْرِفِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، وَقِسْ الْأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا، وَاجْعَلْ لِمَنِ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلشَّكِّ وَأَجْلَى لِلْعَمَى، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنِ الْأَيْمَانِ وَدَرَأَ بِالْبَيِّنَاتِ. وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَفُّفَ بِالْخُصُومِ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ يُعَظِّمُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، وَالسَّلَامُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا الْعَهْدِ خَلَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: خُلُوُّهُ مِنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِلَايَةُ.
وَالثَّانِي: اعْتِبَارُهُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةَ الظَّاهِرِ وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَالَةُ الْبَاطِنِ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالْمَسْأَلَةِ.
قِيلَ: أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْلِيدَ تَقَدَّمَهُ لَفْظًا وَجُعِلَ الْعَهْدُ مَقْصُورًا عَلَى الْوِصَايَةِ وَالْأَحْكَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَلْفَاظَ الْعَهْدِ تَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ التَّقْلِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: "فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ"، وَكَقَوْلِهِ: "فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ"، فَصَارَ فَحْوَى هَذِهِ الْأَوَامِرِ مَعَ شَوَاهِدِ الْحَالِ مُغْنِيًا عَنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ.

وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةَ الظَّاهِرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ فَذَكَرَهُ إخْبَارًا عَنِ اعْتِقَادِهِ فِيهِ لَا أَمْرًا بِهِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالْمَسْأَلَةِ عُدُولٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ جُرْحٌ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَاضِي وَإِنْ عَمَّتْ وِلَايَتُهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ وُلَاةِ الْجُيُوشِ، فَأَمَّا أَمْوَالُ الصَّدَقَاتِ فَإِنِ اُخْتُصَّتْ بِنَاظِرٍ خَرَجَتْ عَنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وقد اختلف في ذلك قديمًا وحديثًا، وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات:
إحداها: وهي الرواية المشهورة عنه المنصورة عند أصحابه: إنَّه لا يحكم بعلمه لأجل التهمة. 
والثانية: يجوز له ذلك مطلقًا في الحدود وغيرها. 
والثالثة: يجوز إلّا في الحدود، ولا خلاف عنه أنَّه يبني على علمه في عدالة الشهود وجرحهم، ولا يجب عليه أن يسأل غيره عمَّا علمه من ذلك.
ولأصحاب الشافعي طريقان:
أحدهما: يقضي بعلمه قطعًا، والثاني: إنَّ المسألة على قولين أظهرهما أكثر الصحابة يقضي به.
قالوا: لأنه يقضي بشاهدين، وذلك يفيد ظنًّا، فالعلم أولى بالجواز، وأجابوا عمَّا احتج به المانعون من ذلك من التهمة أنَّ القاضي لو قال: ثبت عندي وصحَّ كذا وكذا، ألزم قبوله بلا خلاف، ولم يبحث عمَّا ثبت به وصحَّ، والتهمة قائمة.
ووجه هذا أنَّه لما ملك الإنشاء ملك الإخبار، ثم بنوا على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها وما علمه في غيرها.
قالوا: فإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم، أمَّا إذا شهد رجلان يعرف عدالتهما فله أن يقضي ويغنيه علمه بهما عن تزكيتهما، وفيه وجه ضعيف لا يغنيه ذلك عن تزكيتهما للتهمة.
قالوا: ولو أقرَّ بالمدَّعَى به في مجلس قضائه قضى وذلك قضاء بالإقرار لا يعلمه، وإن أقر عنده سرًّا فعلى القولين، وقيل: يقضي قطعًا، ولو شهد عنده واحد فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول المنع فيه وجهان، وهذا تحصيل مذهب الشافعي وأصحابه. 
وأمَّا مذهب مالك فإنه لا يقضي بعلمه في المدّعى به بحال سواء علمه قبل التولية أو بعدها في مجلس قضائه أو غيره، قبل الشروع في المحاكمة، أو بعد الشروع فهو أشد أذنًا في ذلك.
وقال عبد الملك وسحنون: يحكم بعلمه فيما علمه بعد الشروع في المحاكمة، قالوا: فإن حكم بعلمه حيث قلنا: لا يحكم، فقال أبو الحسن اللخمى: لا ينقض عند بعض أصحابنا، وعندي أنه ينقض.
قالوا: ولا خلاف في أنَّ ما رآه القاضي أو سمعه في مجلس قضائه أنه لا يحكم به، وأنه ينقض إن حكم به وينقضه هو وغيره، وإنما فيما يتقارر به الخصمان في مجلسه، فإن حكم به ينقضه هو، ولا ينقضه غيره.
قال اللخمي: وقد اختلف إذا أقرَّ بعد أن جلسا للخصومة ثم أنكر، فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه، وقال عبد الملك وسحنون: يحكم أنّ الخصمين إذا جلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه، ولذلك قصداه هذا تحصيل مذهب مالك.
وأمَّا مذهب أبي حنيفة فقالوا: إذا علم الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز له أن يقضي به؛ لأنَّ علمه كشهادة الشاهدين؛ بل أولى؛ لأنَّ اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة أو السماع، والحاصل بالشهادة غلبة الظن، وأما ما علمه قبل ولايته أو محل ولايته فلا يقضي به، ثم أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: يقضي به كما في حال ولايته ومحلها.
قال المنتصرون لقول أبي حنيفة: هو في مصره وغير ولايته شاهد لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما إذا علم بالبينة العادلة، ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها.
قالوا: وأمَّا في الحدود فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنه خصم فيها؛ ولأنه حق لله تعالى وهو نائبه، إلّا حدّ القذف فإنه يعمل بعلمه لما فيه من حق العبد، وإلّا في المسكر إذا وجد سكرانًا، أو من به أمارات السكر فإنه يعذر، هذا تحصيل مذهب أبي حنيفة.
أما أهل الظاهر: فقال أبو محمد بن حزم: وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء والأموال والقصاص والفروج والحدود، سواء أعلم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته. قال: وأقوى ما حكم بعلمه ثم بالإقرار ثم بالبينة. (الطرق الحكمية: ص[285287]).

الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 0
  • 4,104
المقال السابق
(32) ما تنعقد به ولاية القضاء" (3)
المقال التالي
(34) ولاية القضاء (5)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً