الأحكام السلطانية للماوردي - (85) تقليد وعزل العمال (6)

منذ 2014-10-29

الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه

تقليد وعزل العمال (6)

فصل:

وأما القسم الثالث فيما اختص بالعمال من تقليد وعزل فيشتمل على ستة فصول:

أحدها: ذكر من يصحّ منه تقليد العمال، وهو معتبر بنفوذ الأمر وجواز النظر، فكل من جاز نظره في عمل نفذت فيه أوامره، وصحَّ منه تقليد العمال عليه، وهذا يكون من أحد ثلاثة: إمَّا من السلطان المستولي على كل الأمور، وإما من وزير التفويض، وإما من عامل عام الولاية كعامل إقليم أو مصر عظيم، يقلد في خصوص الأعمال عاملًا، فأمَّا وزير التنفيذ فلا يصح منه تقليد عامل إلَّا بعد المطالعة والاستئمار.

والفصل الثاني: من يصح أن يتقلَّد العمالة، وهو من استقلَّ بكفايته ووثق بأمانته، فإن كانت عمالة تفويض إلى اجتهاد روعي فيها الحرية والإسلام؛ وإن كانت عمالة تنفيذ لا اجتهاد للعامل فيها لم يفتقر إلى الحرية والإسلام.

والفصل الثالث: ذكر العمل الذي تقلده، وهذا يعتبر فيه ثلاثة شروط:

أحدها: تحديد الناحية بما تتميز به عن غيرها.

والثاني: تعيين العمل الذي يختص بنظره فيها من جباية أو خراج أو عشر.

والثالث: العلم برسوم العمل وحقوقه على تفصيل ينتفي عنه الجهالة، فإذا استكملت هذه الشروط الثلاثة في عمل علم به الولي والمولى صح التقليد ونفذ.

والفصل الرابع: زمان النظر، فلا يخلو من ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يقدره بمدة محصورة الشهور أو السنين، فيكون تقديرها بهذه المدة مجوزا للنظر فيها، ومانعًا من النظر بعد انقضائها، ولا يكون النظر في المدة المقيدة لازمًا من جهة المولي، وله صرفه ولا استبدال به إذا رأى ذلك صلاحًا، فأمَّا لزومه من جهة العامل المولى فمعتبر بحال جارية عليها؛ فإن كان الجارى معلومًا بما تصحّ به الأجور لزمه العمل في المدة إلى انقضائها؛ لأنَّ العمالة فيها تصير من الإجارات المحضة، ويؤخذ العامل فيها بالعمل إلى انقضائها إجبارًا.

والفرق بينهما في تخيير المولى ولزومها للمولِّي أنها في جنبة المولِّي من العقود العامَّة لنيابته فيها عن الكافَّة، فروعي الأصلح في التخيير، وهي في جنبة المولَّى من العقود الخاصة لعقده، لها في حق نفسه، فيجري عليها حكم اللزوم، وإن لم يتقدر جاريه بما يصح في الأجور لم تلزمه المدة، وجاز له له الخروج من العمل إذا شاء بعد أن ينهي إلى موليه حال تركه حتى لا يخلو عمله من ناظر فيه.

والحالة الثانية: أن يقدر بالعمل فيقول المولّي فيه: قلدتك خراج ناحية كذا في هذه السنة، أو قلدتك بلد كذا في هذا العام، فتكون مدة نظره مقدرة بفراغه من عمله، فإذا فرغ منه انعزل عنه، وهو قبل فراغه على ما ذكرنا يجوز أن يعزله المولّي، وعزله لنفسه معتبر بصحة جارية وفساده.

والحالة الثالثة: أن يكون التقليد مطلقًا فلا يقدر بمدة ولا عمل، فيقول فيه: قد قلدتك خراج الكوفة، أو أعشار البصرة، أو حماية بغداد، فهذا تقليد صحيح، وإن جهلت مدته؛ لأنَّ المقصود منه الإذن لجواز النظر، وليس المقصود منه اللزوم المعتبر في عقود الإيجارات.

وإذا صحَّ التقليد وجاز النظر لم يخل حاله من أحد أمرين: إما أن يكون مستديمًا أو منقطعًا، فإن كان مستديمًا كالنظر في الجباية والقضاء وحقوق المعادن، فيصح نظره فيها عامًا بعد عام ما لم يعزل، وإن كان منقطعًا فهو على ضربين:

أحدهما: أن لا يكون معهود العود في كل عام كالوالي على قسم الغنيمة، فيعزل بعد فراغه منها، وليس له النظر في قسمة غيرها من الغنائم.

والضرب الثاني: أن يكون عائدًا في كل عام كالخراج الذي إذا استخرج في عام عاد فيما يليه.

فقد اختلف الفقهاء هل يكون إطلاق تقليده مقصورًا على نظر عامه أو محمولًا على كل عام ما لم يعزل على وجهين:

أحدهما: أنه يكون مقصورًا للنظر على العام الذي هو فيه، فإذا استوفى خراجه، أو أخذ أعشاره انعزل، ولم يكن له أن ينظر في العام الثاني إلَّا بتقليد مستجد اقتصارًا على اليقين.

والوجه الثاني: أنه يحمل على جواز النظر في كل عام ما لم يعزل اعتبارًا بالعرف.

والفصل الخامس: في جاري العامل على عمله، ولا يخلو فيه من ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يسمي معلومًا.

والثاني: أن يسمي مجهولًا.

والثالث: أن لا يسمي بمجهول ولا بمعلوم، فإن سمَّى معلومًا استحق المسمَّى إذا وفَّى العمالة حقَّها، فإن قصر فيها روعي تقصيره، فإن كان لترك بعض العمل لم يستحق جاري ما قابله، وإن كان لخيانة منه مع استيفاء العمل استكمل جارية وارتجع ما خان فيه، وإن زاد في العمل روعيت الزيادة، فإن لن تدخل في حكم عمله كان نظره فيها مردودًا لا ينفذ، وإن كانت داخله في حكم نظره لم يخل من أحد أمرين:

إما أن يكون قد أخذها بحق أو ظلم، فإن أخذها بحق كان متبرعًا بها لا يستحق لها زيادة على المسمَّى في جاريه، وإن كان ظلمًا وجب ردَّها على من ظلم بها، وكان عدوانًا من العامل يؤخذ بجريرته، واما إن سمَّى جارية مجهولًا استحق جاري مثله فيما عمل، فإن كان جاري العمل مقدرًا في الديوان وعمل به جماعة من العمال صار ذلك القدر هو جاري المثل، وإن لم يعمل به إلَّا واحد لم يصر ذلك مألوفًا في جاري المثل.

وأما إن لم يسم جارية بمعلوم ولا بمجهول، فقد اختلف الفقهاء في استحقاقه لجاري مثله على عمله على أربعة مذاهب قالها الشافعي وأصحابه، فمذهب الشافعي فيها أنه لا جاري له على عمله، ويكون متطوعًا به حتى يسمّي جاريًا معلومًا أو مجهولًا؛ لخلو عمله من عوض.

وقال المزني: له جاري مثله وإن لم يسمِّه لاستيفاء عمله عن إذنه.

وقال أبو العباس بن سريج: إن كان مشهورًا بأخذ الجاري على عمله فله جاري مثله، وإن لم يشهر بأخذ الجاري عليه فلا جاري له.

وقال أبو إسحاق المروزي[1] من أصحاب الشافعي: إن دعي إلى العمل في الابتداء أو أمر به فله جاري مثله، فإن ابتدأ بالطلب فأذن له في العمل فلا جاري له، وإذا كان في عمله مال يجتنَى فجاريه مستحق فيه، وإن لم يكن فيه مال فجاريه في بيت المال مستحق من سهم المصالح.

والفصل السادس: فيما يصح به التقليد، فإن كان نطقًا يلفظ به المولِّي صحَّ به التقليد كما تصحّ به سائر العقود، وإن كان عن توقيع المولّي بتقليده خطًّا لا لفظًا صحَّ التقليد، وانعقدت به الولايات السلطانية إذا اقترنت به شواهد الحال، وإن لم تصح به العقود الخاصة اعتبارًا بالعرف الجاري فيه، وهذا إذا كان التقليد مقصورًا عليه لا يتعداه إلى استبانة غيره فيه، ولا يصح إذا كان التقليد عامًّا متعديًا؛ فإذا صلح التقليد بالشروط المعتبرة فيه، وكان العمل قبله خاليًا من ناظر تفرَّد هذا المولي بالنظر، واستحقَّ جاريه من أول وقت نظره فيه، وإن كان في العمل ناظر قبل تقليده نظر في العمل، فإن كان مما لا يصح الاشتراك فيه كان تقليده الثاني عزلًا للأول، وإن كان مما يصحّ فيه الاشتراك روعي العرف الجاري فيه، فإن لم يجر العرف بالاشتراك فيه كان عزلًا للأول، وإن جرى العرف بالاشتراك فيه لم يكن تقليد الثاني عزلًا للأول، وكانا عاملين عليه وناظرين فيه، فإن قلّد عليه مشرف كان العامل مباشرًا للعمل، وكان المشرف مستوفيًا له يمنع من زيادة عليه أو نقصان منه أو تفرّد به.

وحكم المشرف يخالف حكم صاحب البريد من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه ليس العامل أن ينفرد بالعمل دون المشرف، وله أن ينفرد به دون صاحب البريد.

والثاني: أن للمشرف منع العامل مما أفسد فيه، وليس ذلك لصاحب البريد.

والثالث: أن المشرف لا يلزمه الاختيار بما فعله العامل من صحيح وفاسد إذا انتهى إليه، ويلزم صاحب البريد الإخبار بما فعله العامل من صحيح وفاسد؛ لأنَّ خبر المشرف استعداء، وخبر صاحب البريد إنهاء.

أحدهما: أنَّ خبر الإنهاء يشتمل على الفاسد والصحيح، وخبر الاستعداء مختص بالفاسد دون الصحيح.

والثاني: أنَّ خبر الإنهاء فيما رجع عنه العامل وفيما لم يرجع عنه، وخبر الاستعداء مختَصٌّ بما لم يرجع عنه دون ما رجع عنه، وإذا أنكر العامل استعداء المشرف أو إنهاء صاحب البريد، لم يكن قول واحد منهما مقبولًا عليه حتى يبرهن عنه، فإن اجتمعا على الإنهاء والاستعداء صارا شاهدين عليه، فيقبل قولهما عليه إذا كانا مأمونين، وإذا طولب العامل برفع الحساب فيما تولَّاه لزمه رفعه في عمالة الخراج، ولم يلزمه رفعه في عمالة العشر؛ لأنَّ مصرف الخراج إلى بيت المال، ومصرف العشر إلى أهل الصدقات، وعلى مذهب أبي حنيفة يؤخذ برفع الحساب في المالين؛ لاشتراك مصرفهما عنده، وإذا ادَّعى عامل العشر صرف العشر في مستحقه قبل قوله فيه، ولو ادَّعى عامل الخراج دفع الخراج إلى مستحقه لم يقبل قوله إلا بتصديق أو ببينة.

وإذا أراد العامل أن يستخلف على عمله فذلك ضربان:

أحدهما: أن يستخلف عليه من ينفرد بالنظر فيه دونه، فهذا غير جائز منه؛ لأنه يجري مجرى الاستبدال، وليس له أن يستبدل غيره بنفسه، وإن جاز له عزل نفسه.

والضرب الثاني: أن يستخلف عليه معينًا له فيُرَاعَى مخرج التقليد، فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال:

أحدهما: أن يتضمَّن إذنًا بالاستخلاف فيجوز له أن يستخلف، ويكون من استخلفه نائبًا عنه يعزل بعزله إن لم يكن مسمَّى في الإذن، فإن سمَّى له من يستخلفه فقد اختلف الفقهاء فيه إذا استخلفه هل ينعزل بعزله؟ فقال قوم: ينعزل، وقال آخرون: لا ينعزل.

والحالة الثانية: أن يتضمَّن التقليد نهيًا عن الاستخلاف، فلا يجوز له أن يستخلف، وعليه أن ينفرد بالنظر فيه إن قدر عليه، فإن عجز عنه كان التقليد فاسدًا، فإن نظر مع فساد التقليد صحَّ في نظره ما اختص بالإذن من أمر ونهي، ولم يصح منه ما اختص بالولاية من عقد وحل.

والحالة الثالثة: أن يكون التقليد مطلقًا لا يتضمّن إذنًا ولا نهيًا، فيعتبر حال العمل، فإن قدر على التفرُّد بالنظر فيه لم يجز أن يستخلف عليه، وإن لم يقدر على التفرد بالنظر فيه جاز له أن يستخلف فيما عجز عنه، ولم يجز أنه يستخلف فيما قدر عليه.

__________

(1) هو إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروزي الشافعي، إمام عصره في الفتوى والتدريس، أخذ الفقه عن ابن سريج، وشرح مختصر المزني، وله مصنَّفات كثيرة، وأقام ببغداد دهرًا طويلًا يفتي ويدرس، وأنجب من أصحابه جماعة، وإليه ينسب المروزي ببغداد الذي في قطيعة الربيع، ثم ارتحل إلى مصر آخر عمره وأدركه أجله بها، وتوفِّي رحمه الله تعالى سنة أربعين وثلاثمائة، ودفن بالقرب من الشافعي رضي الله عنه.

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 0
  • 3,031
المقال السابق
(84) الرسوم والحقوق (5)
المقال التالي
(86) فيما اختص ببيت المال من دخل وخرج (7)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً