موسيقى الموسيقى!!

منذ 2014-12-12

سيد يعبر بالموسيقى ولا يقصد حقيقة التشبيه، ولا يلزم من التشبيه الصفات كلها،  بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، وهي هنا الوزن والتنغيم والقوة والشَّد والجاذبية والتأثير.. والمقصود التقريب لأَفهام السامعين بِذِكْرِ ما أَلِفوا سماعَهُ. فما زاد سيد قطب رحمه الله على أن اقتدى بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، في تذوقه للقرآن، بينما يَحصُرُ قومٌ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض السنن! وما يمنعنا أن نعتبره مجدِّدا لهذه كباقي تجديد أمور الدين وشرائعه وسننه؟!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد فهذا الفصل معقود تكرمةً لآل جرَّاح-غُلاة التجريح- وهي مأدبة رثاء ووليمة عزاء على ما رُزِئوا به من فهم وتخريج، وتأصيل وتفريع، وعلى ما نابهم من فقد الذوق وجفاف الطبع وانغلاق التصور..

فمما طاروا به فرحًا ونشروه في كل بلادٍ، وذكروه في كل نادٍ، وشغَّبوا به على العباد، مكتوب على مطوية لتكون خفيفة المحمل طيبة الريح! تسهيلاً لتداولها... ذالكم هو قول سيد قطب عن ألحان القرآن أنها ذات إيقاعات موسيقية، وذكروا دليلهم من تفسيره لسورة النجم!

ونحن نزيدهم أن الموسيقى وما اشتُقَّ منها (موسيقى موسيقي، موسيقية..) ذُكرت في "الظلال" مرات عديدة، فما مراد سيدٌ من استخدامها؟ وماذا فهم القوم منها؟! وما حكم استخدامِهِ لها، وما وجه إنكارهم لها؟ وما موقفنا منه ومنها ومنهم؟

أولا: بحثت عن أصل كلمة "موسيقى" في بعض كتب اللغة كاللسان فلم أجد لأصلها ذكرًا، ومع ذلك نحتمل لها أسوأ الاحتمالات، فنجدها تُصنَّف في رَنَّةِ ونغمةِ مجموعةِ آلات الغناء من ربابة أو كمنجة أو عود أو زمّارة... إن بلغت أكثر من ذلك فقد تكون هي إحدى هذه الآلات، أو غاية السوء أن تشملها كلها... فماذا بعد ذلك؟!

ثانيا:دَعْنا نُعْدِم قَوْلَ ابنِ حزم رحمه الله، ونُلغي الخلاف الحادث، ونهتبله إجماعًا على حرمة الآلات بأنواعها والغناء جميعه، حتى الأناشيد، وهو على الأقل (رأي) كل سلفي من هذا النوع! فننطلق من أن الغناء والمزامير حرام، والمعازف حرام- وهو الذي ندين لله تعالى به-.

أما المعازف:

فقد أخرج البخاري عن الأشعري سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: « «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف» » (البخاري في صحيحه، برقم:[5590] والفتح:10/70 كتاب الأشرب].

و"المعازف جمع معزفة وهي آلات الملاهي، ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء، والذي في صحاحه أنها آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي، وفي حواشي الدمياطي المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزف وعلى كل لعب عزف"[عون المعبود 13-185] والفتح المصدر السابق.

و"عزف: عَزَفَ يَعْزِفُ عَزْفًا: لها. والـمَعازِفُ:الـمَلاهِي، واحدها مِعْزَف ومِعْزَفة... والـجمع معازِفُ رواية عن العرب، فإِذا أُفرد الـمِعْزَفُ، فهو ضَرْب من الطَّنابـير ويتـخذه أَهل الـيمن وغيرُهم، يجعل العُود مِعْزفًا. و عَزْفُ الدُّفِّ: صوتُه. وفـي حديث عمر «أَنه مرَّ بعَزْف دُفٍّ فقال: ما هذا؟ قالوا: خِتان، فسكت»؛ العَزْفُ: اللَّعِبُ بالـمَعازِف، وهي الدُّفُوف وغيرها مـما يُضرب" [ لسان العرب:9/244].

وأما المزامير:

ففي اللسان: "زمر الزمر بالـمِزْمارِ زَمَرَ يَزْمِرُ ويَزْمُرُ زَمْراً وزَمِيراً وزَمَراناً غَنَّى فـي القَصَبِ.... يقال للذي يُغَنِّـي الزّامِرُ والزُّمَّارُ ويقال للقصبة التـي يُزْمَرُ بها زَمَّارَةٌ...... الـمِزْمَارُ والزَّمَّارَةُ ما يُزْمَرُ فـيه الـجوهري الـمِزْمارُ واحد الـمَزامِير وفـي حديث أَبـي بكر رضي اللَّه عنه أَبِمَزْمُورِ الشيطان فـي بـيت رسول اللَّه وفـي رواية مِزْمارَةِ الشيطان عند النبـي صلّـى اللَّه علـيه وسلّـم الـمزمورُ بفتـح الـميم وضمها الـمِزْمارُ سواء وهو الآلة التـي يُزْمَرُ به" [لسان العرب 4/327].

وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه هذا ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «د «خل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني  وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما. فلما غَفَلَ غمزتُهما فخرجتا» » (البخاري؛ برقم:[2906]، ومسلم؛ برقم:[892]، في صحيحيهما). قال ابن حجر رحمه الله في شرحه له: قوله «مزمارة الشيطان» بكسر الميم يعني الغناء أو الدف، لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر. وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد "فقال: يا عباد الله أبمزمور الشيطان عند رسول الله  صلى الله عليه وسلم". قال القرطبي: المزمور الصوت ونسبته إلى الشيطان ذم على ما ظهر لأبي بكر وضبطه عياض بضم الميم وحكي فتحه" (فتح الباري:[2 /570-571]).

ثالثا: إذا كانت هذه معاني المعازف والمزامير، سلَّمنا بحكمها السابق كلها، فأين ستذهب الموسيقى غير هذه المعاني؟!

فنعود عندئذ إلى تحريم الموسيقى وحِماها بإطلاق بما حرَّمنا به الحِرَ والحريرَ والخمر والمعازف والمزامير...

بعد ذلك نأتي إلى مستخدِم هذه المعازف والمزامير ومنها الموسيقى، فنقول: هو مستخدم للحرام، ومن حسَّنها فقد حسَّن الحرام، ومن امتدحها فقد امتدح الحرام، ومن أثنى على فاعلها فقد أثنى على واقعٍ في حرام، وقد شجَّع على الحرام.... فهل تخالِفون في هذا أيها القوم؟!. جوابكم بـ(لا).معلوم مسبقًا...

رابعا: بعد هذا وذاك وذلـــك، نقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى  رضي الله عنه: « «يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» »(البخاري؛ في صحيحه، برقم:[5048]، باب حُسن الصوت بالقراءة للقرآن).

فكيف تفهمون هذا الحديث يا  فقهاء الفن واللغة؟! وعلى أي الأنواع المذكورة سابقًا من آلات اللهو تحملون هذا المزمار! وماذا ترتبون عليه من أحكام؟

أتُكذبون بالحديث أم تصدقون؟!

وإن صدَّقتم فبأي لسان تشرحونه؟!

أمَّا نحن فعندنا في المجازات اللغوية ما لا يُشكل علينا فهم مثل هذه التعابير... وقد كفانا الأوَّلون مؤنة التكلف والتعسُّف، ومما جاء في تفسيرهم لهذا "اللفظ الغريب": «مزمارًا» بكسر الميم أي صوتًا حسنًا ولحنًا طيبًا. قال الحافظ: المراد بالمزمار الصوت الحسن، وأصله الآلة. أطلق اسمه على الصوت للمشابهة من مزامير آل داود أي من ألحانه. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن. وأصل الزمر الغناء، وآل داود هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه، وكان داود صلى الله عليه وسلم حسن الصوت جِدًّا. انتهى"[تحفة الأحوذي:10 /241].

قال الحافظ ابن حجرعن عطاء عن عبيد بن عمير قال: "كان داود عليه السلام يتغنى، يعني حين يقرأ ويَبكي ويُبكي. وعن ابن عباس: أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم. وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت. وسيأتي حديث: أن أبا موسى أعطي مزمارا من مزامير داود" في "باب حسن الصوت بالقراءة"[فتح الباري:9 /90].

وقال الحافظ أيضًا: "وأخرج بن أبي داود من طريق أبي عثمان النهدي قال دخلت دار أبي موسى الأشعري فما صنج ولا بَرْبَط ولا ناي أحسن من صوته. سنده صحيح، وهو في الحلية لأبي نعيم، والصنج بفتح المهملة وسكون النون بعدها جيم هو آله تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط بالموحدتين بينهما راء ساكنة ثم طاء مهملة بوزن جعفر هو آله تشبه العود فارسي معرب، والناي بنون بغير همز هو المزمار"[فتح الباري:9/116-117].

ولم يقل أحدٌ منهم أن داود صلى الله عليه وسلم كان له طبل أو زمارة أو ربابة.. حاشا وكلا. ولا كان أبو موسى رضي الله عنه يملك شيئًا من ذلك، ولا ورد أنها كانت في شَرْعِ مَن قبلنا وحُرِّمَت.

أين أوتي داود صلى الله عليه وسلم هذه المزامير؟!

أليست فيما كان يؤوِّب به من كتاب الله تعالى له؛ وهو الزبور؟ أليس الزبور كلام الله تعالى الذي أوحاه إلى نبيه الكريم داود صلى الله عليه وسلم؟ نؤمن به كما نؤمن بالقرآن الكريم؟

هذا المزمار الذي أعطي منه أبو موسىرضي الله عنه؛ أين أُوتيَه، وفيما ظهر عنه؟! أليس وهو يتلو كتاب الله تعالى، وهو القرآن الكريم، كلام الله المنزل؟ بل وأعظم كتب الله تعالى المنزلة على أعظم رسول أرسل صلوات الله عليهم جميعا وسلامه.

على لسان مَن ثبت هذا الوصف لصوت أبي موسى، أليس على لسان أصدق الخلق وأتقاهم لله وأعرفهم به؟

هل تحملون ما أُوتيَه داود صلى الله عليه وسلم على آلات اللهو الطرب، أم تبحثون له عن استعارة وتشبيه؟!  تُبّرِّئون بها أنبياء الله من فعل المعصية، وتستثنون فعلهم مما تُحَرِّمون؟

والسؤال نفسه فيما يتعلق بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى رضي الله عنه؟!

فإذا كان المزمار هنا ليس هو الآلة، وإنما يعبر بها عن حسن الصوت والترنم وجمال الرنّة ورِقة النغمة وقوة الأخذ وشدة التأثير، مع أن أصله الآلة كما قال الحافظ، أو أصله الغناء كما قال النووي، فلن تكون الموسيقى أكثر من آلة، ولن تُعدَم "الموسيقى" أن يعبَّر بها عن حسن الصوت وطِيب اللحن.

ورغم أن أصل المزمار الآلة كما قال ابن حجر إلا أن النبي رضي الله عنه أطلقه على حسن الصوت فقال الحافظ: "المراد بالمزمار الصوت الحسن وأصله الآلة أطلق اسمه على الصوت للمشابهة من مزامير آل داود أي من ألحان"؛ فلا يضل من يعبر بالموسيقى ويكون مراده بها قوة التنغيم وشدة الإيقاع وانسياب الرنين وحسن الصوت...

فكل ما في الأمر أن سيد قطب استعار هذا المعنى من معاني المزمار وسماه باسمه المشهور اليوم، تقريبا للسامعين بما يعرفون، واستخدمه في التعبير على الحسن والجمال الذي أودعه الله تعالى قرآنه العظيم، وليس هذا ببعيد مما فعله النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم مع نبي الله تعالى داود صلى الله عليه وسلم كما استعمله مع الصحابي الجليل أبي موسى رضي الله عنه. وحاشا وكَلَّا أن يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق، وحاشا وكلا أن يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم في كلماته ما لا يليق أو يشبِّه بما لا يجوز.

فما زاد سيد قطب رحمه الله على أن اقتدى بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، في تذوقه للقرآن، بينما يَحصُرُ قومٌ الاقتداءَ بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض السنن!

ومشكلة بعض الناس أنهم يُسَطِّحون المفاهيم والتعابير، ولا يرجعون إلى تأصيلها لغة وشرعًا، ولا إلى أصولها، فيسبروا غورها ولا يبقَوْن على سطوحها يناوِشون مِن بعيد مَن تَضَلَّع مِن زمزمها!

وفي هذا قال سيد رحمه الله عن هذه(الموسيقى) وكأنه يُعَرِّض بهم: "الذين يعرفون شيئا عن الأصول الموسيقية لن يجدوا صعوبة في فهم مدلول هذا الكلام، ولتقريبه للآخرين. يراجَع فصل: التناسق الفني في كتاب التصوير الفني في القرآن"[هامش الظلال:3695].

خامسا: هذا ومن أوائل ما تجدون في الصحيح كتاب بدء الوحي.. أَمَا وجدتم فيه ثاني حديث بعد حديث النيات.. وما أدراك ما حديث النيات. بعده حديث عائشة رضي الله عنها «أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال كل ذاك؛ يأتي الملك أحيانًا في مثل صَلصلة الجرس فيفصم عَنِّي وقد وعيت ما قال؛ وهو أشده علي، ويتمثل لي الملك أحيانا رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» (البخاري؛ برقم [2]،ومسلم؛ برقم:[2333]، في صحيحيهما)، وهو بعد حديث النيات لو صحَّت النيات.

أما خَطَر ببالكم كيف شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الوحيَ الشريف بصَلصلة الجرس؟!

وللجرس معانيه في لغة العرب، فقد جاء في لسان العرب: "الـجَرْسُ: مصدرٌ، الصوتُ الـمَـجْرُوسُ.والـجَرْسُ: الصوتُ نفسه. و الـجَرْسُ: الأَصلُ. .. وقـيل: جَرَسَ الطائرُ وأَجْرَس صَوَّتَ. ويقال: سمعت جَرَسَ الطير إِذا سمعت صوت مناقـيرها علـى شيء تأْكله. وفـي الـحديث: فتسمعون صوتَ جَرْسِ طَيْرِ الـجنة؛ أَي صوتَ أَكلها"[لسان العرب:6/35].

أما في السنة فالجرس لا يخرج عن المزامير في الأصل، كما في حديث أبي هريرة رفعه «الجرس مزامير الشيطان» (مسلم؛ في صحيحه، برقم:[2114]).

قال ابن حجر رحمه الله في فكِّ هذا الإشكال: "فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبهُ الوحيُ وهو محمود، والمشبه به الجرس وهو مذموم، لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر من الملائكة؟ والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس فذكر ما أَلِفَ السامعون سماعَه تقريبا لأفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان)[فتح الباري:1/28].

وما يمنعنا من أن نحمل كلام سيدٍ رحمه الله على هذا المحمل، وما لنا لا نفهمه على هذا المنوال، وما يعترضنا أن نعتذر له، بل ونستدل له بهذه الأدلة مع تحسين الظن بالمسلمين، حتى ولو لم نوافقهم على استعمال معيَّن؟!

بل ما يمنعنا أن نعتبره تجديدا منه رحمه الله لنوع من التعامل والتذوق لآي القرآن الكريم، فيكفينا عن الرنة والموسيقى والغناء بحسن موسيقاه، كما أغنانا في مناهجنا وعقائدنا عن سائر ما وقع فيه البشر؟ فهو القرآن الهادي للتي هي أقوم في كل شيء.

فسيد يعبر بالموسيقى ولا يقصد حقيقة التشبيه، ولا يلزم من التشبيه الصفات كلها،  بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، وهي هنا الوزن والتنغيم والقوة والشَّد والجاذبية والتأثير.. والمقصود التقريب لأَفهام السامعين بِذِكْرِ ما أَلِفوا سماعَهُ.

أما الإيقاع: وفعضهم أحدث وقعًا على "الإيقاع، وكأن الغرابة اجتاحت كل اللسان العربي، وصار القاموس الذي يُرجَع إليه في فهم الألفاظ وشرحها هو ما درج على ألسن الناس  وهو ما يسمَّى بالعرف أو قاعات الحفلات!

أمَا كان يكفي أحدَنا أن يرجع إلى الكلمة نفسها فيجد فيها معناها – بشرط ألاَّ يحدد معنى مرادًا مسبقًا- فإن انغلقت عليه فليطلع في لسان أو قاموس أو مختار...

والإِيقاعُ: "من إِيقاع اللـحْنِ والغِناءِ وهو أَن يوقع الأَلـحانَ ويبـينها، وسمى الـخـلـيل، رحمه الله، كتاباً من كتبه فـي ذلك الـمعنى كتاب الإِيقاع.."[اللسان:8/408].

وبهذا المعنى للإيقاع نعود إلى نكتة التعبير بالجرس والمزامير... وقَد تبيَّن وجهُ جوازه من الوجهة الشرعية بلا نكيرٍ..فلا نكير..

ولو عدنا إلى كلام سيد قطب رحمه الله في تفسيره لسورة النجم، حيث كانت اللفظة التي آخذوه بها.. فإننا نجده يشرح بوضوح ماذا يقصد من هذا التعبير، وأي معنى من معاني الموسيقى والإيقاع يقصد.. ولكن أسلوب البتر والسَّتر.. بتر على مستوى النقل وآخر على مستوى العقل.. وستر الحقائق.. كل ذلك يجعل الأمور غامضة مخفية مخيفة!

قال سيد عن الإيقاع الذي يقصده: "الإيقاع الموسيقي في القرآن يتألق من عناصر شتى: من مخارج الحروف في الكلمة الواحدة، ومن تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة، ومن اتجاهات المد في الكلمات، ثم من اتجاه الفصلة المطردة في الآيات ومن حرف الفاصلة ذاته (وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتاب التصوير الفني) وجميع العناصر التي يتألف منها الإيقاع في هذه السورة –يقصد سورة الرعد- واحدة فيما عدا اتجاه المد وحرف الفاصلة في القسم الأول منها حتى أية 5 فمد الفاصلة وحرفها:"يؤمنون. يوقنون.يتفكرون. يعقلون.خالدون" وبقية السورة:"العقاب. هاد. بمقدار. المتعال. بالنهار ....إلخ"[الظلال:4/2039 هامش]

أرى – والله تعالى أعلم- أن القوم لهم أيضًا مشكلة مع الأصل… الأصل الذي هو كون اللغة وسيلة متاحة يصل بها المتكلم إلى أنواع البلاغات والإبداع نثرًا أو شعرًا.. ومن الناس من له قوة تصوير ..إلى درجة أن يرسم لك مشاهدَ فنية بكلمات... حتى لكأنك ترى الحركات من وراء الكلمات، والأشخاص مِن وراء العبارات…ومن الناس من له قدرة على فهم هذا الفن وإن لم يكن له إبداع فيه.

ومن هؤلاء الذين يزاولون فن التعبير ويزاولون التفكير والشعور.. سيد- رحمه الله تعالى-.. واقرأ له مثلا حديثه عن الغزوات فكأنك ترى الناس في بدر وفي أحد وحنين.. ذلك فضل الله تؤتيه من يشاء..

وإن شئت فقل: إن لهم مشكلة مع ما يسميه سيدٌ "التصوير الفني".. في اللغة عمومًا.. وفي القرآن خصوصًا.. وهو باختصار يدخل تحت مسألة المجاز أو التشبيه على وجه التقريب والتوضيح والبيان.. لا على وجه التسوية والقياس..

وهذا التشبيه جارٍ مع كل العقول وفي كل اللغات وعند كل الملل، وفي كل المجالات التي تحتاج إلى تقريب معنى أو تعظيم شيء أو التهوين منه...

فالأساس في هذه التشبيهات هي استعارة للمعنىً المشترك.. لغرض ما.. فمالكم كيف تفهمون وتحكمون؟!

 وأخيرًا فإن مسألة التشبيه بالموسيقى أو المزمار من ناحية القوة - لا من ناحية الطرب- يعرفه حتى الكفار، الذين لا علاقة لهم بحلال أو حرام، وهاك هذه المشاهدة التي يرويها سيد نفسه، وهو يتكلم عن تميز أداء القرآن كلام الله تعالى عن الأداء البشر في كلامهم.. ويبرز جوانب من الإعجاز القرآني.. في كل المجالات.. ومنها الإعجاز والجمال الأخَّاذ والدقة المتناهية في جانب الأداء فهاك ما يقول في تفسير قوله تعالى: {قل:فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}[يونس:38]، قال: "وقد ثبت هذا التحدي؛ وثبت العجز عنه. وما يزال ثابتًا ولن يزال. والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان.

والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب ... إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري.. إن له سلطانًا عجيبًا على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحيانًا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفًا".

كل ذلك نقوله لو أن سيد قطب كان أوحد زمانه أو أول من ابتدع هذا الاصطلاح أو هذا الاستخدام.. فهذا الاستعمال لهذه الكلمة في القرآن الكريم ووصفه بها، بل عدِّها من إعجازه.. هل كان سيدٌ أول من ابتدعها؟!..

إن الجواب على هذا السؤال لا بد أنه يكشف عن جهل هؤلاء المتكلمين.. فهم يهرفون بما لا يعرفون.. ويغمطون الناس ويبطرون الحق! أو يجحدون الحقائق ويزوِّرون التاريخ، والشاعر يقول:

مثل القوم نسوا تاريخهم*** كلقيطٍ عية الناس انتسابا

لقد سبق إلى هذا "مصطفى صادر الرافعي" – رحمه الله تعالى- حين ألَّف كتابه " إعجاز القرآن" الذي هو جزء من كتاب كبير هو"تاريخ آداب العرب" وذلك قبل عام 1925م و 1346هـ، وهذا يعني أنه قارب القرن، وعقمت أرحام الأمَّة والأمهات أن يلدن مجدِّدا كهؤلاء الجدد!! يكتشفون ضلاله ثم ضلال سيد في مثل هذه الأمور!

وكتاب مصطفى الرافعي "إعجاز القرآن" قدَّم له أحد العلماء الكبار، الذين لهم حتى عند القوم وزن، وهو معتبر عندهم من المجددين.. إنه صديقه الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك في ربيع الأول سنة 1346هـ حيث طلب منه مؤلفه عرضه على القارئين.. فكتب له عرضا في نحو ثلاث صفحات ومما جاء فيها: استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع، والشاعر الناثر المبدع صاحب الذوق الرقيق، والفهم الدقيق، الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها والمثاني، صديقنا الأستاذ(مصطفى صادق الرافعي) فصنف في إعجاز القرآن سفرًا لا كالأسفا،  أتى فيه – وهو الأخير زمانه - بما لم تأت به الأوائل؛ فكان مصدقا للمثل السائر "كم ترك الأول للآخِر".

ومما جاء في هذا الكتاب قوله: "نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفصح ما تسمو إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة وما تقوَّم به، مما هو السبب في جزالتها ودقة أوضاعها وإحكام نظمها واجتماعها من ذلك على تأليف صوتيّ يكاد يكون موسيقيا محضا، في التركيب، والتناسب بين أجراس الحروف والملاءمة  بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت  الذي يؤديه، كما بيناه في بابه من الجزء الأول-تاريخ آداب العرب- فكان مما لا بد منه بالضرورة أن يكون القرآن أملكَ بهذه الصفات كلها، وأن يكون ذلك التأليف أظهرَ الوجوهِ التي نزل عليها، ثم أن تتعدد فيه مناحي هذا التأليف تعددًا يكافئ الفروع اللسانية التي سبقت بها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقّع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطريّ ولهجة قومه، توقيعا يطلق من نفسه الأصوات التي يشيع بها الطرب في النفس، بما يسمونه في لغة العرب بيانا وفصاحة. وهو في لغة الحقيقة الموسيقى اللغوية..."

وقال: ".. وحسبك بهذا اعتبارًا في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا ينفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار أصواتها ومخارجها، ومناسبةِ بعض ذلك لبعضه مناسبةً طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق، والتفشي والتكرير، وغير ذلك مما أوضحنا في صفات الحروف من باب اللغة في تاريخ آداب العرب)[ص:148].

وهكذا عزف الجرَّاحون موسيقاهم على موسيقى سيد قطب وصادق الرافعي، فلو أمكنهم تكذيبُ صادقٍ أو تسويد سيد؛ أعياهم تسفيه رشيد!

والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.

تاريخ النشر: 20 صفر 1436 (12‏/12‏/2014)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 7
  • 0
  • 21,799

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً