الحرية المفقودة

منذ 2014-10-11

ظلت الحرية قيمة إنسانية نبيلة تتشوف إليها المجتمعات الإنسانية على مر عصورها حتى قامت من أجلها الثورات، وبذلت في سبيلها التضحيات؛

"ظلت الحرية قيمة إنسانية نبيلة تتشوف إليها المجتمعات الإنسانية على مر عصورها حتى قامت من أجلها الثورات، وبذلت في سبيلها التضحيات؛ إذ لا معنى لإنسانية الإنسان إلا بالحرية التي وهبها الله له كما وهبه الحياة"  بهذه العبارة استهل الدكتور حاكم المطيري كتابه: (الحرية أو الطوفان)؛ سابرًا أغوار مفهوم الحرية ومجليًا الصورة الحقيقية والناصعة التي حبا الله بها عباده بنعمة الإسلام؛ بما احتوته من حرية حقيقية عجزت الإنسانية اليوم عن إدراك حقيقتها وجماليتها، وكاشفًا النقاب عن شبهات وأخطاء طالت وعمت بلواها، ناسفًا إياها برياض الحق من الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة.

يختلف الإنسان عن غيره من الكائنات والمخلوقات بكونه عاقلا مدركًا يملك إرادة وقدرة على الاختيار بما أفاض الله عليه من ذلك؛ فوهبه من حق اختيار السلوك والأعمال والتصرفات ما يستطيع بذلك أن يفعل الخير أو يختار طريق الشر، ونتيجة لذلك تجد استماتة في الدفاع عن كل ما يمكن أن يصل فيه الإنسان إلى تحقيق ما يصبو إليه؛ فيولد ذلك ارتباطًا قويًا، وانقيادًا ذليلًا للمطلوب، وتصبح دعوى الحرية المطلقة مجرد شعارات جوفاء على ورق فاخر، كما وصف ذلك جان جاك روسو إبان الثورة الفرنسية بقوله: "ولد الناس أحرارًا، ولكنهم في كل مكان يعيشون مكبلين بالأغلال"؛ فالحضور المكثف للحرية في خطابات الطرح العلماني في وسائلهم الإعلامية المختلفة دون تصور نسقي واضح أو استحضار لثقافة المجتمع وهويته هو نتيجة حتمية نظرًا للحاجة التي تدعو إلى ترويج مثل هذه المقولات بصورة ملحة في ظل خضوع المجتمعات الإسلامية لهيمنة مزدوجة تجمع بين استبداد الحكام وعسف الاحتلال الخفي الوافد من الضفة الغربية، ومع أزمة الفراغ الفكري والسلوكي الذي باتت معالمه تظهر وتمتد وتتوسع يومًا بعد يوم في حياتنا الإسلامية على جميع المستويات، وذلك من خلال فقدان الإنسان المسلم الانسجام مع ذاته وقيمه وحالة انعدام مسؤولية الإحساس الحي بإسلامه كنظام شمولي يجمع بين الفكر والعقيدة والسلوك والعبادة يملأ من خلاله جوانب حياته النفسية والفكرية في ظل سوق المفاهيم التي يتخبط فيها الناس اليوم.

وقد قام التيار العلماني البعيد عن حضارة وثقافة ورسالة هذه الأمة على تعميق التصور الخاطئ للحرية في نفوس المجتمعات الإسلامية، وذلك بإيجاد قواعد فكرية وفلسفية مستحدثة في ذهنية أجيال الأمة الإسلامية، فقامت العلمانية بالتالي على إبعاد قطاعات المجتمع الشابة عن الإسلام المتواصل بلطف وهدوء وتكامل مع كافة مجالات السلوك الحياتي الفردي والمجتمعي، وقدمته لهم بصيغ فكرية مقولبة ومنمطة جامدة، وكأن الإسلام مرحلة تاريخية قديمة انتهت في زمن انقضى، ولم يعد بمقدور هذا الإسلام حاليًا أن يستوعب ويستجيب ويقدم الحلول المناسبة لمشاكل المجتمعات المعاصرة التي تتزايد يومًا بعد يوم!!

ففقدت الحرية قيمتها وبريقها تحت ظلال الفلسفات الوضعية المادية، وأضحت من القضايا التي تحتاج لإجابات واضحة شافية، وتحتاج لتجلية التراث الإسلامي المفترى عليه؛ فللأسف الشديد نجد أن بني علمان لا يتوانون يستدلون على وجهة نظرهم بمواقف في تاريخنا الإسلامي لا تمثل الدين الصحيح، ولا تمثل النبع الصافي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تمثل صور التطبيق الحقيقية للحرية في عصر الخلفاء الراشدين؛ فالنظرة الإسلامية تحرر الإنسان من كل الفلسفات فكلمة التوحيد (لا اله إلا الله) هي جوهر التدين في الإسلام؛ فإنها في مفهومه ثورة تحرير الإنسان من العبودية لكل الأفكار والمذاهب والطواغيت ومن كل الأغيار، فإفراد الله بالعبودية هي جوهر تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، فلا معبود بحق إلا الله، إنها العبودية للذات المنزهة عن المادة، ومن ثم فإنها المحققة لتحرير الإنسان من كل أنواع الطواغيت المادية التي تستلب منه الإدارة والحرية والاختيار.

وإن من تأمل في كلمة التوحيد التي ذكرت في القران والسنة آلاف المرات والتي يرددها المسلمون في شعائرهم وفي غيرها، يجد في هذه الكلمة رمز الحرية المفقودة اليوم، وجوهرها التي يحتاجها الإنسان اليوم؛ فقد كان كسرى يعتبر إلهًا من سلالة الآلهة فكان يقضي بالموت أو يهب الحياة، كما كان قيصر الرومان إلهًا ومخالفته مخالفة لأوامر الإله، وقد ذكر المسيحيون في كتبهم المقدسة: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"؛ فالدين لله والحياة لقيصر، والقساوسة في أوربا وغيرها كانوا يعتبرون أنفسهم الواسطة بين الله وبين الناس، ويدعون أن بيدهم صكوك الجنة من شاؤوا أدخلوه فيها ومن شاؤوا أخرجوه منها وأدخلوه النار، وكذلك كان الحال عند البوذيين في الهند وفي الصين وعند غيرهم، وقد قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)، وحتى الحجارة كانت إلهًا عند كثير من العرب وغير العرب، وكذلك كان وما يزال للتقاليد الباطلة والخرافات سلطة ونفوذ على الإنسان، بل نجد في هذا اليوم ملايين الأصنام في الهند والصين واليابان، ونجد في بلاد الشيوعيين أصناما بشرية كثيرة أمثال لنين وماركس ومن شابههم، وما زالت الإنسانية ترزح في كثير من البلاد اليوم تحت ألف قيد وشرط وعبودية. لكن عندما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد في الآفاق فجر بها ثورة على كل هذه القيود، وأعلن أنه لا سيد إلا سيد واحد هو الله سبحانه وتعالى ويجب أن لا يطاع إلا هو وحده، وما على المرء سوى أن يقيم صلة مباشرة بينه وبين الله جل جلاله لينال الحرية الحقيقية المفقودة اليوم.

المصدر: شبكة دليل الريف
  • 2
  • 0
  • 3,292

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً