سباق المطامح وصراع المطامع!

صفية الودغيري

النفس الكريمة تسمو بصاحبها عن سَفاسِف الأمور، وأَوْشالِ الحظوظ، وأَخَسِّ الرَّغبات وأَصاغِرها، وترْفعُه عن الدَّنِيَّة في الدِّين، والخصْلَة المَذْمُومَة، والخُلُق الوَعْر، ويرْتقي ﻣﺪﺍِرﺝَ ﺍﻟﻌزِّ ﻭﺍﻟﻜَﻤﺎﻝ..

  • التصنيفات: تربية النفس -

إنَّ الوصول إلى العلا لا يحتاج إلى قُوَّة إرادة الإنسان البدنيَّة، ولا إلى متانَة الظَّهر وشِدَّة العَضَل، وصلابَة اليَد والسَّاعِد، بل يحتاج إلى قُوَّة إرادة الإنسان الروحِيَّة، التي تتحَكَّم بتوجيه العقل المُوَلِّد للطَّاقة الفِكريَّة، واستِثْمار الخيالِ الأَسْمى المُنْتِج لطاقة الابْتِكار والإبداع.

كما أن الإيمان يدْفَع العبد إلى غايةٍ أسْمى من غاياتِ الدنيا السَّاقِطَة، وإلى المُجاهَدَة لولوجِ الجنَّة في سباقِ الطَّاعات والصَّفاء الأخوي، والحُبِّ الخالص لله، والحرص على المقدِّمة وعلى هُوِيَّة الانْتِساب إلى الزُّمرة الأولى الفائِزَة، التي توحَّدت قلوبُها بوحدةِ الإيمان وتوشَّحت بوَشْحِ مسكِه وتدثَّرَت بدِثارِه، فمنه تنطلِق إلى القِمَّة وبقواعدِه تسْتبْصِر وتسْتَرْشِد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا اختلافَ بينهم ولا تباغُضَ، قلوبُهم قلبٌ واحدٌ، يُسَبِّحونُ اللهَ بكرةً وعَشِيًّا» (أخرجه أحمد).

 

وإنَّ مَكْمَن القوَّة والسُّؤْدُد..

أن يسْتَغْني الإنسان بفِكْره المُنتِج وخيالِه المُبْدِع، ويرْتاد رياضَ المعرفة ويَرْتشِف من ينابيعِ الإيمان، فيتحَرَّر من قيودِ المال وأَغْلال الثَّروة والجاه، ويظلَّ في حِرْزٍ من جبروتِ المفسدين والمُتْرَفين، ومن سلطانِ الاستبداد والطُّغيان، والأخلاطِ المُرْدِيَة والشَّوائِبِ المُغْرِيَة التي تُعَكِّر الصَّفاء وتوهِم بالاسْتِغْناء في غير موْضِعِه، تصديقا وإِذْعانًا للحُكمِ الإلهي والمُشَرِّع العادِل، كما جاء في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} [العلق:6-7].

وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا . وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:17-18].

فقلَّةُ المال مع وفْرة العلم والمعرفة غنيمةٌ وسعادة، وثروةٌ لا تْصَدأ، ولا تتحلَّل، ولا تَنْتَن، وكثرةُ المال مع قلَّة العلم شقاءٌ وخِذْلان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى ّغنى النفس» (أخرجه مسلم).

 

فالنفس الكريمة تسمو بصاحبها عن سَفاسِف الأمور، وأَوْشالِ الحظوظ، وأَخَسِّ الرَّغبات وأَصاغِرها، وترْفعُه عن الدَّنِيَّة في الدِّين، والخصْلَة المَذْمُومَة، والخُلُق الوَعْر، ويرْتقي ﻣﺪﺍِرﺝَ ﺍﻟﻌزِّ ﻭﺍﻟﻜَﻤﺎﻝ، فيصْغُر العالَم في محيطِ بصرِه، ويتلاشى كبُقْعَةٍ صغيرة جرفَت إلى طينَتِها الصَّلبَة المتشقِّقَة ما اسْودَّ من النَّباتِ والأشجار، وما أَنْهكَ أَدْنِياءَ العَبيد من الرَّغَباتِ والنَّزوات، والأفكارِ السَّاقِطَة، والمذاهِب المُنْحَرِفة، قانِعًا بما يَزْرعُه من الطيِّبات، وما يلْتقِطُه من سنابلِ الخَيْرات، وما يَحْصُدُه من الرُّطَب وأَعْذاقِ الطَّاعات، يرومُ مرامَ العارفين بالله، مُقْبِلًا على الله إقبالَهُم عليه، ومُتحَلِّلًا ممَّا تحلَّلوا منه، من قيود العبوديَّة وفِتَن المادَّة، وما اسْوَدَّ من الضَّغائنِ والأحقاد، والخطايا والآثام، والأَخْلاطِ الرَّديئة، ويرْتوي من رَشْفِ الفطرة حتى تطيبَ نفسُه بسِقائِها العذْب، ويتَنفَّس بأنفاسِها في فضائِه الرَّحْب..

 

لا يكدِّرُه تلبُّد الغيوم، ولا يُلَوِّثُه دخَّانُ السُّموم، ويَغْشاه ما يغْشى الأطفالَ في الأعياد من المَرحِ والغِبطَة، طروبًا بما ملكَ من مفاتيحِ السَّعادة.. كأنَّه جمع الحكمة بين قبضَةِ يدِه فاستغْنى بها عمَّن سواها، وملكَ القدرةَ في ساعدِه وزِنْدِه، فلا يُشَقُّ له غبار ولا يُهْزَم له سلطان..

 

قد ملَكَ مفتاحَ العلومِ والمعارف فشعَّ قلبُه بنورِها، وتفصَّد جبينُه من قَطْرِها فملأَ قارورَةَ الطِّيب، وضمَّخ الأجساد بطِلائِها، وعطَّر الأرواح بأريجِها، فصار قلبَ ضميرِه، وضميرَ قلبه، وحاكِمَ عقله ومالِكَ لِجامِه.. يسوقُ الناس سوْقًا حثيثًا إلى منابرِ النُّور، يرِفُّ عليهم الأمان والسَّلام، ولا يُساقُ بهم حيث تتعّثَّر الأذيال في مواطِئِ الزَّلات، ومراتِعِ الانْدِحار والانْسِحاق ومُنْعرجاتِ المُحَرَّماتِ البغيضَة، والشَّهواتِ الخَسيسَة.. ويسيرُ بالإنسانية نحو القمة، تقودُها إرادةٌ واحدة وغايةٌ نبيلة  تَبْعَثُ إيمانَها الخامِل، وتَشْحَذ هِمَّتَها  للإقبالِ على الطَّاعات، وتهذيبِ النَّفس بمكارمِ الأخلاق، وقد ملكوا الدُّنيا وما ملكَتْهم، وطوَوْا نعيمَها بين حناياهُم وما طوَتْهُم بين قُطْرَيها.

 

وإن مكمن الضعف والانكسار..

 أن يسْتَغْني العبد المَمْلوك عن سيِّده  المالِك الحَق سبحانه، فيتوهَّم أنَّه المتفرِّد بالسُّلطانِ والجاه، والمُسْتحْوِذ على الثَّروةِ والمال، وصاحِبُ المكارِمِ والكَرامات، ومانِحُ العَطايا والهِبات، والمُتَفَضِّل بالنِّعَمِ المُسْداة.. ويتخيَّل خيالًا هائِمًا أنه بلغَ قمَّة القدرة، فصارت الشَّمس والقمر، والنُّجومُ والكواكِب، والأفلاكُ السَّيَّارَة طَوْعَ يمينِه، وذَرَّاتُ الهواءِ يتنفَّسُها الكونُ والكائِناتُ بإرادَتِه، والطُّيورُ سابِحَة في الفضاءِ بمشيئتِه، وأسرارُ الحِكْمَة والمعرِفَة في صدرِه، وأصولُ البلاغةِ والفصاحَة تجْري على لسانِه.. يرى الحقَّ سَفَهًا وجهلًا، والجهلَ حقًّا ونورًا يحْبِسُه، ليصلَ الليلَ بالنَّهار والنَّهارَ بالليل..

 

والاستغناء لا يكون إلا بالحق..

لأنَّه يكشِف عن البصَر والبصيرة حقيقَة القوَّة بالعدلِ والإِنْصاف، والإذْعان للمالِك سبحانه والافتقار إلى رحمَتِه، تصديقًا بخطابِه الذي لا يقْهرُه شَك: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ . إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ . يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:13-15].

وحقيقة الاستغناء في معناه الأسْمى، الذي يهَب العبدَ المؤمن قوَّةً يشِعُّ نورُها إيمانًا، ينْطِق بلسانِ الحق، ورسولًا مبشِّرًا بالخير والنَّفع، لا يُثْنيه عن تحقيق غاياته، ما يُثْني سواه ممَّن اسْتغْنوا بأنفسُهِم العارِيَة عن الفضيلة، واغْترُّوا بقُدُراتهِم وملكاتهِم، واتَّكلوا على سواعدهِم لا على قدرة الله ومشيئتِه..

متمسّْكًا بالقوة الحقيقية التي تسَعُ مرحَ الطُّفولة، وزَهْو الشَّباب، ونُضْجَ الكهولة، وهرمَ الشَّيخوخة، وتبعَثُ في الرُّوح انْتشاءَ البسَمات، واسْتِنْشاق نسائِم الأفراح، ودَفْع عواصِف الأَتْراح، ومسيلِ الدُّموعِ عن خدِّ الحياة..

 

أما الاستغناء بالباطل..

فهي قوَّةٌ بالجهلِ والضَّلال، والطُّغيانِ والجشَع، تُغْرِق صاحِبَها في ظُلُماتٍ بعضُها فوقَ بعض، كما أخبرنا جل وعلا فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:40].

وهي قوةٌ غاشِمَةٌ تغزو العقولَ فتُفْسِدُها، والقلوبَ فَتُفَرِّقُها مذاهِبَ شَتَّى، في كلِّ مَعْقِلٍ للشِّقاقِ والنِّزاع ينْتَصِرون، وقد هانَت كرامَتُهُم فهانوا، ولانَت شكيمَتُهم فضعفوا، وفَتَرت هِمَّتُهُم فانْهَزَموا، وقَلَّ زادهُم فانْكَسروا، وخرسَت ألسِنَتهُم فلم يجْهَروا إلا بالْتِواء،  حتى صاروا حَسيري  البصَر والبصيرَة،  وموطِئًا للأقدام، وأُلْعوبةً في أيدي الطَّمع، يطْمَحون إلى الغنى الفاني لا إلى امتلاكِ الثروة التي لا تفْنَى ولا تذوب..

 

وهنا تبدأ مرحلة السقوط والانهيار..

 يصيب الله بها كلَّ من طغى واسْتبَد، واغترَّ بنَضَارَةِ الدُّنيَا وَزَهْرَتِها، واطْمَأَنَّ لرغَدِ العَيش، وَالتَّقَلُّبِ في العَافِيَة،  وطَمِعَ في الدنيا بأكثر مِنْ نصيبِه وحظِّه.. وهذا مصير من يتحوَّل سباقُه في الدُّنيا إلى سباقِ المطامع الذَّاتية والمصالح المادِّية، فيفقد لأجلها قيمَه الدِّينية، وأخلاقه، وفضائله، وضميره الإنساني، ومقوِّمات شخصيته، ويتجرَّد من هويَّتِه، ويَنْسَلِخ عن أصوله وفروعه، ويقتلِع ما يربطُه بمَنْبَتِه وأرضِه، حتى يصل إلى مرحلة من السِّباق تَبْرُد في صُلْبِه جَذْوَةُ الحياة الكريمة، ولا يتبقَّى من تاريخِه إلا أكوامُ أوراقٍ بالية في أدراجِ ذاكرتِه..