قواعد في تلقي المصائب

منذ 2014-12-01

مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء

مِن الحقائق التي يتفق عليها البشرُ: أن هذه الدنيا مظنةُ الكَدَر، تتنوع فيها المصائب وتتقلب على ألوانُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155]، لا فرق في ذلك بين مسلمٍ وكافر، إلا أن المسلمَ مع هذا الواقع الكوني الذي لا ينفك عنه أحد، واقع: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]؛ يتعامل مع المصائب بمنظارٍ آخر؛ يخفِّف عليه وقعَ المصاب، بل وربما انتقل معه إلى درجةِ الرضى، وتلك منزلةٌ عليّة، يمنّ اللهُ بها على مَن يشاء مِن عباده.

ولِما سَبَقَ في عِلْمِ الله مِن مضيّ سُنة الابتلاء في الخلق؛ صار الإيمانُ بالقدَر أحدَ أركان الإيمان التي لا يتم إيمانُ عبدٍ إلا به.

لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها على صورة قواعد (ومما لا يَخفى أن الاستدلالَ على كل جزئية منها بالتفصيل مما يطول معه المقام، وقد بسطتُ الكلام فيها في محاضرة بعنوان: قواعد في التعامل مع الشدائد)، هي:

القاعدة الأولى: أن البلاء لا ينفك عنه أحدٌ؛ فلستَ وحدَك -أيها المبتلى- في هذا الطريق، وهذا مما يَسْلو به الإنسانُ، على حدّ قول الخنساء:

ولولا كثرةُ الباكين حولي *** على إخوانهم؛ لقتلتُ نفسي

القاعدة الثانية: تَذكَّر جيداً أن الله تعالى لا يُقدِّر شيئاً إلا لحكمةٍ بالغة، وعاها مَن وعاها، وجهِلها مَن جهِلها، وكم في المحن من مِنَح، وكم في المصائب مِن ألطاف! ومِن وراء الابتلاء حِكمٌ وأسرار تعجز قلوبُ البشر وعقولُهم عن إدراكها(وضّحت هذا بشكل أكثر تفصيلاً في القاعدة الثانية من كتابي: قواعد قرآنية).

كم مِن شاردٍ عن ربه، يبتليه مولاه بحادث، فيكون الحادثُ سبباً في توبته ورجوعه لمولاه! وكم مِن حادثٍ أنجى مِن حادثٍ أكبرَ منه! ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون!

القاعدة الثالثة: تيقّن أن جالبَ النفع هو الله، ودافع الضر هو الله، وأن ما يقع لا يخفى عليه، بل كله تحتَ عينه، وأن رحمتَه سبقت غضبَه، وأن الله أرحم بعباده من أمهاتهم اللائي ولدنهم، بل من أنفسهم التي يحملونها، وهذا كلُّه يدعوك لأن تُعلّق قلبَك بالله وحده، ترجوه، تُخبت له، تنطرح بين يديه.

القاعدة الرابعة: تذكّر جيداً وصيةَ النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس -كما هي وصيةٌ للأمة كلها-: «ما أصابك لم يكنْ لِيخطِئك، وما أخطأك لمْ يكنْ ليصيبك» "(مسند أحمد ح[21653] وسنده حسن) فلِمَ الجزع؟! ولمَ التسخط؟!
ثم تأمل.. ماذا جلب الجزعُ والقلقُ على أهله؟! هل صلحتْ أحوالهم؟! هل ردّ قلقُهم ما كُتب عليهم؟! أبداً، بل خسروا كثيراً!

القاعدة الخامسة: اعرف حقيقةَ الدنيا تسترح:

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها *** صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ  
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها *** مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ  
وَإِذا رَجَوتَ المُستَحيل فَإِنَّما *** تَبني الرَجاءَ عَلى شَفيرٍ هارِ

فمن عرف حقيقةَ الدنيا، وفَقِهَ سنةَ الله فيها؛ استراح.

القاعدة السادسة: تذكّر أنَّ الفرجَ بعد الكربِ سنَّةٌ ماضيةٌ، وقضيةٌ مُسلَّمةٌ، كالنهار بعد الليلِ، لا شكَّ فيه ولا ريب، فما عُرِفَ أن كربةً استحكمت استحكاماً لا فرج معه، بل لابد من فرج: إما فرج حسي، أو فرج معنوي.

وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب

القاعدة السابعة: أحسِن الظن بربك؛ فإن هذه عبادة بذاتها:

أحسن الظن بربٍّ عوّدك *** حسناً أمسِ، وسوّى أَوْدك  
إن رباً كان يكفيك الذي *** كان بالأمس؛ سيكفيك غدك

وخيرٌ من ذلك قول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيحِ: «أنا عند ظنِّ عبدي بي؛ فلْيظنَّ بي ما شاءَ» (مسند أحمد ح[16016]، وصححه ابن حبان).

القاعدة الثامنة: تَذكّر دائماً أن اختيار الله خيرٌ من اختيارك لنفسك، هذه ضعها نصب عينيك؛ لأنها تُورثك عبادةً أخرى، وهي: الرضى عن الله! والرضى عن الله عبادةٌ جليلة، مَنْ فقدها فَقَدَ خيراً كثيراً.

قال الأعمش: كنا عند علقمة فقُرئ عنده هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] فسُئل عن ذلك؛ فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها مِن عند الله؛ فيرضى ويُسلّم.

القاعدة التاسعة: كلما اشتدت المحنةُ، فاعلم أنها علامةٌ على قرب الفرج، هذه سنةٌ كونية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا» (مسند أحمد ح[2803] وسنده حسن).

القاعدة العاشرة: لا تفكر بكيفية الفرَج! فإن الله إذا أراد شيئاً يسّر أسبابَه، وقد تكون هذه الأسباب لا تخطر على البال، وسل نفسك: هل كان موسى يعرف كيفيةَ الفرَج التي أُوحي له بها حين وقف أمام البحر؟!

أعرفُ قصةَ أسرةٍ كانت مسحورة، كان فرَجُها بعد حصول طوفان تسونامي (1425هـ - 2005م) الذي ضرب جنوبَ شرق آسيا، وراح ضحيته أكثرُ من 150,000 نفسٍ، فكان هذا الطوفان سبباً في الفرج لآخرين!

القاعدة الحادية عشرة: تجمّل بالصبر، وتحلَّ بالرضا، واحتسب الأجر، وتذكّر ما أعده اللهُ لأهل البلاء: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، وتأمل في أمر الله لنبيه بقوله: {وَبَشِّرِ}، فسبحانك ربي ما أرحمك وألطفك!

القاعدة الثانية عشرة: عليك بالدعاء؛ فسِهامُه صائبة، وعواقبه مجابة، ولن يخسر الداعي قطّ؛ فإنه إمّا أن تنكشف كربتُه عاجلاً، أو يَدفع اللهُ به كربًا أشدّ -لا يعلمه-، أو يجدها مدخرةً له يوم القيامة.

وأخيراً: إذا ضاقت نفسُك بهمّ المصيبة، وثَقُل كاهلك بحملها؛ فانطلق واسجد، وضع أثقالَ الأحزان بسجدةٍ بين يدي مولاك، وأَكثِر من تسبيحه وذِكره، فلنعم الربُّ الذي قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِين} [الحجر:97-98]، وأبشر بقُرب الفرَج.

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.

  • 14
  • 0
  • 23,869

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً