تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل
عبد العزيز بن باز
قد رأيت التنبيه على ما وقع فيها من أخطاء تأكيدًا لما ذكره الدكتور صالح ومشاركة في الخير ونشر الحق واستدراكًا لأخطاء لم يتعرض لها فضيلة الدكتور صالح في مقاليه المشار إليهما.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الأسماء والصفات -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اطلعت على المقابلة التي أجرتها مجلة (المجتمع) مع فضيلة الشيخ محمد علي الصابوني ونشرت في العدد [رقم 613] وتاريخ 7/ 6/ 1403هـ وعلى مقالاته الست المنشورة في أعداد المجتمع: [رقم 627] وتاريخ 17/ 9/ 1403 هـ، و [رقم 628] وتاريخ 24/ 9/ 1403هـ و [رقم 629] وتاريخ 9/ 10/ 1403 هـ، و [رقم 630] وتاريخ 16/ 10/ 1403هـ، و [رقم 631] وتاريخ 23/ 10/ 1403هـ، و [رقم 646] وتاريخ 17/2/ 1404هـ، وقد اشتملت على أخطاء نبه على بعضها صاحب الفضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان في مقاله المنشور بمجلة الدعوة في [عدد 15 رقم 904] وتاريخ 29/ 10/ 1403 هـ، وفي مجلة المجتمع بعددها [رقم 646] وتاريخ 17/ 2/ 1404هـ، و [650] في 24/ 2/ 1404هـ وقد أجاد وأفاد وأحسن جزاه الله خيرًا ونصر به الحق.
وقد رأيت التنبيه على ما وقع فيها من أخطاء تأكيدًا لما ذكره الدكتور صالح ومشاركة في الخير ونشر الحق واستدراكًا لأخطاء لم يتعرض لها فضيلة الدكتور صالح في مقاليه المشار إليهما، والله الموفق. فأقول:
تقليد الأئمة الأربعة:
[1]- قوله عن تقليد الأئمة الأربعة (إنه من أوجب الواجبات) لا شك أن هذا الإطلاق خطأ، إذ لا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسنة لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قصارى الأمر أن يكون التقليد سائغًا عند الضرورة لمن عرف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة، كما فصل ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين)، ولذلك كان الأئمة رحمهم الله لا يرضون أن يؤخذ من كلامهم إلا ما كان موافقًا للكتاب والسنة، قال الإمام مالك رحمه الله: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر"، يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال إخوانه من الأئمة في هذا المعنى.
فالذي يتمكن من الأخذ بالكتاب والسنة يتعين عليه ألا يقلد أحدًا من الناس ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسأل أهل العلم، كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
[2]- قال: "إذا كان ابن تيمية رحمه الله مع درجة علمه لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد وإنما مذهبه حنبلي يتقيد به في كثير من الأحيان".
الجواب: هذا القول فيه نظر بل هو خطأ ظاهر فإن شيخ الإسلام رحمه الله من أعلم المجتهدين وقد توافرت فيه شروط الاجتهاد، وانتسابه إلى المذهب الحنبلي لا يخرجه عن ذلك؛ لأن المقصود من ذلك موافقته لأحمد في أصول مذهبه وقواعده وليس المقصود من ذلك أنه يقلده فيما قاله بغير حجة، وإنما كان يختار من الأقوال أقربها إلى الدليل حسبما يظهر له رحمه الله.
مذهب الأشاعرة هل هو حق أم ضلال؟
[3]- ذكر أن الخلافات في العقيدة ضيقة وقال: "الذين يقولون بضلال مذهب الأشاعرة نقول لهم: ارجعوا إلى فتاوى ابن تيمية واقرءوا ماذا كتب ابن تيمية عن أبي الحسن الأشعري حتى نفهم أن هؤلاء جهلة" أ هـ.
والجواب أن يقال:
لا شك أنه ضل بسبب الخلاف في العقيدة فرق كثيرة كالمعتزلة والجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، وأيضًا الأشاعرة ضلوا فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة وما عليه خيار هذه الأمة من أئمة الهدى من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان والأئمة المهتدين فيما تأولوه من أسماء الله وصفاته على غير تأويله، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله ليس من الأشاعرة. وإن انتسبوا إليه؛ لكونه رجع عن مذهبهم واعتنق مذهب أهل السنة، فمدح الأئمة له ليس مدحًا لمذهب الأشاعرة.
ولا يصح أن يرمى من اعترض على الأشاعرة فيما خالفوا فيه عقيدة أهل السنة بالجهل؛ لأن حقيقة الجهل هو القول على الله بغير علم، أما من أخذ بالكتاب والسنة وقواعد الشرع المعتبرة وسار على طريق سلف الأمة وأنكر على من تأول أسماء الله وصفاته أو شيئًا منها على غير تأويلها فإنه لا يرمى بالجهل..
قوامة الرجال:
[4]- قال: "إنما القوامة للرجل قوامة تكليف وليست قوامة تشريف"
والجواب أن يقال: هذا خطأ، والصواب أن يقال: "إن قوامة الرجال على النساء قوامة تكليف وتشريف"، لقول الله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا} [النساء:34]، فأوضح سبحانه أنه جعل الرجال قوامين على النساء لأمرين:
أحدهما: فضل جنس الرجال على جنس النساء.
والأمر الثاني: قيام الرجال بالإنفاق على النساء بما يدفعونه من المهور وغيرها من النفقات.
التفويض الصحيح للكيفية لا للمعاني:
[5]- قال في مقاله الأول بعد المقدمة ما نصه: "ولا يجوز أن تجعلهم -يعني بذلك الأشاعرة والماتوريدية- في صف الروافض والمعتزلة والخوارج الذين انحرفوا عن أهل السنة والجماعة، غاية ما في الأمر أن نقول: إنهم مخطؤون في التأويل، ذلك لأن الأسلم أن نفوض الأمر في موضوع الصفات إلى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية" أ.هـ.
والجواب أن يقال:
الفرق المخالفة لأهل السنة متفاوتون في أخطائهم، فليس الأشاعرة في خطئهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية بلا شك، ولكن ذلك لا يمنع من بيان خطأ الأشاعرة فيما أخطؤوا فيه ومخالفتهم لأهل السنة في ذلك كما قد بين خطأ غيرهم لإظهار الحق وبيان بطلان ما يخالفه تبليغًا عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرًا من الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ . إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160].
ثم يقال: ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب؛ لأنه سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني وليس التفويض مذهب السلف بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح.
وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض وبدّعوهم؛ لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك، وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته وينزهونه عن كل ما لا يليق به عز وجل.
وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا أذكر بعض النقول المهمة عن السلف الصالح في هذا الباب ليتضح للقارئ صحة ما ذكرنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (الفتوى الحموية) ما نصه: "روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا -والتابعون متوافرون- نقول إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات. فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة: عصر تابعي التابعين الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المُنْكِر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا".
وروى أبو بكر الخلال في كتاب (السنة) عن الأوزاعي قال: "سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمِرُّوها كما جاءت".
وروى أيضًا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: "أمِرُّوها كما جاءت"، وفي رواية: قالوا: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف"، وقولهم رضي الله عنهم: "أمروها كما جاءت" رد على المعطلة، وقولهم: "بلا كيف" رد على الممثلة.
والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما.
وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرِّف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: "قال عمر ابن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا".
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق"، وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه.
ومنها ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: "يا أبا عبد الله ا {لرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟" فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، فأمر به أن يخرج".
فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب" موافق لقول الباقين: "أمروها كما جاءت بلا كيف"، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"، ولما قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف"، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلومًا بل يكون مجهولًا بمنزلة حروف المعجم.
وأيضًا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضًا فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقًا لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف" فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.
وأيضًا فقولهم: "أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: "بلا كيف"، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
[6]- نقل في المقال المذكور عن الشيخ حسن البنا رحمه الله ما نصه: "نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".
والجواب أن يقال:
نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه، والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله، أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه، بل هو محل تفصيل، فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلها فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض، أما ما خالف النص من الكتاب والسنة فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عملًا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]، وقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجهما مسلم في صحيحه). والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.
الفُرْقة مذمومة والحكم عند التنازع للكتاب والسنة:
[7]- ثم نعى الكاتب الشيخ محمد علي الصابوني في مقاله الثاني على المسلمين تفرقهم إلى سلفي وأشعري وصوفي وماتريدي.. الخ. ولا شك أن هذا التفرق يؤلم كل مسلم ويجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق ويتعاونوا على البر والتقوى، ولكن الله سبحانه قدر ذلك على الأمة لحكمٍ عظيمة وغاياتٍ محمودة يحمد عليها سبحانه ولا يعلم تفاصيلها سواه، ومن ذلك التمييز بين أوليائه وأعدائه، والتمييز بين المجتهدين في طلب الحق والمعرضين عنه المتبعين لأهوائهم، إلى حكم أخرى، وفي ذلك تصديق لنبيه صلى الله عليه وسلم ودليل على أنه رسول الله حقًا لكونه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا التفرق قبل وقوعه فوقع كما أخبر، حيث قال صلى الله عليه وسلم: « » وفي رواية أخرى قال: « »، وهذا يوجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق، وأن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على أن الواجب على المسلمين رد ما تنازعوا فيه في العقيدة وغيرها إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يتضح الحق لهم وتجتمع كلمتهم عليه ويتحد صفهم ضد أعدائهم، أما بقاء كل طائفة على ما لديها من باطل وعدم التسليم للطائفة الأخرى فيما هي عليه من الحق فهذا هو المحذور والمنهي عنه، وهو سبب تسليط الأعداء على المسلمين، واللوم كل اللوم على من تمسك بالباطل وأبى أن ينصاع إلى الحق، أما من تمسك بالحق ودعا إليه وأوضح بطلان ما خالفه فهذا لا لوم عليه بل هو مشكور وله أجران أجر اجتهاده وأجر إصابته للحق.
حقيقة مذهب أهل السنة:
[8]- ذكر الصابوني في مقاله الثاني أن أهل السنة اشتهروا بمذهبين اثنين أحدهما: مذهب السلف، والآخر: مذهب الخلف.. الخ.
والجواب أن يقال:
هذا غلط بين لم يسبقه إليه أحد فيما أعلم، فإن مذهب أهل السنة واحد فقط، وهو ما درج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهو إثبات أسماء الله وصفاته وإمرارها كما جاءت، والإيمان بأنها حق، وأن الله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله من غير تحريف، ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض؛ بل يؤمنون بأن معانيها معلومة وأنها حق لائقة بالله سبحانه وتعالى لا يشابه خلقه في شيء منها، ومذهب الخلف بخلاف ذلك كما يعلم ذلك من قرأ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء.
ثم ذكر أن أهل السنة يفوضون علم معاني الصفات إلى الله، وكرر ذلك في غير موضع، وقد أخطأ في ذلك ونسب إليهم ما هم براء منه كما تقدم بيان ذلك فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جَمْعٍ من أهل السنة رحمة الله عليهم، وإنما يفوض أهل السنة إلى الله سبحانه علم الكيفية لا علم المعاني كما سبق إيضاح ذلك.
أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه:
[9]- ثم ذكر الصابوني هداه الله تنزيه الله سبحانه عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة، وهذا ليس بمذهب أهل السنة بل هو من أقوال أهل الكلام المذموم وتكلفهم، فإن أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يثبتون له إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في النصوص نفي هذه الأمور ولا إثباتها فالواجب الكف عنها وعدم التعرض لها لا بنفي ولا إثبات، ويغني عن ذلك قول أهل السنة في إثبات صفات الله وأسمائه أنه لا يشابه فيها خلقه، وأنه سبحانه لا ند له ولا كفو له. قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث".
وهذا هو معنى كلام غيره من أئمة السنة، وأما ما وقع في كلام البيهقي رحمه الله في كتابه: (الاعتقاد) من هذه الأمور فهو مما دخل عليه من كلام المتكلمين وتكلفهم، فراج عليه واعتقد صحته، والحق أنه من كلام أهل البدع لا من كلام أهل السنة.
أهل السنة يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه دون أن يشبهوه بخلقه:
[10]- ثم قال الصابوني في مقاله الثاني ما نصه: "أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس له وجه ويدان وعينان وله ساق وأصابع وهو يمشي وينزل ويهرول، ويقولون في تقرير هذه الصفات أن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج -يريد بزعمه أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول وأنه جلوس حس لا كما يتأوله المؤولون- فهذا والعياذ بالله عين الضلالة؛ لأنه شبه وجسم وهو كمن فر من حفرة صغيرة ليقع في هوةٍ عميقة يتحطم فيها ويهوي فيها إلى مكان سحيق" ا. هـ.
وأقول: أن الأخ الصابوني هداه الله قد جمع في هذا الكلام حقًا وباطلًا يعلمه كل صاحب سنة، وإليك أيها القارئ المؤمن التفصيل في ذلك:
أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع فقد ثبتت في النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، وقال بها أهل السنة والجماعة وأثبتوها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه.
وهكذا النزول والهرولة جاءت بها الأحاديث الصحيحة ونطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأثبتها لربه عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه؛ من غير مشابهة لخلقه ولا يعلم كيفية هذه الصفات إلا هو سبحانه. فإنكار الصابوني هذه الصفات إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنكار على الله عز وجل؛ لأنه سبحانه ذكر بعضها في كتابه العزيز وأوحى البعض الآخر لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وإنما يخبر عن الله سبحانه بما أوحى إليه، فالصابوني هداه الله تارة يقول إنه يلتزم بمذهب أهل السنة وتارة ينتقضه ويخالفه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق.
وأما قوله: "ويقولون في تقرير هذه الصفات: إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج... الخ".
فهذا القول أهل السنة براء منه، بل هو من كلام المشبهة الذين كفرهم السلف الصالح وأنكروا مقالتهم لكونها مصادمةً لقول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وما جاء في معناها من الآيات، فلا يجوز لأحد أن يخلط بين كلام أهل الحق من أهل السنة وكلام أهل الباطل من المشبهة وغيرهم ولا يميز بينهما، بل الواجب التفصيل والتمييز.
الأشعري والماتوريدي ليس أول من رد شبهات أهل الزيغ:
[11]- ثم زعم الصابوني في مقاله الثالث أن أول من كتب في أصول الدين ورد شبهات أهل الزيغ والضلال أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتوريدي.
وهذا جزم غير صحيح فقد سبقهما في ذلك: الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، والإمام مالك رحمه الله، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، والإمام عثمان ابن سعيد الدارمي في الرد على المريسي، والإمام عبد العزيز الكناني صاحب الحيدة وغيرهم ممن لا يحصى.
مذهب أهل السنة واحد وهو أسلم وأعلم وأحكم:
[12]- ثم كرر الصابوني هداه الله في مقاله الثالث قوله: "إن السلف لهم مذهبان مذهب أهل التفويض ومذهب أهل التأويل" إلى آخر ما قال... إلى أن قال: "إن بعضهم يفضل مذهب السلف ويقول: إنه أسلم، والبعض الآخر يفضل مذهب الخلف ويقول: هو أحكم" ا. هـ.
والجواب: أن هذا التقسيم باطل كما تقدم، وليس للسلف إلا مذهب واحد هو مذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان وهو الأسلم والأعلم والأحكم.
أما المذهب الثاني فهو مذهب الخلف المذموم، وهو مذهب أهل التأويل والتحريف والتكلف ولا يلزم من ذم مذهب الخلف والتحذير منه القول بتكفيرهم، فإن التكفير له حكم آخر يبنى على معرفة قول الشخص وما لديه من الباطل ومدى مخالفته للحق، فلا يجوز أن يقال: أنه يلزم من ذم مذهب الخلف أو الإنكار على الأشاعرة ما وقعوا فيه من تأويل الصفات وتحريفها إلا صفات قليلة استثنوها القول بتكفيرهم، وإنما المقصود بيان مخالفتهم لأهل السنة في ذلك وبطلان ما ذهب إليه الخلف من التأويل.
وبيان أن الصواب هو مذهب السلف الصالح، وهم أهل السنة والجماعة في إمرار آيات الصفات وأحاديثها، وإثبات ما دلت عليه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل كما سبق ذكر ذلك غير مرة، والله المستعان.
ثم ذكر كلام البيهقي هنا وقد تقدم ما فيه وأنه رحمه الله دخلت عليه ألفاظ من ألفاظ أهل البدع فراجت عليه وظنها صوابًا، فأدخلها في كتابه وهو من جملة الذين خاضوا في الكلام وعَلِقَ باعتقاده بعض ما فيه من الشر سامحه الله وعفا عنه. كما نبه على ما يدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى [جـ 6 ص 53].
أهل السنة لا يؤولون الصفات ولكن يجمعون بين النصوص ويفسرون بعضها ببعض:
[13]- ثم قال الصابوني في مقاله الثالث ما نصه: "ولا يظن أحد أننا نفضل مذهب الخلف على مذهب السلف، ولسنا على الرأي الذي يقوله علماء الكلام: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، بل نقول عن إيمان ويقين أن مذهب السلف هو الأسلم وهو الأحكم فلا نحاول أن نؤول صفات الخالق جل وعلا، بل نؤمن بها كما جاءت ونقر بها كما وردت مع نفي التشبيه والتجسيم". ثم استشهد بقول بعض الشعراء:
إن المفوض سالم *** مما تكلفه المؤول
إلى أن قال: "وإذا كان من أول الصفات ضال فسنضلل السلف الصالح جميعا؛ لأنهم أولوا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، قالوا: معهم بعلمه لا بذاته وأولوا قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، قالوا: معية علم لئلا تتعدد الذات، وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، ملائكتنا أقرب إليه منكم ولكن لا ترونهم، كما أول قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] قال: المراد ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، والحلول والاتحاد منفي بالإجماع تعالى الله وتقدس".
وقال: بل نقول: إنه يتعين التأويل أحيانًا كما في الحديث الصحيح: « »، وكما قال عن سفينة نوح {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ . تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:13-14] أ.هـ.
والجواب أن يقال:
قد أحسنت في اختيار مذهب السلف الصالح واعتقاد أنه الأسلم والأحكم والأعلم، ولكنك لم تثبت عليه بل تارة تختار مذهب التأويل وتارة تختار مذهب التفويض، والواجب على المؤمن الثبات على الحق وعدم التحول عنه، وما ذكرته عن السلف من تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] بالعلم ليس بتأويل ولكنه هو معنى آيات المعية عند أهل السنة والجماعة، كما حكى الإمام أبو عمر بن عبد البر وأبو عمر الطلمنكي إجماع أهل السنة على ذلك؛ وذلك لأن النصوص من الكتاب والسنة الدالة على علوه وفوقيته وتنزيهه سبحانه عن الحلول والاتحاد تقتضي ذلك.
ومن تأمل الآيات الواردة في ذلك علم أنها تدل على أن المراد بالمعية العلم بأحوال عباده واطلاعه على شؤونهم، مع دلالة المعية الخاصة على كلاءته ورعايته وحفظه ونصره لأنبيائه وأوليائه، مع علمه واطلاعه على أحوالهم، والعرب الذين نزل عليهم الكتاب وجاءت السنة بلغتهم يعلمون ذلك ولا يشتبه عليهم، ولهذا لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن معاني هذه الآيات لظهورها لهم، أما النصوص الأخرى فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المعنى فيها ظاهر مثل قوله سبحانه {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، و {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].
فلا يدور بخلد أحد أن السفينة تجري بعين الله ولا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام في عين الله وإنما المراد بذلك أن السفينة تجري برعاية الله وعنايته وتسخيره لها وحفظه لها، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم تحت رعاية مولاه وعنايته وحفظه وكلاءته، وهكذا قوله في حق موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي تحت رعايتي وحفظي، وهكذا حديث: « » يفسره قوله في الرواية الأخرى: « ».
ولا يظن من له أدنى بصيرة ممن يعرف اللغة العربية أن المراد بذلك أن الله سبحانه هو سمع الإنسان وبصره وهو يده ورجله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وإنما أراد من ذلك سبحانه بيان توفيقه لأوليائه وتسديده لهم في حواسهم وحركاتهم بسبب طاعتهم له وقيامهم بحقه، وهكذا الأحاديث الأخرى، وأما حديث: (الحجر يمين الله) فهو (حديث ضعيف)، والصواب وقفه على ابن عباس ومعناه ظاهر سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا، وقد قال في نفس الحديث فكأنما صافح الله وقبّل يمينه، فدل على أن الحجر ليس هو يمين الله وإنما شبه مستلمه ومقبّله بمن صافح الله وقبل يمينه ترغيبًا في استلامه وتقبيله، وهكذا قول الله سبحانه في الحديث الصحيح لعبده: « » قد بين في الحديث ما يدل على معناه حيث قال سبحانه: « »، فعُلِم بذلك أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، وإنما أراد سبحانه من ذلك حث العباد على عيادة المريض وإطعام الجائع.
وأما قوله سبحانه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، فقد فسره جماعة بقرب الملائكة؛ لأن قربهم من العبد حين يتلقى المتلقيان وحين الموت كان بأمره سبحانه وتقديره ورعايته لعباده.
وفسره آخرون بأنه: قربه سبحانه بعلمه وقدرته وإحاطته بعباده كالمعية، وكقربه من عابديه وسائليه مع علوه وفوقيته سبحانه، وليس المراد الحلول ولا الاتحاد تعالى الله عن ذلك وتقدس؛ لأن الأدلة القطعية من الكتاب والسنة تدل على أنه سبحانه فوق العرش بائن من خلقه عال عليهم وعلمه في كل مكان، فمن تدبر النصوص من الكتاب والسنة وفسر بعضها ببعض اتضح له المعنى ولم يحتج إلى التأويل.
وقد اختار أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره: القول الثاني في سورة (ق) والقول الأول في سورة (الواقعة)، وقد أنكر أهل السنة على من تأول نصوص الصفات وبدّعوه لما يترتب على تأويلها من أنواع الباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه، وتجريد الرب سبحانه من صفات الكمال، وسوء الظن به، وأنه خاطب عباده بما ظاهره تشبيه وتمثيل وأن المراد غيره، وهذا هو التأويل المذموم، وهذا هو الذي سلكه أهل الكلام وأنكره عليهم أهل السنة وضللوهم في ذلك، لكونهم أولوا النصوص عن ظاهرها وصرفوها عن الحق الذي دلت عليه بلا حجة ولا برهان من كتاب ولا سنة، بل بمقتضى عقولهم وآرائهم التي لم ينزل الله بها من حجة ولا قام عليها برهان.
وقد ألزموهم فيما أثبتوا نظير ما فروا منه فيما تأولوه وهو لازم لهم بلا شك، ولا يسلم من التناقض واللوازم الباطلة إلا من أثبت ما أثبته الله ورسوله ونفى ما نفاه الله ورسوله وهم أهل السنة والجماعة، والله المستعان.
الوحدة والاعتصام ومقتضياتهما:
[14]- ثم دعا في مقاله الرابع إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام، وذكر أن الوقت ليس وقت مهاجمة لأتباع المذاهب ولا للأشاعرة ولا للإخوان حتى ولا للصوفيين.
والجواب أن يقال:
لا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم على الحق، وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما أمرهم الله سبحانه بذلك بقوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] الآية، ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق، واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله، أو اعتقده من الصوفية أو غيرهم، بل مقتضى الأمر بالاعتصام بحبل الله أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ويبينوا الحق لمن ضل عنه أو ظن ضده صوابًا بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه.
وهذا هو مقتضى قوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه والمخالف للحق على خطئه، وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله ولي التوفيق.
السلف لا يؤولون الصفات ولا يخوضون بالتجسيم لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأن ذلك بدعة لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة:
[15]- ذكر الصابوني في مقاله الخامس ما نصه: "ليس مذهب السلف الصالح -الذي أسلفنا الحديث عنه في مقالاتنا السابقة في موضوع صفات الباري جل وعلا- هو (التفويض المطلق) كما قد يتوهم البعض من الناس بل هو مسلك آخر يدل على نظر ثاقب وفهم سليم مستقيم لنصوص الكتاب والسنة، ويتلخص هذا المسلك والمنهج في الآتي:
أولًا: تأويل ما لا بد من تأويله من آيات الصفات وأحاديث الصفات مما لا مندوحة عن تأويله لأسباب لغوية أو شرعية أو اعتقادية.
ثانيًا: إثبات ما أثبته القرآن الكريم أو السنة المطهرة من صفات الله جل وعلا: من السمع والبصر والكلام والمحبة والرضى والاستواء والنزول والإتيان والمجيء وغيرها من الصفات، والإيمان بها على مراد الله عز وجل بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه أو تعطيل أو تجسيم أو تمثيل" ا هـ.
والجواب أن يقال:
إن هذه الدعوى على مذهب السلف دعوى لا أساس لها من الصحة، فإن السلف الصالح ليس مذهبهم التفويض لأسماء الله وصفاته، لا تفويضًا عامًا ولا خاصًا، وإنما يفوضون علم الكيفية كما تقدم بيان ذلك، وكما نص على ذلك مالك وأحمد وغيرهما وقبلهما أم سلمة رضي الله عنها وربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رضي الله عن الجميع.
وليس من مذهب السلف أيضًا تأويل الصفات بل يمرونها كما جاءت، ويؤمنون بمعانيها على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل كما سلف.