إحسان الظن بالله - (10) إن لم تستوقفك هذه الآيات فجدد محبتك
إذا أهداك من تحب هدية، فبأيهما أنت أفرح؟ بالهدية ذاتها أم بدلالتها على محبة من أهداها لك؟ بل تفرح أكثر بأن من أهداها إليك يعبر بذلك عن حبه. لذا ففرحة أهل الجنة مضاعفة، فهم ليسوا فرحين بما آتاهم الله من فضله فحسب، بل وبدلالة هذا الإنعام على حب الله لهم ورضاه عنهم ...
كم يتودد الله تعالى إلينا وهو الغني عنا! أليس من أسمائه (الودود)؟ انظر إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًاكَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا . تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [سورة الأحزاب:41-44].
الله تعالى يتودد في هذه الآيات إلى المؤمنين ويستجيش مشاعرهم بتذكيرهم بأنه يهديهم ويرحمهم وسيلقاهم يوم القيامة بأجر كريم يعبر عن محبته لهم. وكأنه يقول لهم: ما دمت أفعل ذلك كله لكم، ألا أستحق منكم أن تحبوني فتذكروني كثيرا كما يذكر المحب محبوبه.
لا ينبغي أن تكون علاقتنا بالله تعالى محصورة في انتظار النعيم الدنيوي، بل ولا الأخروي فحسب، لا بد أن يكون رضا الله مطلبًا في ذاته. لا بد أن نحب الله ونحرص على أن يحبنا هو أيضًا سبحانه وتعالى، وألا نطيق الحياة دون هذه المحبة.
ألا ترى أن الله تعالى ختم كثيرًا من آيات الأوامر ببيان أنه يحب من يفعل كذا وكذا ولا يحب من يفعل كذا وكذا؟ ماذا نستفيد من هذه الخواتيم؟ إن كنا أوفياء لله تعالى و صادقين في محبته فإن هذه الخاتمة (والله يحب كذا) ينبغي أن تكون كافية في تشجيعنا على تنفيذ الأمر، لنحصل على هذه الجائزة العظيمة: محبةِ الله لنا. كم تكررت هذه الخواتيم في القرآن الكريم:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة من ألاية:195].
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران من الأية:146].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة من الاية:7].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة من الأية:222].
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران من الأية:31].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران من الأية:159].
ألم تقف عند هذه الخواتيم من قبل؟ ألم تشعر بالسعادة الغامرة إن كنت من أصناف الناس الذين يحبهم الله تعالى؟ ألا تعني لك هذه المحبة الشيء الكثير؟ ألا تستحق محبة الله أن تكون أسمى الأمنيات وأجل معنى نعيش من أجله؟
إن لم نقف عند هذه الخواتيم من قبل، إن لم نحرص على أن نكون من أهلها، إن لم تكن محبة الله كافية في أن نكون من المحسنين والصابرين والمتقين والمتطهرين والمتبعين للرسول الأمين والمتوكلين، وفي سبيل الله من المقاتلين... إن لم تكن محبة الله كافية في أن نبذل جهدنا في التخلق بهذه الأخلاق، ألا يدل ذلك على أن هناك جفافا في محبتنا لله ونقصَ اهتمام بمحبته لنا؟
وفي المقابل: ترى أن الله تعالى نهى عن أمور وأتبع النهي بأنه تعالى لا يحب من يفعل كذا:
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران من الأية:57].
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة من الأية:190].
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام من الأية:141].
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال من الأية:58]...
أخي راجع نفسك، هل كنت كلما قرأت هذه الآيات تفكر بالطريقة التالية: "إن لم يحبني الله فسيعرضني لبلاء أو يحرمني من نعيم"؟ هل هذا هو كل ما يهمك؟ أن يستمر النعيم ويُدفع البلاء؟ ألم تشعر بوخز وألم ألَّا يحبك الله تعالى؟ أليس هذا شيئًا مرعبًا وعقوبة كافية في ذاتها ألا يحبنا الله؟ ألا تكفي هذه العقوبة في أن تحرص كل الحرص على البعد عن الظلم والعدوان والإسراف والخيانة لأن الله تعالى لا يحب من اتصف بهذه الصفات؟ أن تفتش في أقوالك وأفعالك وتحاسب نفسك حساباً دقيقًا خشية أن تفقد محبة الله لك وأنت لا تشعر؟
اسأل نفسك هذه الأسئلة لتعرف إن كنت أقرب إلى شخصية رامي الجاف أم غسان الذي لم يطق أن يرى العبوس في وجه أبيه ولم يتصور العيش وهو يحس بنقص محبة أبيه له، لوفاءٍ ونبلٍ في نفسه.
ألا ترى كيف أن الطفل الصغير يستمد ثقته بنفسه من محبة والدَيه له؟ لا يشعر بالاستقرار والطمأنينة إلا إذا عبر والداه عن محبتهما له، إذا قال له أبوه: لا أحبك، فإن هذا يهدد استقراره ويدمر ثقته بنفسه ويعطيه نظرة سوداوية للحياة. ألسنا نحن الخلق عيال الله تعالى ما لنا معيل ولا ملجأ إلا هو سبحانه وتعالى، إذا قال الله لك: لا أحبك، ألا يخيفك ذلك؟ ألا يجعلك ترتعد؟ ألا يُسَود الحياة في وجهك؟ ألا يهدد ذلك استقرارك وطمأنينتك؟ ألا ينبغي لك أن تحاسب نفسك على كل قول أو فعل يمكن أن يجعلك من هؤلاء الذين ذكر الله تعالى في كتابه أنه لا يحبهم؟
عندما يتشرب قلبك هذا المعنى فستجد وقعا عظيما وإحساسا جديدا بكثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21]، تأمل هذه الآية كلمة كلمة لترى كيف تنبع منها محبة الله، وفي المقابل الآيات والأحاديث التي تذكر أصنافا من الناس لايكلمهم الله ولاينظر إليهم، فكفى بها عقوبة ألا يكلمك حبيبك ولاينظر إليك إن كنت صاحب قلب حي.
تأمل معي كذلك الحديث الذي رواه البخاري « ».
يصعب على جاف الشعور أن يفهم لماذا هذه أعظم النعم! فما دام أهل الجنة في ظل ممدود وفاكهة كثيرة وحور عين فماذا يضيف إليهم رضوان الله في نظره؟!
أما صادق المحبة فيعلم أن رضا المحبوب أسمى الأمنيات ومنتهى الطموحات: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
نعم! رضوان الله أكبر من النعم الأخرى كلها، أكبر من الجنات والأنهار والمساكن الطيبة... إنه رضا أعظم محبوب سبحانه وتعالى.
تأمل معي كذلك قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة من الأية:152].
يتودد إلينا ربنا ويطلب منا أن نذكره ويعدنا حينئذ بجائزة، ما هي هذه الجائزة؟ أن يذكرنا تعالى.
ضعيف المشاعر لا يفهم ما الميزة في أن يذكر الله العبد. أما صادق المحبة فيكفيه أن يذكره أعظم محبوب: الله سبحانه وتعالى.
تأمل معي كذلك الحديث الذي يصور فرحة الله تعالى بتوبة عبده: «
» (مسلم). فالإنسان النبيل المؤمن يكفيه دافعا إلى التوبة علمُه بأنها ستفرح من؟ ستفرح أعظم محبوب، الله سبحانه وتعالى!بل هناك بعد آخر جميل أيضًا: إذا أهداك من تحب هدية، فبأيهما أنت أفرح؟ بالهدية ذاتها أم بدلالتها على محبة من أهداها لك؟ بل تفرح أكثر بأن من أهداها إليك يعبر بذلك عن حبه. لذا ففرحة أهل الجنة مضاعفة، فهم ليسوا فرحين بما آتاهم الله من فضله فحسب، بل وبدلالة هذا الإنعام على حب الله لهم ورضاه عنهم كذلك، فلا تنس استشعار هذا المعنى كلما قرأت آيات وأحاديث الإنعام الإلهي {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ}، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة من الأية:89]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة من الأية:9]، {آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران من الأية:170]، رضا الله الذي يدل عليه هذا النعيم أهم من النعيم نفسه.
طبعا لايعني ماتقدم أن المؤمن يطيع الله تعالى ويعبده محبة فحسب دون انتظار ثواب أو خوف عقاب، فهذا شطط ترده نصوص القرآن والسنة كقوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة من الأية:16]، وقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء من الأية:57]. إنما المقصود التنبيه على معنى كثيرًا ما يغيب عن الأذهان ينبغي أن يحتف بالخوف والرجاء، ألا وهو طاعة الله حباً له تعالى والحرص على حبه تعالى لنا ورضاه عنا.
هل اقتنعت الآن أن الله تعالى يتودد إلينا؟ هل استوقفتك هذه الآيات من قبل؟ هل كنت حرصا على أن تبادل الله الود ودا؟ أم أنك التهيت بالنعم عن المنعم؟ إذا كان التهيت فلا تعجب عندما يبتليك الله تعالى ليذكرك أن تبادله الود ودًا. حتى لو كان الابتلاء شديداً، فلن يكون أشد من جفاف الروح وقحط القلب بخلوه من تذوق تودد الله لنا ومبادلة هذا الود ودًا. فإذا دفعك البلاء إلى هذا التذوق فقد ربحت كل شيء، ولم تخسر شيئًا، مهما كانت خسارتك كبيرة في الظاهر.
- التصنيف:
- المصدر: