مغلوطات المال العام!

إبراهيم السكران

يتصور كثير من المسؤولين أنه لا مُبرِّر لمساءلته عن ثروته بعد توليه منصبًا رفيعًا، ويعتقدون أن هذا إجراء بلا مُبرِّر شرعي يُجيز ذلك، والحقيقة أن هذا تصور خاطئ، بل إن مبدأ: (من أين لك هذا؟) قرّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد الساعدي عند ابن خزيمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم عن بعض عماله: "فإن سئل: من أين لك هذا؟ قال: أُهديَ لي، فهلَّا إن كان صادقًا أُهدى له وهو في بيت أبيه أو أمه".

  • التصنيفات: فقه المعاملات -

- مدخل:

الحمد لله..

وبعد:

يعيش الإنسان المسلم في هذه البلاد همومًا معيشيةً كثيرة، همّ الإسكان ومنزل العمر الذي يتراءى لخياله صُبحًا ومساءً، وهمّ البحث عن سرير لوالدته في أي مستشفى، وهمّ الطرق المكتظة حتى أواخر المساء، وهمّ مراجعة الدوائر الحكومية، وهمّ رحلة طيران أُلغيت، وهمّ قبول لابنه في الجامعة، وهمّ الابن الذي تخرّج ولم يجد وظيفة، وهمّ قريبةٍ أرملةٍ لا تجد كفايتها، وهمّ الأسبوع الأخير من الشهر حيث انتهى الرصيد وفي انتظار الراتب، إلخ.

أخذتُ مرةً أتأمّل هذه الهموم المعيشية التي تؤرق تفكير غالب أفراد المجتمع، وكلما تأمّلت في هذه المشكلات اكتشفت نفسي أصل إلى نقطة (المال العام) في إدارته وصيانته وحفظه من الفساد.. هذه الهموم المعيشية مرتبطة بشكلٍ أساسيٍ بأداء الأجهزة الحكومية، والأجهزة الحكومية كلها شريانها النابض فيها هو (المال العام)، فأي خلل في إدارة المال العام يؤدي فورًا إلى الخلل في كفاءة المستشفى والجامعة والإسكان والمواصلات والتعليم... إلخ.

وكلما وصلت لنقطة المال العام وجوهرية الدور الذي يلعبه في ضمان مصالح المسلمين أدركت شيئًا من أسرار تعظيم الشريعة والفقه الإسلامي للمال العام.

أريد هاهنا في هذه الورقة أن نناقش سويًا بعض التصورات الشائعة عن المال العام، لكنها تصورات مغلوطة للأسف، سواءً بين بعض أفراد المجتمع، أو عند كثير من الولاة والمسؤولين، أو حتى بين من يُسمُّون أنفسهم النخبة المثقفة.

- «إنما أنا قاسم»:

يتصور كثير من الناس أن (المال العام) هو ملك شخصي لولي الأمر، ويرتبون على هذا التصور نتائج وتصرفات غريبة، وهذا خطأ مخالف للنص واتفاق الفقهاء، فالمال العام ملك للمسلمين جميعًا، وليس ملكًا خاصًا لولي الأمر، وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ في عبارةٍ وجيزة بليغة في الحديث الصحيح الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، وإنما أنا قاسم، أضعه حيث أُمِرت»، وأصل متن الحديث في الصحيحين من حديث جابر ومعاوية، وهذا لفظ الإمام أحمد، وفي روايةٍ للبخاري عن أبي هريرة: «الله المعطي، وأنا القاسم» (البخاري: [3116]).

فإذا كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه لا يملك المال العام، وإنما وظيفته القسم والتوزيع فقط، فكيف بمن يخلف رسول الله من ولاة المسلمين؟! ولذلك حين تعرّض الإمام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية لهذا الحديث قال عنه في تعليق أخّاذ يكشف وجه الأولوية: "فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل ذلك المالك الذي أُبيح له التصرف في ماله" (الفتاوى: [28/268]).

بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنما أنا قاسم» أراد أنه (ليس بمالك)، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني والله لا أُعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمِرتُ» يدل على أنه ليس بمالكٍ للأموال" (منهاج السنة؛ ابن تيمية).

ولذلك لمّا عالج أبو العباس ابن تيمية مسألة المنح العقارية التي يُوزِّعها ولي الأمر على المسلمين بحسب المصلحة بيّن أن هذا ليس تبرعًا من ولي الأمر لأنه ليس ماله الشخصي، بل هذا جارٍ على مبدأ: «إنما أنا قاسم» كما يقول ابن تيمية: "وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم يقسِم بينهم حقوقهم، ليس متبرعًا لهم" (الفتاوى: [28/85]).

ودلالات هذا المبدأ: «إنما أنا قاسم» الذي قرّره رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شأنًا غامضًا لم يذكره إلا ابن تيمية، بل هذا تصورٌ عام بين فقهاء الإسلام منذ فجر الخلافة الراشدة وانتهاءً بفقهائنا المعاصرين، وقد أشار لذلك عمر بن الخطاب كثيرًا، ومن ذلك قوله رضي الله عنه: "أما والله ما أنا بأحقٍ بهذا الفيء منكم، وما أحد مِنّا بأحقٍ به من أحد، وما مِنّا أحد من المسلمين إلا وله في هذا الفيء حق، ولئن بقيت ليبلغن الراعي وهو في جبال صنعاء حقه من فيء الله" (الأموال؛ لابن زنجويه، تحقيق: فياض، ص: [569]).

ولذلك قام الصحابي الجليل كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في الناس خطيبًا زمن خلافته وأكّد هذا المعنى كما يقول الراوي عطية بن قيس: "خطبنا معاوية فقال: إن في بيت مالكم فضلًا عن أعطيتكم ، وأنا قاسم بينكم ذلك، فإنه ليس بمالنا؛ إنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم" (الأموال؛ لأبي عبيد، تحقيق: رجب، ص: [1/363]).

واستمر هذا المعنى مُشعًا حاضرًا في مدونات الفقه الإسلامي في العصر الوسيط، ومن ذلك قول الإمام ابن قدامة رحمه الله في موسوعته المغني لمّا تعرّض لـ (باب: إحياء الموات): "وأما مال بيت المال، فإنما هو مملوك للمسلمين" (المغني: [6/184]).

ويشير لذلك القرافي بعبارةٍ أكثر حسمًا ويتحدّث عن ولي الأمر إذا وقف وقفًا من المال العام ونسبه لنفسه: "فإن وقفوا وقفًا على جهات البر والمصالح العامة ونسبوه لأنفسهم، بناءً على أن المال الذي في بيت المال لهم، كما يعتقده جهلة الملوك؛ بطل الوقف، بل لا يصح إلا أن يوقفوا معتقدين أن المال للمسلمين، والوقف للمسلمين، أما إن المال لهم والوقف لهم فلا، كمن وقف مال غيره على أنه له فلا يصح الوقف فكذلك هاهنا" (الفروق للقرافي؛ ف: [115]، ص: [2/687]).

وفي زمننا هذا يقول أهم مرجعية فقهية معاصرة وهو العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "وغاية ما عند الحكومة أن توزع بيت المال على المستحقين، فمثلًا: هذا مُدِّرس فله ما يليق بعمله، وهذا مُؤذِّن فله ما يليق بعمله... وهكذا، يعني ليس من الحكومة في هذا إلا التوزيع والتنظيم، أما أنت فلك حق، وكل من عمل عملًا متعديًا في المسلمين فله حق من بيت المال" (الممتع: [10/56]).

حسنًا.. ما هي النتائج السلبية التي انبنت على هذا التصور الخاطئ؟ أعني تصور أن المال العام هو ملك شخصي خاص لولي الأمر.

انبنى على هذا التصور أن بعض ولاة الأمور توهّم أن له أن يأخذ من هذا المال ما شاء، وأن يقتطع ويُقطِع من العقارات ما شاء، وأنه حين يصرف للناس من المال العام شيئًا فإنما يتفضل به عليهم، لأنه في نظره ماله الشخصي الذي كرّمه الله به على أساس الولاية، وهذا خطأ مخالف لمبدأ: «إنما أنا قاسم» الذي قرّره رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضحه فقهاء المسلمين، وسيأتي مزيد توضيح لهذا الوهم عند بعض الولاة.

ومما انبنى على هذا التصور الخاطئ -أيضًا- أن بعض الأفراد في المجتمع المسلم صار لا يمانع من الاستيلاء على شيءٍ من المال العام من وزارة أو مستشفى أو بلدية أو مدرسة أو غيرها، والحجة التي يتذرّعون بها يلخصونها في قولهم: أن هذا مال ولي الأمر، وولي الأمر لم ينصفنا، فيحق لنا أن نأخذ من ماله. فانظر كيف آل هذا التصور إلى هذه النتائج الفظيعة!

ولذلك تجد بعض الناس ممن يحمل في نفسه نقمة على الوضع السياسي تجده مندفعًا في الاستحواذ على شيءٍ من المال العام ما أمكنه ذلك، بل لا زِلت أتذكر أنني قابلت وأنا فتى يافع شابًا يكبرني ببضع سنوات، فقال لي بلهجةٍ عامية: "أي فلوس تقدر تاخذها من الدولة لا تتردّد لأنهم ماكلينك أصلًا" وهذا ناشئ من تصور أن هذه الأموال العامة هي أموال خاصة لولي الأمر، ولذلك يريد أن يظفر بحقٍ يرى أن ولي الأمر غبنه فيه، وهذا خطأ شنيع، فهذه الأموال العامة هي أموال المسلمين، فإن أخذت منها هللة واحدة صارت ذِمّتك مُعلّقةٌ بالمسلمين جميعًا.

وقد أشار فقيه الدنيا في زمنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى هذه الظاهرة، ووضح خطورة الأمر لأن الذمة تتعلّق بالمسلمين جميعًا، حيث يقول الشيخ رحمه الله: "خلافًا لمن قال: إن بيت المال حلال، إكذب على الدولة، إسرق من العمل، إعمل ما شئت، فليس هذا حرامًا، والسبب أنه بيت مال المسلمين! فنقول: بيت مال المسلمين أعظم من ملك واحد مُعيّن؛ وذلك لأن سرقته خيانة لكل مسلم، بخلاف سرقة أو خيانة رجل مُعيّن فإنه بإمكانك أن تتحلل منه وتَسلم" (الممتع: [14/354]).

بل إن بعض الناس اعتاد أن يُبرِّر غاراته على المال العام بقوله: "يا رجّال هذي فلوس الدولة!"، واتضح لي بعد مناقشات مع هذا الصنف من الناس أنه يقصد بمفهوم "الدولة" هنا ليس المفهوم المتعارف عليه بأنها ممثل عن المجتمع المسلم، بل يقصد بمفهوم "الدولة" أشخاص الولاة أعيانهم، فالدولة في نظر هؤلاء كيان خارجي مستقل عن المجتمع يُمثِّل أفرادًا بأعيانهم!

ومن استوعب جيدًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا قاسم»، وما وضحه فقهاء الإسلام تأسيسًا على هذا المبدأ؛ استبان له خطأ الصحافة الليبرالية في تعبيرها أحيانًا عن بعض القرارات بعبارة (مكرمة ملكية)، فهذه العبارة فيها تفصيل: فإن كان ولي الأمر بنى مستشفى أو جامعة أو مركزًا للبحث العلمي أو نحو ذلك، من ماله الشخصي الخاص؛ فهذه لا شك مكرمة يستحق بها ولي الأمر الإشادة والتنويه، فقد روى أبو داود بسندٍ جيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، وشكر المموّلين للأعمال الخيرية فيه مصلحة عظيمة بتشجيعهم وتشجيع نظرائهم على الخير.

ولكن إن كان هذا المستشفى أو الجامعة أو الطريق أو نحوه إنما بناه ولي الأمر بالمال العام للمسلمين؛ فهذه لا يليق بالناس أن يقال لهم هذه مكرمة عليكم بينما هي في الحقيقة من أموالهم أصلًا، فهذا فيه إساءة مزدوجة لولي الأمر وللناس، ولكن الصحافة الليبرالية لا تبالي بمشاعر المجتمع، لأنها مؤسسات بُنيت على الوصولية وتزوير الوعي، ولا زلنا نطمح باستصدار توجيه للإعلام الليبرالي للكف عن استعمال هذه العبارة المؤذية لمشاعر الناس.

على أية حال.. هذا المبدأ العظيم: «إنما أنا قاسم» الذي أسّسه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتّب التزامين، التزام على ولي الأمر بأن لا يستعمل المال العام كممتلكات شخصية، والتزام على الأفراد برعاية حرمة (المال العام) وتغليظ الاعتداء عليه لأنه مُتعلِّق بذمّة المسلمين جميعًا، وليس مالًا لأعيانٍ فقط.

وبالجملة فمن أراد أن يعرف شدة حضور (المال العام) في الفقه الإسلامي عامةً، وفي فقه عمر بن الخطاب خاصةً؛ فليقرأ الكتاب الجليل (الأموال؛ للإمام أبي عبيد رحمه الله،) وأما كتاب ابن زنجويه بنفس الاسم (الأموال) فهو كالمستخرج على كتاب أبي عبيد مع بعض الإضافات الطفيفة، وقد أشار لذلك الكتاني، بل لو قال قائلٌ إن سياسات إدارة المال العام -موارده ومصارفه- في الإسلام أسس شطرها الأعظم أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أبعد، والمراد أن من تأمل في كتاب الأموال للإمام أبي عبيد وكيف يتباحث أئمة السلف في التفاصيل الفقهية لإدارة (المال العام) استوعب منزلة هذا المال في دين الله، وشدة عناية أهل السنة به.

- «هلّا جلس في بيت أبيه ليُهدى إليه؟»:

جمهور الولاة والمسؤولين والموظفين العموميين ما إن يتسنمون مناصبهم حتى تأتي إليهم هدايا مباشرة أو منافع أو تسهيلات في إدارات أخرى، هذه المنافع لا تأتي في صورة "رشوة" مباشرة وحادة الوضوح، بل تأتي في صورة هدية و(فزعة) وتأتي أحيانًا مغلفة بلغة الحب والمودة ورغبة التواصل!

خذ مثلًا بعض النماذج الشائعة:

- هذا مزارع يأتي للمسؤول بصناديق التمر الفاخر كل عام، وهذا مستثمر يُدخِل المسؤول شريكًا معهم في تجارتهم بقرضٍ يقرضونه إياه فإذا أتت الأرباح أخذوا قرضهم وأعطوه الربح وهو لم يُحرِّك ساكنًا، وهذا مسؤول تمنحه شركة التقسيط تسهيلات خاصة بتقليص هامش الأرباح إلى نسبةٍ معدومة، وهذا مسؤول يأتيه بعض مستثمري العقار ويقولون نريدك أن تدخل معنا في عمولة بيع بعض العقارات الفلانية وبعد مدة ينزل في رصيده مبلغ العمولة (السعي) وهو لا صلة له أصلًا بالصفقة، وهذا مسؤول أتته منحة عقارية كغيره من المسلمين لكن يُقدِّم له البعض خدمة بتطبيق المنحة في موقع عقاري باهظ الثمن فتصبح قيمة منحته تساوي عشرة أضعاف منحة نظرائه، وهكذا صور كثيرة للهدايا التي تُقدَّم لشاغلي الوظائف ذات الحساسية، ويبتلى بها خصوصًا أمثال وكلاء الوزارات والقضاة وكتاب العدل وعمداء شؤون القبول والتسجيل بالجامعات ونحوهم.

وهذا لون من ألوان الفساد في المال العام لأنه استغلال للسلطة، لكن الإشكال الجوهري في كل صور الفساد هذه أنها تأتي في صورة هدية وتسهيلات و(فزعة)... إلخ، حسنًا ما الضابط الذي يكشف ذلك؟

الضابط الذي يكشف ذلك بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن اللتبية الشهير في الصحيحين حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لجمع صدقات بني سليم، تأمَّل معي الضابط الذي أشار إليه رسول الله: "عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قَدِم قال: هذا لكم وهذا أُهدى لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أُهديَ لي، أفلا قعد فى بيت أبيه أو فى بيت أمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟»" (البخاري: [2597]، مسلم: [4843]).

لعلك لاحظت المبدأ الذي أسّسه النبي صلى الله عليه وسلم لفرز صور استغلال السلطة والتربّح من الوظيفة، وهذا المبدأ هو: «هلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يُهدى إليه أم لا؟»، ويشرح ابن قدامة رحمه الله الأساس الذي بنى عليه رسول الله هذا الضابط فيقول: "لأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية؛ يدل على أنها من أجلها" (المغني؛ لابن قدامة).

ومن وجهٍ آخر يوضح ابن تيمية هذا الضابط النبوي والسبب الذي يدعوا الناس لفعل ذلك مع المسؤولين فيقول: "فإن كان الرجل بحيث لو نزع عن تلك الولاية أهدي له تلك الهدية؛ لم تكن الولاية هي الداعية للناس إلى عطيته، وإلا فالمقصود بالعطية إنما هي ولايته، إما ليكرمهم فيها، أو ليخفف عنهم، أو يُقدِّمهم على غيرهم، أو نحو ذلك" (الكبرى: [6/157]).

الكثير من المسؤولين يسأل دومًا: متى تكون الخدمة والتسهيلات التي أتلقاها جائزة ومتى تكون مُحرّمة؟

والجواب ميسور جدًا، طبِّق فقط قاعدة النبي صلى الله عليه وسلم: «هلَّا جلس في بيت أبيه فينظر أيُهدى إليه أم لا؟»؛ بمعنى: كلما واجهت تسهيلات أو خدمات فاسأل نفسك: هل كنت ستتلقاها لو لم تكن تحتل هذا المنصب؟ فإن كان الجواب: نعم؛ فهي خدمة مشروعة، وإن الجواب: لا؛ فهي خدمة مُحرّمة.

وهذه القاعدة النبوية أدهشت بلغاء الأصوليين في طريقة صياغتها، ففي كتابه الساحر (بدائع الفوائد) عقد ابن القيم فصلًا يذكر فيه أمثلة شرعية على طريقة تنبيه القرآن والسنة إلى "العلل الشرعية" وأوصافها وتأثيرها على الأحكام، وأن ما في النصوص الشرعية من دقائق العقول بأجمع الكلام وأوجزه ما هو أعظم من كلام الأصوليين، ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم قوله: "وتأمّل قوله في قصة ابن اللتبية: «أفلا جلس في بيت أبيه وأمه وقال: هذا أُهديَ لي» كيف يجد تحت هذه الكلمة الشريفة أن الدوران يفيد العلية، والأصولي ربما كد خاطره حتى قرّر ذلك بعد الجهد، فدلّت هذه الكلمة النبوية على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودًا وعدمًا كان العمل سببها وعلتها، لأنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لانتفت الهدية، وإنما وجدت بالعمل فهو علتها" (بدائع الفوائد؛ ابن القيم).

وحديث ابن اللتبية هو الأصل الشرعي في تنظيم قاعدة (استغلال النفوذ)، وفي هذا الحديث من الفقه ووسائل معالجة سوء استعمال السلطة مبادئ غزيرة، وسنذكر بعض الأمثلة:

منها: تجريم استغلال النفوذ والاسترباح من الوظيفة ومنع أي صورة من صور المحاباة للولاة والمسؤولين تحت أي غطاء كهدية ونحوها.

ومنها: الضابط الذي يميز هل المنفعة والتسهيلات التي استفادها المسؤول من الناس جائزة أم لا؟ وهو ضابط: "لو كان في غير الولاية فهل سيصله هذا النفع أم لا؟".

ومنها: أن الأموال المتحصلة من الهدايا التي للولاة لا ترجع إلى المُهدي، بل تذهب للمال العام، لأن النبي لم يرجعها للمُهدين بل أخذها للمال العام، وهذا الإجراء النبوي بناءً على قاعدة المعاملة بنقيض المقصود، وقد أشار الفقهاء لهذه المسألة.

ومنها: محاسبة الولاة بعد الانتهاء من أعمالهم فقد نص الحديث على "المحاسبة" كما في رواية البخاري: "عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأسد، على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه" (البخاري: [1500]).

ومنها: أن محاسبة الولاة والوزراء والمسؤولين لا تعني أبدًا إساءة الظن فيهم ولا الطعن في أمانتهم، ولكنه "إجراء عدلي" يخضع له الجميع لضمان سلامة إدارة المال العام، فإن ابن اللتبية صحابي أمين، ومع ذلك حاسبه صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم تعليقًا على أن أمانة المسؤول لا تمنع محاسبته: "للحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاسب عُمّاله كما ثبت في صحيح البخاري أنه بعث ابن اللتبية عامِلًا على الصدقة فلما جاء حاسبه" (إغاثة اللهفان؛ ابن القيم).

ومنها: أنه لا مانع أن تكون المحاسبة المالية للولاة والمسؤولين علنية، ففي نص حديث أبي حميد الساعدي في البخاري ومسلم أن النبي صعد المنبر وحاسب وعاتب والي الأموال ابن اللتبية رضي الله عنه، ولم يحاسبه أو يعاتبه بشكلٍ سري أو في غرفةٍ خاصة، كما يقول الراوي: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي..» (البخاري: [6979]، مسلم: [4843]).

ولا يزال في حديث ابن اللتبية الكثير من مبادئ وقواعد محاسبة الولاة وضبط استعمال السلطة وحماية المال العام وكبح استغلال النفوذ، وهي بحاجةٍ لتفقهٍ خاص، وليس هذا محل بسطها.

والحقيقة أن حديث ابن اللتبية أثّر على الفقهاء جوهريًا في النظر لسلوك صاحب السلطة، سأنقل هذا الحوار الطريف بين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وأحد تلاميذه في منزل الشيخ رحمه الله عام 1420هـ:

"- السائل: هل يجوز الهدية من الموظف لرئيسه؟

- الشيخ: الهدية من الموظف لرئيسه لا تجوز؛ لأنك كما تعلم حديث عبد الله بن اللتبية... هذا الرئيس لولا أنه رئيس هل ستعطيه؟ لا تعطيه، إذًا لا تعطه.

- السائل: ولو كان قلمًا؟

- الشيخ: ولو سواكًا!

- السائل: وإن كان من باب الدعوة؟

- الشيخ: لا، هذا ليس من باب الدعوة، الدعوة اذهب للمسجد، لأن الهدية تجذب الإنسان غصبًا عليه، إذا أهديت للرئيس تريد في المستقبل يحابيك، ويتغاضى عن تقصيرك، ويُرخِّص لك في وقتٍ ليس فيه ترخيص، الهدية تُجبِر الإنسان أنه يحابي صاحبه" (لقاء الباب المفتوح، ل: [225]).

- "اكتبا كل مالٍ لكما":

بناء الوازع الإيماني والوعي الأخلاقي والنظم العقابية في المجتمع حول المال العام لا شك أن له دورًا جوهريًا في صيانة المال العام، لكن ذلك كله لا يكفي، بل لا بد -أيضًا- من وسائل وإجراءات (وقائية) تحفظ المسؤول مسبقًا من الوقوع في جريمة استغلال السلطة والإثراء من المال العام، ومن أهم هذه الآليات الوقائية آلية أسسها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي إفصاح شاغلي المناصب القيادية عن ثروتهم وممتلكاتهم، أو إعلان الذمة المالية، فإذا أصبحت ثروتهم تحت الضوء امتنع عليهم مضاعفة ثروتهم بعد تولي المنصب.

روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن نافع أن بعض الولاة طلبوا زيادة رواتبهم في عهد أبي بكر، فلما ولي عمر كتب إليهم إجراءات جديدة، يقول نافع:

"لما ولي عمر كتب إليهم -أي: إلى معاوية وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد-: إن رضيتم بالرزق الأول وإلا فاعتزلوا عملنا، قال: فأما معاوية وعمرو فرضيا، وأما خالد فاعتزل، قال: فكتب إليهما عمر: أن اكتبا لي كل مالٍ هو لكما، ففعلا، قال: فجعل لا يُقدِّر لهما بعد على مالٍ إلا أخذه فجعله في بيت المال" (فضائل الصحابة؛ للإمام أحمد، ص: [358]، دار ابن الجوزي).

وهذا أثر بإسنادٍ جيد إلى نافعٍ راوي القصة، وغاية ما يتخوف فيه هو تردُّد جرير ابن حازم الحافظ حيث رواه مرةً عن نافعٍ مباشرة، ومرة عن يعلى عن نافع، وهذا لا يضر لعدة قرائن؛ منها أن الواسطة صحيحة أعني يعلى بن حكيم، ولأن جرير ثبت سماعه من نافع، ولأن من روى عن جرير ولده وهب، ووهب ضبط حديث والده الذي قبل الاختلاط وبعده، حتى أنه حجبه عن الرواية حين اختلط كما نص على ذلك ابن مهدي، فالأرجح أن الحديث بإدخال الواسطة يعلى لأنها الرواية الأقدم زمنًا فهي أبعد عن اختلاط جرير المتأخر، وعلى كلٍ فهو صحيح الإسناد إلى نافع.

وهذا الأثر العمري العظيم في غاية الأهمية في تأسيس مبدأ إفصاح المسؤول عن ثروته قبل توليه منصبه، أي إعلان الذمة المالية، وكونه مبدأ مُبكِّر في تاريخ الإسلام، حيث أرسل عمر لاثنين من المسؤولين يقول لهما: "اكتبا لي كل مالٍ لكما"، وهذه مطالبة صريحة بالإفصاح عن الوضع المالي للمسؤول، بل إن عمر كان يأخذ ما زاد في ثروة المسؤول ويرسله للمال العام.

- من أين لك هذا؟!

يتصور كثير من المسؤولين أنه لا مُبرِّر لمساءلته عن ثروته بعد توليه منصبًا رفيعًا، ويعتقدون أن هذا إجراء بلا مُبرِّر شرعي يُجيز ذلك، والحقيقة أن هذا تصور خاطئ، بل إن مبدأ: (من أين لك هذا؟) قرّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد الساعدي عند ابن خزيمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم عن بعض عماله: "فإن سئل: من أين لك هذا؟ قال: أُهديَ لي، فهلَّا إن كان صادقًا أُهدى له وهو في بيت أبيه أو أمه" (خزيمة: [2382]).

وقد كان عمر بن الخطاب يسأل عُمّاله كثيرًا عن مصادر ثروتهم بعد الولاية، تطبيقًا لمبدأ (من أين لك هذا؟) الذي أسّسه رسول الله، والآثار عن عمر كثيرة في هذا الباب.

- انتفاء الحد لا يعني انتفاء التجريم والتعزير:

بعض العامة البسطاء تسرّبت إليه معلومة فقهية ففهمها بشكلٍ خاطئ، وهي أن السرقة من المال العام (بيت مال المسلمين) لا حدَّ فيها في الشريعة، لأن لكل مسلمٍ نصيب في بيت المال، فصار هذا شبهة في درأ الحد (مذهب الجمهور)، فتوهّم بعض العامة بناءً على ذلك أن انعدام الحد يعني أنه حلال وأن لا عقوبة فيه!

ومن الطريف أن هذا التصور الساذج ليس مقتصرًا على بسطاء العامة؛ بل تدحرج فيه من يُسمُّونهم "كبار" المفكرين العرب، ومنهم نصر أبو زيد (توفي في يوليو 2010م)، حيث يقول ساخرًا بفقهاء الإسلام: "وثمة شرط آخر أشد خطورة وهو [ألا يكون للسارق في المال المسروق نصيب]، أي أن يكون المال مملوكًا ملكية خاصة للمسروق منه، وبديهي أن هذا الشرط لا يتوافر في بيت مال المسلمين أو الخزانة العامة، فكل من يستولي على بعض هذا المال العام -أو كله- لا يقام عليه الحد، لأن له نصيبًا فيه فليس خالصًا للغير، وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص، وهذا هو الإسلام الذي يطرحه الخطاب الديني على الناس، ويبشرهم بأنه قادر على حل مشكلات الواقع" (نقد الخطاب الديني؛ أبو زيد: [88]).

فنصر أبو زيد يتصور ذات التصور الذي لدى بعض الجُهَّال ممن لم يسعفهم الوقت للتعلُّم، وهو أن انتفاء الحد بالشبهة يعني انتفاء التجريم والتعزير، ويقتضي إباحة السرقة من المال العام!

فالجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) يرون أن السارق من بيت المال لا قطع عليه، وإنما فيه التعزير المناسب، ويحتجون بقاعدة: (درء الحدود بالشبهات وللسارق من بيت المال شبهة ملك)، ويحتجون -أيضًا- بحديث العبد الذي سرق من المغنم -وهو مال عام- فلم يقطعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "مال الله سرق بعضه بعضًا" (ابن ماجة: [2590])، ولكن الحديث في الحقيقة ضعيف؛ فيه جبارة وحجاج بن تميم كلاهما ضعيفان، وقال عنه البيهقي في (السنن الكبرى: "وهذا إسنادٌ فيه ضعف")، واحتجوا -أيضًا- بآثار عن الصحابة عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وليس هذا محل إيرادها وما قيل فيها.

وأما القول الآخر فهو قول الإمام مالك وبعض السلف ورأو أن السارق من بيت المال عليه قطع، لعموم آية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة من الآية:38]. ولا مُخصّص لها.

ومن الفقهاء من حاول التوسط بين القولين، ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فرأى أنه لا إطلاق في القطع في السرقة من بيت المال، بل بحسب قوة شبهة الملك، فقد يكون السارق قد أخذ حقوقه من بيت المال ولم يعد له فيه شبهة ملك فعليه القطع، وقد يكون لم يستوفها فهذه شبهة ملك تدرأ الحد، فصار المُعتبَر هو قوة شبهة الملك، كما يقول الشيخ ابن عثيمين: "الخلاصة في مسألة السرقة من بيت المال: أن الأصل فيها القطع، حتى توجد شبهة بيِّنة، وهي إما فقره، أو قيامه بمصلحةٍ من مصالح المسلمين" (الشرح الممتع: [14/355]).

وبالجملة فسواء على مذهب الإمام مالك الذي يرى في سرقة المال العام القطع، أو في مذهب الجمهور الذين يرون درأ الحد وثبوت التعزير؛ ففي الحالين لم يرتفع التجريم ولا العقوبة، وفي هذا إيضاح لخطأ التصور لدى بعض الجُهَّال، ولدى نصر ابوزيد وأمثاله.

ومما يدل أن نصر أبو زيد لم يفهم المسألة الفقهية أصلًا قوله في خلاصة هذا النقد: "وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص" فانظر كيف يتوهَّم أن هذا القول الفقهي يفضي لحماية كبار اللصوص وتطبيق الحد على صغار اللصوص، بينما الواقع هو عكس ذلك، فإن صغار اللصوص هم الفقراء وهم أكثر احتمالًا لأن يكون لهم شبهة ملك في بيت المال، وسرقتهم لا تتعدى حقهم في أكثر الأحوال، فيدرأ عنهم الحد بهذه الشبهة، بخلاف كبار اللصوص فهم أثرياء ويغلب أن لا تكون لهم شبهة ملك في بيت المال، ولو فرض أن لهم شبهة ملك فإن سرقتهم الكبيرة تتجاوز مقدار ما يملكونه قطعًا، فتنتفي الشبهة الدارئة للحد، فصار هذا القول الفقهي يفضي لتطبيق الحد على كبار اللصوص دون الصغار، وليس العكس كما يتوهّم أبو زيد.

فتأمّل كيف يستنتج نصر أبو زيد من هذا الحكم الفقهي ما هو نقيض المقصود وستدرك حينها وجاهة الرأي الذي يرى أهمية تكثيف الدعوة الإسلامية لقضية استعمال (العقل)، وأن ينشر الدعاة بين الشباب أهمية تحريك العقل والعقلانية، فكثير من هؤلاء الذين يُسمُّون أنفسهم مفكرين يعانون من أنيميا حادة في القدرات العقلية، وشواهد ذلك تفوق الحصر وفيها أمثلة طريفة كثيرة.

والحقيقة أن تهكم نصر أبو زيد بالفقهاء لا يثير استغرابًا كبيرًا، لأن الرجل كان لديه مشكلة مع القرآن نفسه، فضلًا عن الفقهاء! فكان يعلن أن القرآن بشري لا إلهي، وأن الغيبيات في القرآن أساطير، ولذلك رفع عليه مجموعة من المحتسبين في مصر دعوى لدى المحكمة بثبوت رِدَّته ووجوب التفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس، فقرّرت المحكمة رِدَّته فعلًا والتفريق بينه وبين زوجته، فرفع نصر أبو زيد طعنًا في الحكم لدى محكمة النقض، فرفضت محكمة النقض طعن نصر أبو زيد وأيَّدت حكم المحكمة برِدَّته! كما تقول محكمة النقض في نص حكمها:

"وحيث إن هذا النعي مردود، بما سلف بيانه، من أن المطعون ضده الأول -أي نصر أبو زيد- قد أفصح بمؤلفاته عمّا يُعَد من الكفر الصريح، وأن استتابة المرتد مستحبة وغير واجبة على الراجح في المذهب الحنفي، وأن أثر هذه الاستتابة يتعلّق بتوقيع حدّه الرِدَّة ولا يؤثر في القضاء بالفرقة التي تقع على الفور بمجرد الرِدَّة بين المرتد وزوجه، وأن الحكم المطعون فيه قد انتهى إلى قضاءٍ صحيح" (محكمة النقض المصرية، الطعن رقم: [478] لسنة: 65 قانون أحوال شخصية].

ونصر أبو زيد أنكر أن يكون القرآن من الله مُتذرِّعًا بأن ذلك يمنعنا من فهم القرآن ويُصبِح وكأن الله يُكلِّم نفسه! كما يقول أبو زيد: "إن القول بإلهية النصوص، والإصرار على طبيعتها الإلهية؛ يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها.. وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على فهم الإنسان العادي، وهكذا يبدو وكأن الله يُكلِّم نفسه ويناجي ذاته.. وإذا كُنّا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية؛ فإن هذا التبني لا يقوم على أساسٍ نفعي أيديولوجي" (نقد الخطاب الديني؛ أبو زيد: [206]).

بل بلغ التوقُّح بنصر أبو زيد أنه كان يقول أن غيبيات القرآن (عن الله والملائكة... إلخ) خرافات وأساطير، كما يقول: "تتحدّث كثير من آيات القرآن عن الله بوصفه ملِكًا، له عرش وكرسي وجنود، وتتحدّث عن القلم واللوح.. وكلها تساهم إذا فُهِمت فهمًا حرفيًا في تشكيل صورة أسطورية" (نقد الخطاب الديني؛ أبو زيد: [207]).

أرأيت مستوى هذا الانحطاط في التعامل مع القرآن باعتباره لا ينسب لله، وأن الغيبيات التي فيه أساطير؟ يا ليتك إذن ترى كيف احتفت صحافتنا الليبرالية المحلية بهذا المتعدي على كتاب الله، لقد أقاموا له رقصة تلميع تتمعّر منها قلوب المؤمنين، وليس هذا موضع إيراد شواهد الصحافة الليبرالية المحلية، لكن خذ مثالًا واحدًا فقط:

"لا يحضر نصر حامد أبو زيد في ذاكرتي بوصفه مُفكِّرًا عربيًا لامعًا وحسب؛ وإنما إنسانًا ومثقفًا وشجاعًا من طراز فريد" (صحيفة الرياض، 8 يوليو 2010م).

وهكذا تجد صحافتنا الليبرالية المحلية تروِّج لكل من يتعدى على القرآن، في الوقت الذي تترصّد فيه للعلماء الربانيين لتشويه صورتهم الاجتماعية، هل هذه صحافة تُعبِّر عن بلاد الحرمين وجزيرة الإسلام ومنطلق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟! ألم يحِن الوقت لاجتثاث هذه الفئة الضالة التي تتربّع على إدارة المؤسسة الإعلامية الليبرالية نُصرةً لكتاب الله وحَميَّةً للقرآن؟!

أتدري أين موضع الطرافة فعلًا؟ حين تتأمّل في كتابات من يخدعون أنفسهم بتسمية ذواتهم (المفكرين العرب) وتجدهم لعقودٍ تلو عقود وهم يتمدحون بأنهم سيأتون بالنظريات الجديدة التي لم يأتِ بها الأوائل، فإذا طالعت كتاباتهم وجدتهم يتبنون أن القرآن فيه (أساطير) كما كان يقول ذلك أركون (الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص: [84])، وكما يقوله نصر أبو زيد (نقد الخطاب الديني، ص: [207])، وغيرهم، فبالله عليكم أين الجدّة هاهنا؟ هذه عينها نظرية مشركي قريش قبل خمسة عشر قرنًا! كما حكى الله مقالتهم فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام من الآية:25].

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:31].

{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5].

يا ضيعة الأعمار من أقوامٍ ظنوا أنهم سيأتون بالإبداع والتحديث، فإذا هي نظريات الطبقة الوثنية المنحطة قبل خمسة عشر قرنًا، يعيبون علينا الأخذ من ابن تيمية لأنه قديم قبل سبعة قرون، وهم يأخذون نظريات مشركي قريش قبل خمسة عشر قرنًا، ثم لا يخجلون من التباهي بذم الماضوية!

إذا كان هذا هو التجديد والإبداع الفكري وهو أخذ نظريات مشركي قريش فالقضية ميسورة جدًا ولله الحمد، ولذلك فالشاب الذي يطمح أن يسلك مسالك المفكرين العرب هؤلاء فلدي له مقترح يختصر عليه الطريق، وهو أن يلتقط ما تبقى من نظريات مشركي قريش التي عرضها القرآن ويتبناها باعتبارها تجديدًا فكريًا، ويعرضها في كتابٍ جديد بلغةٍ مُتقعِّرة تحت عنوان: (قراءة أنثروبولوجية جديدة في القرآن)، أو يمكنه وضعها تحت عنوان آخر: (نظرية المابعدقرشية- رؤية مقاصدية)، وإذا أراد "دليلًا إرشاديًا" لنظريات مشركي قريش بحيث يختصر عليه الوقت فليراجع رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مسائل الجاهلية) فقد جمع فيها الإمام المُجدِّد رحمه الله أكثر من (120) فكرة من أفكار مشركي قريش التي أبطلها القرآن، وصدِّقني بمجرَّد طرحك لهذا الكتاب ستجد صورتك الشخصية ومقالات الحفاوة بك في صدر صحفنا السيارة، وستُدعى مباشرة لمؤتمرات الفكر العربي لتعرِض نظرياتك الجديدة في فهم الإسلام وإعادة قراءة التراث!

على أية حال.. دعنا من تصفيق الصحافة الليبرالية المحلية لمعتوهي الفكر العربي، ولنعد لموضوعنا عن التصورات الشائعة والمغلوطة عن المال العام.

- المصلحة تقييد لا تخيير:

في باب السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي يُمنَح ولي الأمر مساحة واسعة للتحرُّك طبقًا للمصلحة الشرعية، فباب السياسة الشرعية أغلبه قائم على المصلحة وتقل فيه الأحكام الثابتة المحدَّدة، والقاعدة الفقهية التي تنظم هذه القضية هي قاعدة: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) وهي قاعدة مبثوثة في كتب المذاهب الفقهية الأربعة، وأحيانًا تكون بصياغاتٍ متقاربة.

حسنًا.. أين المشكلة إذن؟ المشكلة أن بعض متفقهة السوء الذين يحيطون بالولاة يُصوِّرون لهم أن معنى هذه القاعدة أن ولي الأمر مُخيَّر كالتخيير الذي في خصال الكفَّارة، أي يكون مُخيرًا في التصرف بحسب التشهي والرغبة الخاصة، وأنه ليس عليه قيود في ذلك. وهذا تصور خاطئ كليًا لمعنى القاعدة، فالمصلحة في ذاتها تقييد وليست تخيير، بمعنى أن تصرف ولي الأمر يجب أن يراعي فيه المصلحة الشرعية، فإن تصرف في المال العام بغير مراعاة المصلحة دخل في الظلم وخرج عن حدِّ العدل وتعرض لغضب الله جل وعلا.

- العدل في الإقطاع:

في شهر ربيع الأول عام 1394هـ اجتمعت الهيئة القضائية العليا في السعودية وقرّرت أن: (الإقطاع يفيد التملك) (قرار رقم: [94]، وتاريخ 14/3/1394هـ). وهو قرار مشهور، ومضمونه: "أن ولي الأمر إذا منح شخصًا مساحة عقارية فيتملكها دون حاجة لإحيائها الإحياء الشرعي المعروف".

هذا القرار يرى بعض المراقبين أنه هو المسؤول عن اجتياح كثير من النافذين للعقارات، ثم تطويق المدن الكبرى، لأنهم صاروا يتملكون الأراضي بكل سهولة دون حاجة لإحيائها، وهذا ما سبَّب بالتالي نشوء أزمة العقار والإسكان في السعودية، وأعرف أحد الخبراء المتميزين في هذا المجال، وهو صديقٌ خاصٌ لي، حدّثني أكثر من مرة عن قناعته بتفسير أزمة العقار في السعودية بناءً على قرار 1394هـ الذي اعتبر أن الإقطاع يفيد التملك.

وثمّة آخرون قرأت لهم بعض الكتابات هنا وهناك يزيدون الأمر تصعيدًا فلا يتوقفون عند هذا التفسير فقط، بل يرون أن الفقه الإسلامي وعلماءنا هم المسؤولون عن أزمة الإسكان؛ لأن هذا القرار القضائي اتُخِذ باسم الفقه والعلماء والشريعة، وأن الإصلاح بالتالي يبدأ من الثورة على هذا الفقه التقليدي الذي خلق حالة الشقق السكنية الباهظة وحرم الناس من نعمة الإسكان والتمتع بأرضٍ مناسبة.

حسنًا.. هذه أطروحة تستحق المناقشة والاحترام لأصحابها، وفي تقديري الشخصي أن تفسيرهم المطروح هذا غير علمي بتاتًا، وأعتقد أن هناك لبس وسوء فهم ناشئ عن عدم استيعاب التسلسل التاريخي لإشكالية التملك العقاري في السعودية، ولا يمكن إيضاح الموضوع إلا بعرض التعاقب التاريخي للقضية، فلنحاول إلقاء الضوء ابتداءً من الفقه الإسلامي وانتهاءً بالوضع الحالي.

من المعروف في الفقه الإسلامي أن العقارات لا تُملك إلا بسببٍ شرعي للملك مثل: (الشراء، الهبة، الإرث، الإحياء، التنفيذ على الرهن... إلخ) ونحوها من العقود والتصرفات الناقلة للملكية.

وهاهنا يبدأ السؤال: إذا قام ولي الأمر ومنح شخصًا ما قطعة أرض من عقار المال العام للمسلمين، بدون شراء ولا إحياءٍ ولا غيره من أسباب الملك؛ فهل يملك هذا الشخص هذه القطعة من الأرض بمجرد هذه المنحة، والتي تُسمَّى (الإقطاع)؟

وهذا سؤال ليس سؤالًا افتراضيًا، فكثيرٌ من الناس وخصوصًا من النافذين يحصلون على مساحات شاسعة من الأراضي إما من ولي الأمر مباشرة، أو من أراضي أحد الوزارات الحكومية، فهل تُملك عقارات المال العام بمجرد هذا الإقطاع؟

الحقيقة أن هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء.. فالمالكية يرون أن الإقطاع بنفسه يفيد الملك، فيجوز لمن أخذ الأرض أن يتصرف فيها مباشرة بالبيع حتى ولو لم يُحييها، كما يقول ابن رشد الجد: "إذا أقطعه شيئًا من الموات ليُحييه يستحقه بنفس الإقطاع، فيورث عنه، ويكون له أن يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره" (البيان والتحصيل؛ ابن رشد الجد: [10/301]).

ولم يستثنِ ابن رشد رحمه الله إلا حالة إهمال الأرض وبين أنها تُسوِّغ لولي الأمر انتزاع العقار، لكن القضية الجوهرية وهي التملك بنفس الإقطاع، والذي يفيد مشروعية التصرف بالأرض مباشرة بيعًا وإجارةً ورهنًا... إلخ، فهذا يقول به المالكية بلا إشكال لديهم.

وأما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فيرون أن الإقطاع نفسه لا يثبت به الملك، بل لا بد من إحياء الأرض حتى يكون سببًا شرعيًا للملك، إذن ما فائدة الإقطاع عندهم؟ الإقطاع عندهم يفيد الاختصاص والأولوية فقط، بمعنى أن المقطَع يُقدَّم على غيره في إحياء الأرض المقطَعة.

كما يقول الكاساني الحنفي عندما تعرّض للإقطاع: "الملك في الموات يثبت بالإحياء" (بدائع الصنائع، الكاساني).

ويقول الماوردي الشافعي: "الإقطاع لا يوجب التمليك" (الحاوي الكبير؛ الماوردي: [7/482]).

وأما الحنابلة فهم أشد المذاهب في منع التملك بالإقطاع، واشتراط الإحياء، قال البهوتي: "ولا يملكه -أي الموات- بالإقطاع؛ لأنه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المُقطَع كالمتحجر الشارع في الإحياء؛ لأنه ترجح بالإقطاع على غيره" (كشاف القناع، البهوتي).

وسبب خلاف الفقهاء في هذه المسألة اختلافهم في تفسير نصوص الإقطاع الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها: "أن النبي أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير" (البخاري: [3151])، و"أن النبي دعا الأنصار ليقطع لهم من البحرين" (البخاري: [3163])، و"أن النبي أقطع وائل بن حجر أرضًا في حضرموت" (أبو داود: [3060]، وصحّحه ابن الملقن في البدر المنير)، و"أن النبي أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع" (الحاكم: [1467] وفيه ضعف).

وثمّة نصوص أخرى لا مجال لعرضها، ومن أحسن من رأيته استوعب نصوص الإقطاع النبوي البيهقي في السنن الكبرى، والحقيقة أنه ليست هذه المسألة فقط، بل أكثر مسائل الأحكام الفروعية التي فيها أحاديث وفيرة تجد البيهقي غالبًا من أحسن من يسوق أحاديثها رحمه الله.

والمراد أن اختلاف الفقهاء في مسألة هل الإقطاع يفيد الملك أم يفيد الاختصاص فقط؟ ناشئ عن اختلافهم في تفسير أحاديث الإقطاع النبوي. فالجمهور يحملون هذه الأحاديث على أنها للأولوية ولا يتحقق الملك إلا بالإحياء فيفسرونها على ضوء: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"، والمالكية يحملونها على ظاهرها وأنها تمليك محض.

حسنًا.. دعنا ننتقل الآن من الفقه الإسلامي إلى القضاء الشرعي في السعودية، وكيف تعامل القضاء الشرعي مع هذه المسألة؟

يعرف المختصون أن أهم مصدر يكشف تاريخ القضاء الشرعي في السعودية هو مجموع فتاوى رئيس القضاة في زمنه الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله، والتي جمعت فيها أقضيته وأحكامه ومراسلاته للقضاة وللمسؤولين، وتتمتع فتاوى وأقضية الشيخ محمد ابن إبراهيم بوزن استثنائي في الداخل القضائي السعودي، فلا يقاربها أي مصدر آخر فضلًا عن أن يعادلها، حيث يتعامل معها القضاة ياعتبارها أشبه ما تكون بـ(سوابق قضائية حاكمة).

على أية حال.. حين نعود لأقضية الشيخ ابن إبراهيم نلاحظ حماسًا منقطع النظير لدى الشيخ رحمه الله لاعتبار أن الإقطاع لا يفيد التملك، والتشديد في هذه المسألة، وأنه لا بد من الإحياء وإلا تنتزع الأرض من المُقطَع، وأن لا يكون الإقطاع إلا بقدر قدرته على الإحياء.

ونصوص الشيخ محمد بن إبراهيم كثيرة جدًا في هذه المسألة سأقتطف بعضها، فمن ذلك قول الشيخ في خطاب أرسله إلى رئيس مجلس الوزراء شارِحًا فيه خلاصة رأيه: "للحكومة إقطاع الموات، وهذا الإقطاع لا يعطي المقطَع حق التملك، وإنما يعطيه حق الاختصاص والأولوية على غيره حتى يحييها، ويضرب له مدة يتمكن في أثنائها من الإحياء، فإن أحياها وإلا نزعت منه" (مجموع فتاوى ابن إبراهيم).

وأشار الشيخ مرةً إلى وجه قلقه من هذه المسألة، وهي أن الإقطاع بهذا الشكل قد يكون ذريعة إلى استغلاله ماليًا على حساب الناس، فتصبح الأرض كأنها ورقة تجارية (شيك) بحيث يقتطعها اليوم مجانًا ويبيعها على الناس غدًا بأرفع الأسعار، حيث ذكر الشيخ عبارة الحنابلة وعلَّق عليها بقوله: "لهذا قالوا: [إقطاع الموات لمن يحييه]، أما إقطاع قطعة كبيرة لمن يأخذ ورقتها اليوم، وبعد أيام يأخذ نصف المليون، فهذا لا يجوز" (مجموع فتاوى ابن إبراهيم).

بل إنه لمّا صدرت أحد الأنظمة المُتعلِّقة بالعقار أرسل وزير الزراعة حينها الأستاذ حسن المشاري نسخة للشيخ محمد بن إبراهيم ليراجعها، وهو إجراء معتاد، فماذا صنع الشيخ؟ تذكَّر مباشرة قضيته التي اهتم بها وهي تطويق الإقطاعات وفتح المجال للمحتاجين ليتملكوا، جاء في ملحوظات الشيخ التي أرسلها لوزير الزراعة: "قد جرى في الماضي إقطاع أراضي زراعية من ولي الأمر، ولم يقم بعض من أقطع تلك الأراضي بإحيائها، فينبغي وضع مادة تُخوِّل وزارة الزراعة إعطاء من أُقطِعت له مهلة كافية لإحيائها، فإذا لم يُحيها في تلك المدة فتأخذها الوزارة وتعطيها لمن يُحييها بموجب هذا النظام"(مجموع فتاوى ابن إبراهيم).

حسنًا.. استمرت الأمور مستقرة على هذا النحو حتى منتصف الثمانينات الهجرية، وفي هذه المرحلة الزمنية حدثت متغيرات تقنية قلبت مفهوم الإحياء رأسًا على عقِب، حيث تطورت وسائل البناء والإنشاءات والتقنيات الزراعية، فأصبح إحياء آلاف الكيلومترات لا يُكلِّف أسبوعًا واحدًا، وخصوصًا إذا استحضرنا تفاوت أعراف "الإحياء" بين مناطق المملكة، ففي المنطقة الوسطى مثلًا يُشترط وجود البئر، وفي المنطقة الجنوبية حيث أكثر الإحياء هو إحياء "بعلي" يعتمد على الأمطار يكفي في الإحياء بناء سور حتى لو لم يكن يٌغطي طول الرجل المعتاد (70سم)، وفي المنطقة الغربية لا يكتفون بذلك، بل يشترطون أن يكون السور يُغطي طول الرجل المعتاد... وهكذا.

والمراد أنه حين تطوّرت وتيسّرت وسائل البناء والإنشاءات حدثت في السعودية في منتصف الثمانينات ما يمكن تسميته (طفرة حجج الاستحكام)، فصار كثير من الأثرياء الذين يستطيعون تمويل كلفة الإنشاءات يتناهبون الأراضي البور، بإحيائها بأقل كُلفة، ثم يستصدرون حجج الاستحكام بكل يُسرٍ وسهولة، وهو ما يعني أن الأجيال الجديدة لن تجد مكانًا تجلس فيه، حتى أن كثيرًا من هذه الحجج تصل إلى خمسين ألف متر مربع، بل يُحدِّثني أحد الأصدقاء وهو قاضٍ في المنطقة الجنوبية أن إصدار حجة استحكام لعشرة آلاف متر مربع كان يُعتبر في نظر زملائه القضاة في المحكمة مساحة صغيرة لا تستدعي التطويل على المُراجع، فيكفي الشاهدين والمزكين على حصول الإحياء الشرعي بشروطه لإصدار الحجة في مدةٍ وجيزة!

في هذه الظروف وتحت إلحاح الكثير من المعنيين لضبط القضية؛ صدر الأمر السامي رقم: [21679]، وتاريخ 9/11/1387هـ، بإيقاف الإحياء الشرعي بعد هذا التاريخ، فأي إحياء حدث قبل هذا التاريخ فيسمع الإنهاء بحجة الاستحكام فيه، وأي إحياء شرعي وقع بعد هذا التاريخ فلا تسمع، ضمن تفاصيل أخرى لا مجال لإيرادها.

بعد إيقاف الإحياء الشرعي بعد هذا التاريخ 1387هـ أصبح شرط "الإحياء" في الإقطاع شرطًا تعجيزيًا، لأن ولي الأمر إذا أقطع أحدًا أرضًا فلا يمكن أن يُحييها لأن الإحياء تم إيقافه أصلًا، فصار يستحيل العمل بقول الجمهور هاهنا وهو اشتراط الإحياء في الإقطاع!

ثم في التسعينات بدأت الحكومة تحضّر لبرامج المنح العقارية السكنية، وهي المنح القديمة التي كانت تعطى لخريجي الجامعات، ولأعضاء هيئة التدريس، ونحوهم، حتى أن بعض الأحياء في مدينة الرياض كانت تُسمّى قديمًا: حي الجامعيين، وحي الدكاترة، ونحوها من الأسماء، بسبب كثرة المنح العقارية السكنية من الحكومة فيها.

ولكن هذه البرامج للمنح العقارية أصبح من المستحيل تنفيذها، لأن الإحياء أوقف بالأمر السامي 1387هـ، فكيف يستطيعون إحياء الأراضي لتملكها والإحياء تم إيقافه أصلًا؟! فصارت تلك المنح تسبب إشكالات في المحاكم، فليس مع أصحابها إلا أوراقٌ من البلدية، ولا يستطيعون الإحياء لمنعه، والمحاكم لا تجد طريقًا لتثبيت ملكياتهم.

وفي هذه الظروف اجتمعت الهيئة القضائية العليا عام 1394هـ وأخذت برأي المالكية الذي يرى أن الإقطاع بنفسه يفيد التملك، وبعد ذلك وزعت الأراضي على الشريحة المستهدفة بكثرة، وتم تثبيت الملكيات بيُسرٍ وسهولة في المحاكم، وكان هذا القرار تفريجًا للناس لتثبيت ملكياتهم من المنح السكنية.

وخلاصة الأمر:

أن من تأمّل تاريخ الإحياء والإقطاع في السعودية، وكيف كان قرار الهيئة القضائية العليا 1394هـ حلًا لأزمة عميقة تضر بملكيات المنح السكنية للناس؛ سيعلم حجم الوهم لدى من يتصور أن هذا القرار هو المسؤول عن أزمة العقار والإسكان، أو من يقول أن هذا القرار تم استصداره لتغطية الفساد العقاري في السعودية.

بل لو تأمّل من يطرح هذا التفسير ويريد تحميل قضاتنا الشرعيين الشرفاء مغبة أزمة الإسكان في فحوى هذه الأطروحة لأدرك أن مؤداها أن الفساد العقاري لم يقع في السعودية إلا بعد 1394هـ، وهذا وهم كبير بحجم بحيرة طبريا، فالصكوك العقارية المتسممة تعود إلى الثمانينات والتسعينات قبل هذا القرار القضائي المسكين.

والطريف في الأمر أن مشايخنا المعاصرين بقو متمسكين بكون الإقطاع لا يفيد التملك، ولم يأخذوا برأي الهيئة القضائية العليا، ومن ذلك قول الشيخ ابن عثيمين لما تعرّض للإقطاع: "الأقرب أنه لا يملكه، وأنه أحق به، ثم إن أحياه فهذا المطلوب، ويملكه بالإحياء، وإن لم يحيه وتقدم متشوف لإحيائه؛ وجب على الإمام أن يقول للذي أقطعه: إما أن تحييه، وإما أن ترفع يدك، ويضرب له مدة يمكنه أن يحييه فيها" (الشرح الممتع: [10/335]).

ويقول ريحانة الثابتين الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "لكن لا يملكه بمجرد الإقطاع حتى يحييه، بل يكون أحق به من غيره، فإن أحياه ملكه، وإن عجز عن إحيائه؛ فللإمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه" (الملخص الفقهي: [2/182]).

والمراد أن قرار الهيئة القضائية لا تأثير له في أزمة العقار والإسكان كليًا، ذلك أن الهيئة القضائية سواءً أخذت برأي الجمهور وابن تيمية ومحمد بن إبراهيم وابن عثيمين والفوزان بأن الإقطاع لا يفيد التملك بنفسه بل يجب إحياء العقار، أو أخذت الهيئة القضائية برأي المالكية بأن الإقطاع بنفسه يفيد التملك بلا إحياء؛ فسواءً أخذت الهيئة بأي الرأيين فالمشكلة لا زالت قائمة، لأن تكنولوجيا الزراعة والبناء والإنشاءات تطورت تطورًا مذهلًا، وأصبحت وسائل الإحياء في غاية اليسر والسهولة، فإن كان الإقطاع لا يفيد التملك إلا بالإحياء فتستطيع الشخصية الفاسدة أن تحيي هضبة كاملة في ظرف أسبوع!

إذن أين جوهر المشكلة؟ جوهر المشكلة أعمق بكثير بكثير من قرار قضائي في ظروف تاريخية معروفة وله اعتباره الفقهي، جوهر المشكلة حقًا في غياب نظام شفاف وعادل لتوزيع الأراضي بين أفراد المجتمع المسلم، وليست القضية في قرارٍ هنا أو قرار هناك يراد أن تُرمى عليه أضخم مشكلة في السعودية وهي أزمة الإسكان.

أعتقد أن القول بأن قرار الهيئة القضائية العليا 1394هـ هو المسؤول عن الفساد العقاري في السعودية فيه تضحيل فقهي وتاريخي، الضحالة الفقهية من جهة ضعف استيعاب الاعتبارات الشرعية لهذا القول والمصالح العظيمة المترتبة عليه، والضحالة التاريخية من جهة ضعف استيعاب دوره في التفريج للناس لتثبيت ملكيات منحهم.

بمعنى آخر: لو كان الإقطاع لا يفيد التملك فكيف يمكن منح الناس أراضٍ سكنية؟!

وأما من يتصور بأن قول الجمهور بأن (الإقطاع لا يفيد التملك إلا بالإحياء) قول فقهي لا يمكن استغلاله، فهو واهم، فحتى هذا القول يمكن استغلاله، وتستطيع الشخصية الفاسدة أن تحيي مئات الآلاف من الأمتار بكل يُسر بعد ثورة وسائل الإنشاءات.

ليست القضية في القول الفقهي نفسه، فكِلا القولين الفقهيين يمكن للشخصية الفاسدة الاحتيال عليهما، وإنما القضية في النظام الذي سيُطبِّق هذا القول الفقهي.

أعني أن أساس المشكلة هو غياب (العدل في الإقطاع) فلو استوى الناس في استلام إقطاعات لهم عبر آلية عادلة وواضحة، ولم يتم محاباة قريب أو صديق، لكانت قضية الاقطاع هل يفيد التملك بنفسه أم بالإحياء قضية ثانوية، بل لأصبح القول بأن الإقطاع يفيد التملك بنفسه أكثر تحقيقًا للمصلحة الشرعية للناس، حتى لا يُكلِّف الناس الإحياء لأجل قطع صغيرة يحتاجونها ولا يملكون سيولة مالية حاضرة لإحيائها.

وغياب العدل الشرعي في الإقطاع وفي توزيع الأراضي على المسلمين من أكثر الأمور إيلامًا للمتابع، فكثير من الشخصيات النافذة اليوم خالفت فريضة العدل الشرعي في الإقطاع، فصارت تمد سياجها الطويل تحمي من أراضي المسلمين مزارع شخصية لها، وقبل عدة سنوات لمّا كنت أعمل فعليًا في قطاع المحاماة وتعاملت مع بعض هذه القضايا؛ اكتشفت أن بعض النافذين الذين فُتِنوا بابتلاع عقارات المسلمين، اكتشفت أن بجانبهم شخصيات منتسبة للعلوم الشرعية أو من رجيع كتابات العدل، تُزيِّن لهم ذلك، وتقنعهم بأن ذلك لا يخالف الشريعة، وأن لولي الأمر أن يقطع ما شاء من شاء، وأن هذا حق خاص لولي الأمر، ونحو ذلك! ولو تأمّل هؤلاء لعلِموا أن هذه الشخصيات الدينية الفاسدة التي تُزيِّن لهم ذلك أنهم هم أعداؤهم على الحقيقة، فليتأمّل الإنسان كيف لا يمضي أسبوع إلا ويقال أحسن الله عزاءك في فلان، فما يؤمِّن المرء أن يكون الجنازة القادمة؟! والإنسان لا يستطيع أن يتحمل ذنب عقار واحد ظلمه، فكيف إذا طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة؟!

وربِّ هاتيك العقارات المسيّجة أن من ينصح لأصحابها ويذكرهم بالله أنه هو الذي أراد لهم الخير والسلامة والسعادة الأبدية، ومن يُربِّت على أكتافهم ويُزيِّنها لهم أنه هو اللئيم الذي سيكردسهم في أطواق من سبع أرضين يوم القيامة.

على أية حال.. الدرس الأهم في هذه القضية برمتها أن جميع الأطروحات التي توهّمت أن مشكلة التنمية تبدأ بالصراع مع الفقه والفقهاء والفتوى المحلية، أو أن أزمة السكن بسبب قول فقهي تبناه قضاتنا الشرعيون الشرفاء؛ أنها أطروحات تضيع الوقت وتتسلى بمعابثة الطرف الأضعف، وهذا مجرد شاهد جديد على أن الإصلاح في السعودية ليس مسألة فقهية بل إرادة سياسية.

- لماذا تعثّر نظام المال العام:

أحدَ عشر عامًا، تصرّمت عامًا بعد عام، ونحن نشاهد مشروع (نظام حماية الأموال العامة ومكافحة سوء استعمال السلطة) يخرج من هيئة الرقابة والتحقيق، مرورًا بمجلس الشورى، وانتهاءً بهيئة الخبراء بمجلس الوزراء؛ ثم يعود الكرة مرةً أخرى من حيث ابتدأ! هل يا تُرى يطوف هذا النظام المسكين في هذه الحلقة المفرغة لأسباب فنية بحتة، أم أن الأمر بفعل فاعل لغايات غامضة؟!

تبدأ القصة من أنه في عام 1420هـ تقدَّمت أهم مؤسسة سعودية معنية بالفساد الإداري وهي مؤسسة الرقابة والتحقيق بمشروع نظام اسمه (نظام حماية الأموال العامة ومكافحة سوء استعمال السلطة)، من واقع خبرة المؤسسة في حفظ المال العام، والمشكلات والتي كانت تعانيها، والثغرات التي تحتاج لتغطيتها بمواد نظامية تمنحها الصلاحيات لمعالجة الوضع، والحقيقة أن النظام نص على مبادئ ممتازة، وينقسم إلى فصلين: (فصلٌ عن حفظ الأموال العامة، وفصل عن مكافحة سوء استعمال السلطة)، ومن المبادئ التي قرّرها النظام: مساءلة من تدور شبهات حول ثروته، وإلزام الجهات الداخلية والخارجية المتعاقدة مع أجهزة الحكومة على الكشف عما إذا كانت قد دفعت عمولات لأي وسطاء، منح مكافأة لأي مواطن يكشف فسادًا في المال العام، مضاعفة التعزيرات المتعلقة بالاختلاس من المال العام، تشديد العقوبة على سائر أشكال استغلال السلطة والنفوذ، وغير ذلك.

كان مجلس الشورى يُعلِن بشكل دوري عن نتائج معالجاته ودراسته للنظام، ثم أعلن المجلس بعد سنوات انتهاءه من النظام وإرساله لمجلس الوزراء لاعتماده، وبعد انتظار طويل، تسربت الأخبار من هيئة الخبراء بمجلس الوزراء أن النظام لن يعتمد، بل سيعاد من جديد لنفس الدورة البيروقراطية، وسيقسم إلى نظامين.

أحد عشر عامًا من الانتظار ومع ذلك سيعود النظام من جديدٍ من حيث ابتدأ، من المسؤول عن عرقلة الأمور والتعنُّت الشكلي في نظام يمس شريان مصالح المسلمين وهو المال العام؟!

هذه إشكالية تحتاج لتفسير فعلًا، لكن قبل أن نحاول سويًا تفسيرها، دعنا نتأمّل نموذجًا آخر مشابه وهو (الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد) والتي أعلنت في الجريدة الرسمية: (أم القرى، 26/2/1428هـ) ، ونصّت الاستراتيجية على إنشاء (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)، ومنذ صدور الاستراتيجية ونشرها في الجريدة الرسمية ونحن إلى اليوم لا حِس ولا خبر، فلم يتم إنشاء هيئة مكافحة الفساد، ولم يتم تفعيل الاستراتيجية، والسؤال مرةً أخرى: من المسؤول عن عرقلة الأمور في نظم تمس شريان مصالح المسلمين وهو المال العام؟!

لماذا تعثّر نظام حماية الأموال العامة طوال أحد عشر عامًا، ولماذا ماتت دماغيًا الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؟

بل دعنا نأخذ المقارنة بصورةٍ أكثر واقعية: لماذا نجد سرعة هائلة وتداعي وتنادي لتطبيق القرارات المُتعلِّقة بالاختلاط بين الجنسين، بينما نجد أنظمة حماية المال العام تتثاءب طوال العام؟!

ثمّة تفسيرات مُتعدِّدة مطروحة، بعضها يرى أن هذه هي طبيعة الأمور، وأن الإجراءات الإدارية الرسمية بطيئة السير دومًا، لكن هذا تفسير غير مقبول، لأننا رأينا نظمًا أخرى تمر بسرعاتٍ نفّاثة.

في تقديري الشخصي أننا يمكن أن نفهم سر هذا التأخر في إرساء نظم حماية المال العام لو حاولنا تحليل المشروعات التي طرحت مؤخرًا، فقد نبّه كثير من الخبراء إلى أن المشروعات الأخيرة التي أعلن عنها خصص لها ميزانيات تفوق أضعاف كلفتها الطبيعية، وطرح كثير من المختصين مقارنات بين بعض المشروعات ومشروعات مماثلة في دول أخرى، هذه الظاهرة يمكن تسميتها (مشروعات ضِعف التكلفة).

والحقيقة أن (مشروعات ضِعف التكلفة) هي المفتاح الذي سيمكننا من فهم التعثر في نظم حماية المال العام، فلا شك أن الأطراف المنتفعة من الفساد في ميزانيات هذه المشروعات ستلعب دورًا كبيرًا في عرقلة الأنظمة التي ستُفسِد عليها غنائمها، هذه الشخصيات النافذة المستفيدة من (مشروعات ضعف التكلفة) لا يمكن أن ترى الأيادي تمتد لتغلق الصنبور وتقف مكتوفة أمامها.

ومما يزيد الأمور تعقيدًا أن الصحافة الليبرالية صنعت دويًا إصلاحيًا هائلًا عندما أعلن عن مشروع نظام حماية الأموال العامة، والاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، بينما لم يوجد أي خطوة حقيقية على الأرض!

- البنية النظامية الحالية لمقاومة الفساد في المال العام:

هذا التعثُر في نظام حماية الأموال العامة، والاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؛ لا يعني أننا لا نملك أي وسائل نظامية لحفظ المال العام، كلَّا! بل هناك منظومة من الأنظمة والمؤسسات الهامة يجب الاستفادة منها، ومن أهم أبجديات الإصلاح الشرعي (الانطلاق من الموجود)، فبعض الناس ممن يحمل روحًا ثورية ساذجة يطيب له أن يصور الأمور بأعلى ما يمكن من التصوير التشاؤمي، وأظن أن السبب الرئيس في ذلك هو جهل مثل هؤلاء أصلًا بالواقع، ولذلك يحاول تعويض جهله بالمزايدة على التصعيد السياسي.

حسنًا.. ما هي النظم والمؤسسات التي يمكن الانطلاق منها وتطويرها لحفظ المال العام الذي هو شريان مصالح المسلمين؟

هناك مجموعة أنظمة، وعدة مؤسسات؛ فأما الأنظمة فأهمها:

● نظام محاكمة الوزراء (1380هـ) وقد نص على تجريم استغلال الوزير لنفوذه للحصول على مصالح شخصية، وتدخل الوزراء في القضاء أو في دوائر حكومية أخرى، وتضييع الوزير لحقوق الأفراد، ولكنه جعل محاكمة الوزراء عن طريق هيئة تُشكَّل من ثلاثة وزراء، ويقوم بوظيفة الادعاء العام من يختاره رئيس مجلس الوزراء! وهذا السبب في موت هذا النظام الهام للأسف.

● المرسوم الملكي رقم (43) وتاريخ 1377هـ، ونص على تجريم الهدايا والإكراميات واستغلال الوظيفة لمصلحة شخصية وتكليف الموظفين بما لا يجب عليهم والرواتب الصورية وغيرها، وحدد بعض العقوبات التعزيرية، وهذا المرسوم له وزنه في هيئة الرقابة والتحقيق، ولكن المشكلة أنه مرسوم قديم، بل قديم جدًا، فقد مضى عليه أكثر من نصف قرن، فهل من اللائق أن نعامل المال العام بمرسوم صدر قبل أكثر من نصف قرن!

● ومنها: نظام مباشرة الأموال العامة (1395هـ) وقد نص النظام على بعض صور العبث بالمال العام، وبعض إجراءات الجرد المحاسبي لحفظ المال، لكن النظام قديم فقد مضى عليه (26) سنة وواضح من صياغته فعلًا ارتباطه بالهياكل الإدارية القديمة.

● ومنها: نظام مكافحة الرشوة (1412هـ) وقد نص على صور الرشوة والعطية والتوصية والوساطة في الأموال العامة وحدّد عقوباتها التعزيرية، وهو نظام صارم وجيد.

● ومنها: نظام مكافحة التزوير (1382هـ) وعالج تزوير وسائل المصادقة والوثائق والانتحال في الدوائر الحكومية، وتعرض للأموال التي تدخل في ذمة الشخص بسبب التزوير.

وثمّة أنظمة أخرى تتعلق بتأديب الموظفين وغير ذلك.

وأما المؤسسات المعنية بصيانة ومراقبة المال العام والفساد الإداري فأهمها مؤسستان؛ هيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة.

فأما (هيئة الرقابة والتحقيق) فهي تُمثِّل تقريبًا "نيابة إدارية" وقد خولها النظام باختصاصاتٍ دقيقة في مراقبة الفساد الإداري، حيث ينص النظام على أنه: "تختص الهيئة بإجراء الرقابة اللازمة للكشف عن المخالفات المالية والإدارية" (نظام تأديب الموظفين، م5).

ومنح النظام هيئة الرقابة والتحقيق صلاحيات واسعة للقيام بهذه المهمة والتحقيق مع الجهات الحكومية كما تقول المادة الثامنة مثلًا: "على الجهات الحكومية تمكين المحقق من الاطلاع على ما يرى لزوم الاطلاع عليه من الأوراق والمستندات وغيرها، وتفتيش أماكن العمل إذا تطلّب التحقيق ذلك، بحضور الرئيس المباشر" (نظام تأديب الموظفين، م8).

وأما (ديوان المراقبة العامة) فقد نص المنظم على تكليفه بالرقابة على المال العام والفساد الإداري كما يقول النظام: "يختص الديوان بالرقابة اللاحقة على جميع إيرادات الدولة، ومصروفاتها، وكذلك مراقبة كافة أموال الدولة، المنقولة والثابتة، ومراقبة حسن إستعمال هذه الأموال وإستغلالها والمحافظة عليها" (نظام ديوان المراقبة العامة، المادة: [7]).

وهي مادة نظامية شديدة الاتساع والشمول، ولم يكتفِ مجلس الوزراء بذلك، بل خول ديوان المراقبة العامة بصلاحيات واسعة لتحقيق هذه المهمة، حيث ألزم النظام كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية بأن تزود الديوان بكافة البيانات الحسابية والمستندات والوثائق التي تمكن الديوان من المراقبة المالية (المادة: [10]).

والشمول الذي منحته المادة السابعة واضح أنه مقصود فعلًا، حيث أكدته مواد لاحقة في ذات النظام، تنص تفصيلًا على ضبط "المال العام"، ومن ذلك ما نصت عليه المادة الثامنة من أنه يختص الديوان بـ: "التحقق من أن كافة أموال الدولة، المنقولة والثابتة؛ تستعمل في الأغراض التي خصصت من أجلها من قبل الجهة المختصة، وأن لدى هذه الجهات من الإجراءات ما يكفل سلامة هذه الأموال، وحسن استعمالها واستغلالها، ويضمن عدم إساءة استعمالها، أو استخدامها في غير الأغراض التي خصصت من أجلها" (نظام ديوان المراقبة العامة، م: [8-2]).

حسنًا.. رأينا الآن كيف تملك هاتان المؤسستان، ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، سلطة الرقابة المالية على كل ظواهر الفساد الإداري والمالي، وكيف منحهما المنظم سلطة التحقيق والتفتيش.

فهذا يعني أنه يجب أن ننطلق من البنية النظامية الحالية (قاعدة الانطلاق من الموجود) ومحاولة تطوير هذه الأنظمة والمؤسسات المهمة، وتمكين المزيد من الصلاحيات ومنحها القوة اللازمة لكسر النفوذ الذي لا تستطيع تجاوزه لتحقيق مهمتها.

هذه فقط بعض النماذج، وقد لاحظت أن كثيرًا ممن يتحدثون عن مشكلة المال العام يتحدّثون به بنوع من المزايدة على الإسلاميين أكثر من كونه يُعبِّر عن وعي حقيقي بالبنية النظامية الحالية لصيانة المال العام والثغرات الفعلية الموجودة فيها تفصيلًا.

ومن المقترحات لتطوير هاتين المؤسستين (هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبةالعامة) أن يتاح المجال للناشطين غير الرسميين للمشاركة في حفظ المال العام، فلو أتيح -مثلًا- للشباب المتدين أن يعمل تحت مظلة هيئة الرقابة والتحقيق للاحتساب على الفساد الإداري والاستفادة من صلاحيات الهيئة في التحقيق والتفتيش، لربما حدثت ثورة في حفظ المال العام في السعودية.

- المزيد من الدراسات الفقهية في المال العام:

الحقيقة أن الباحثين الشرعيين قدّموا جهودًا مشكورة في التأصيل الفقهي لأسئلة المال العام، ومن ذلك مثلًا: دراسة دكتوراة في جامعة الإمام للشيخ د. خالد الماجد بعنوان: (ضوابط التصرف في المال العام في الفقه الإسلامي) وقد نشر جزءً منها.

ودراسة في أكاديمية نايف للعلوم الأمنية للدكتور نذير أوهاب بعنوان: (حماية المال العام في الفقه الإسلامي) وهي مطبوعة.

ودراسة للشيخ د. محمد الصالح: (التكافل ودوره في حماية المال العام) وهي مطبوعة.

وثمّة أيضًا دراسات أخرى مثل: (الحماية الإدارية للمال العام: بحث فقهي مقارن؛ فيصل بن رميان الرميان)، (الحماية الجنائية للمال العام: دراسة فقهية مقارنة؛ مبارك بن عبد الله بن هقشة)، (مصارف بيت مال الدولة الإسلامية؛ عبد الله بن سليمان المطلق)... وغيرها.

فضلًا عن دراسات تفصيلة كثيرة في جرائم المال العام كالاختلاس والرشوة وهدايا العُمَّال... وغيرها.

ومع أن هذه الدراسات متميزة، ومع أنه لم يتم الاستفادة منها بالشكل الكافي للأسف؛ إلا أن هذا يجب أن لا يكون محبطًا للباحثين الشرعيين، بل يجب المواصلة والاستمرار في المزيد من المعالجات الفقهية للموضوع، وأيضًا المعالجات المشتركة مع الخبراء (خبراء الاقتصاد والادارة والأنظمة)، وعقد المؤتمرات متعددة الاختصاصات في موضوع المال العام، من أجل صياغة أفضل آليات الرقابة والمحاسبة والشفافية، تطبيقًا لأحد أهم معالم منهج أهل السنة وطريقة أئمة السلف ومن أدركنا من علمائنا رحمة الله على الجميع وهي العناية بالمال العام الذي هو عصب مصالح المسلمين المعاشية.

- هل للخطابة أي دور؟

حرصت منذ فترة على جمع المادة الخطابية التي ألقاها خطباء الجمعة في موضوعات المال العام والفساد الإداري، واتصلت ببعض الخطباء وبعض المهتمين بمواقع الخطب الشرعية، واجتمع لدي أرشيف جيد للخطب الشرعية حول المال العام، والفساد الإداري، والرشوة، وهدايا العمال، والغش، والسرقة، وعدم الوفاء بالعقود، وأكل أموال الناس بالباطل، والتساهل في واجبات الوظيفة العامة... إلخ؛ فكل هذه المفردات وجدتها حاضرة في خطب منبرية كثيرة.

السؤال هاهنا: أنني وجدت بعض الإخوان يزهِّد في الأثر الذي يمكن أن تصنعه هذا الخطب الشرعية، وأن الخطابة المنبرية لا أثر لها، وأن الناس لا يتفاعلون أصلًا مع خطب الجمعة، فماذا يمكن أن تقدم في موضوع المال العام؟!

أريد هاهنا أن أناقش هذه الأطروحة المحبطة، وللتدليل على بطلان هذه الأطروحة سأذكر نموذجًا واحدًا فقط لأحد الخطباء في شمال مدينة الرياض، وهوصاحبٌ لي، وقد خطب مراتٍ عديدة عن المال العام وقضاياه الشرعية، وقد حكى لي أكثر من مرة أحداثًا تعكس شدة تأثر المستمعين -ولله الحمد-، لن أروي لك أخي القارئ ما جرى، بل سأنقل لك نص ما أرسله لي صاحبي، يقول أخي الخطيب:

"كان بعض المصلين يلتقون بي بعد الخطبه للسلام، أو للسؤال الذي غالبًا ما يكون فيما يخص الخطبة، فيخبروني بشيءٍ من مشاعرهم، ومرَّ بي في هذا الباب أحداثًا لأناسٍ تابوا من الرشوة، وآخرين من التهاون في المال العام، وغير ذلك، ويُحتمل أنها توبة وقتية فالله أعلم، حتى إن محافظًا لإحدى المناطق وافق أن صلَّى معي مرةً في خطبةٍ عن غلول العُمَّال، فسألني عن (سيارات المحافظة) هل يوصل بها أولاده للمدرسة أم لا؟ ومسئول آخر حضر خطبة عن (الظلم وعاقبته) فخصّص يوم السبت بعد الظهر للنظر في المظالم، بدخول من كانت له مظلمة في دائرته مهما كانت مرتبته صغيرة، مع تخطي الترتيب الإداري في ذلك بتعميم صدّره على الجميع..

لأنه سألني بعد الخطبة عن الحكم في كونه لا يعلم بالمظلمة؟ فأخبرته أنه يظل مسئولًا أمام الله تعالى، إذ كيف يتولى وينزوي في مكتبه ويترك الظلمة يرتعون في دائرته، وضابط كبير أخبرني أنه سيُخصِّص الجزء الثالث من مذكراته للقصص والأخبار التي رآها لمن استحلوا أكل لمال الحرام، وطلب مني خطبة أعجبته وأثّرت فيه عن نحو هذا الموضوع، وأخبرني أنه سيضعها مقدمة لمذكراته تلك. ومسئول آخر في إحدى الجامعات حضر خطبة عن (هدايا الموظفين) فحاك في نفسه هذا الأمر كونه مسئولًا عن توقيع عقود وإرساء مناقصات والإشراف على مشاريع، وتأتيه هدايا من شركاتٍ مُتعدِّدة وكان عازمًا جازمًا على تنفيذ ما أوصيه به، وقد أثّر فيه كثيرًا حديث: «ولو قضيبًا من أراك»، وغير ذلك كثير جدًا يا أبا عمر، لكني أُذكِّرك مرةً أخرى أن لا تذكُر لي اسمًا إن أوردت شيئًا من ذلك، ويكفي أن تقول: [أحد الخطباء]" اهـ.

هذه بعض الأخبار التي كان يرويها لي صاحبي الخطيب، وثمّة قصص أخرى يرويها دعاة آخرون لا مجال لإيرادها هنا؛ وكلها تعكس انتفاع الناس بالخطب الشرعية عن قضايا المال العام، فأتمنى من الخطباء والدعاة أن لا يستسلِموا للمُحبِطين الذين يزهدون في الدور العظيم الذي يقومون به.

- وأخيرًا.. الأثرة لا تشرعن الثورية:

تلاحظ بعض الكتّاب ممن يحملون روحًا ثورية متهورة يجمعون بعض أخبار وقصص الأثرة والظلم الذي وقع في المال العام في بلدنا، ثم يعرضونها بأسلوبٍ تهييجي متصاعد لشحن نفس الشاب المتدين وإخراجه عن طوره، ثم يتبعون ذلك بالتهكم بمفاهيم تحريم الخروج المسلح ووجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف والسخرية بعلمائنا وأنهم مداهنون... إلخ.

هذه الشريحة من الكتَّاب التي تستغل الخلل في المال العام لإيقاد شرارة الفتنة هي أخطر من لصوص المال العام أنفسهم، فلصوص المال العام قصاراهم أن ينهبوا جزءً من أموال المسلمين، لكن رموز الفتنة هؤلاء ينتهون بحريق يهلك الحرث والنسل ويتلف الأموال ويريق الدماء ويقلب أوضاع الدعوة الإسلامية رأسًا على عقب.

حينما أتأمّل في هؤلاء الكتّاب فإني لا أتعجب من كونهم يخالفون قياسًا شرعيًا، ولا حتى فردًا يدخل في عموم شرعي؛ بل يناقضون نصًا مطابقًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حسم رسول الله الأمر بكل وضوح، وأخبرنا أنه ستقع أثرة ومظالم في المال العام، وحذرنا نبينا الشفيق بنا من فتنة الخروج المسلح على ولاة الأمور وشق عصا الطاعة.

تأمّل معي ما رواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» (البخاري: [3603]).

بل كان الصحابة يبايعون رسول الله على الطاعة حتى في حالة استئثار السلطة بالمال العام (الأثرة) كما يقول عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" (البخاري: [7056]).

وسأل الصحابة عن حالة استئثار السلطة بالمال العام في الوقت الذي تطالب فيه المواطنين بواجباتهم، فبيّن رسول الله أن ذلك كله لا يجيز الخروج، كما في صحيح مسلم أن سلمة بن يزيد الجعفي قال: "يا نبى الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» (مسلم: [4889]).

لست أدري كيف يتجاهل هؤلاء الثوريون نصوصًا صريحة حاسمة من رسول الله بأبي هو وأمي في طريقة التعامل مع مشكلات الأثرة في المال العام؟!

في كل هذه النصوص يُبيِّن رسول الله بكل وضوح أن خلل السياسي في إدارة المال العام لا يبيح بأي حال من الأحوال الخروج ولا رفض الطاعة بالمعروف، وإنما يشرع الإنكار والصدع بالحق فقط.

على أية حال.. المخالفون لأهل السنة في باب السياسة الشرعية عمومًا، والمال العام خصوصًا؛ طائفتان: طائفة ثورية وطائفة سلطانية.

ذلك أن الأصول السياسية الشرعية الثلاث لأهل السنة هي: تحريم الخروج المسلح، ووجوب الطاعة بالمعروف، وفريضة الإنكار بمراتبه الثلاث. وكل هذه الأصول الثلاث ثابتة بطريق التواتر القطعي.

فأما الطائفة الثورية: فأخذت بمبدأ الإنكار لكنها جحدت تحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف.

وأما الطائفة السلطانية: فوقعت في الغلو بمبدأ طاعة ولاة الأمور حتى عطلت فريضة الإنكار بمراتبها الثلاث.

وأما أهل السنة :فاستوعبوا الشريعة من أطرافها، فأخذوا بكل القواعد الشرعية الثلاث، فتجد أهل السنة دومًا متمسكين بتحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف، وبالمقابل صادعين بالحق ومنكرين للمنكرات لا يخافون في الله لومة لائم ولا يهابون سلطانًا ولا جمهورًا، وهذا هو أخذ الدين كله، وأما الثوريون والسلطانيون فقد وقعوا في تبعيض الكتاب الذي ذمّه تعالى في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة من الآية:85].

وأخذت مرةً أتأمّل.. ما الذي يجعل بعض الشباب المسلم يأنف ويستنكف من أحاديث تحريم الخروج، وأحاديث وجوب الطاعة لولاة الأمر بالمعروف؟ والذي توصلت إليه أن هؤلاء الشباب يشعرون أن الأخذ بشريعتي تحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف فيه شيءٌ من الضعف والجبن، وأنه ضد الشجاعة والإقدام، ونحو ذلك.

أريد هاهنا أن أدلّل على خطأ هذا التصور كليًا، تذكر معي شيخ الإسلام ابن تيمية، هل تتذكر كيف كانت شجاعته وجرأته رحمه الله؟ ابن تيمية كان القلب النابض في معركة شقحب التاريخية -قرية تبعد عن دمشق 37كلم- وهو الذي حرّك الناس وألهب حماسهم وتقدّم الصفوف، وابن تيمية هو الذي اعتُقِل سبع مرات: (سجنة واقعة عساف في دمشق، وسجنة مسألة العرش في القاهرة، وسجنة حادثة البكري في مصر، وسجنة المنبجي بمصر، وسجنة المنبجي بالاسكندرية، وسجنة مسألة الطلاق بدمشق، وسجنة حادثة الأخنائي بالقلعة بدمشق وهي الأخيرة التي توفي فيها وانتقل لقبره من معتقله).

وابن تيمية هو الذي كان ابن القيم يروي شجاعته فيقول في الوابل الصيب: "مع ما كان فيه ابن تيمية من الحبس والتهديد والإرهاق؛ وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأقواهم قلبًا، وكُنّا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت مِنّا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا" (الوابل الصيب؛ ابن القيم).

وهذا فقط طرفٌ من أخبار شجاعته رحمه الله، أرأيت هذا الشجاع، صنديد أهل السنة في زمانه؟ فهو الذي كان يقول رحمه الله: "ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته" (منهاج السنة: [3/390]).

وكان ابن تيمية دومًا يشير لقضية التجربة رحمه الله كما يقول: "ولهذا يقال: [ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان] والتجربة تُبيِّن ذلك" (الفتاوى: [28/391]).

حسنًا.. هذا الكلام الذي قاله أبو العباس ابن تيمية في تعظيم طاعة ولاة الأمور ومنع الخروج المسلح؛ هل قاله شيخ الاسلام خوفًا أو تملقًا؟ هل يعقل أن يكون رجل يُحرِّك الجيوش ولا يخرج من اعتقالٍ إلا لاعتقالٍ آخر حتى توفاه الله في معتقله؛ يقول هذا الكلام هلعًا أو تزلفًا؟ هذا أمر تحيله طبائع الأمور.

إذن.. لماذا كان الإمام ابن تيمية يقول هذا الكلام؟ إنما كان يقوله تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شرّعه وأكده في نصوص متوافرة غزيرة، وأهل السنة حين يوجبون السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف وتحريم الخروج المُسلَّح؛ فليسوا يُقرِّرون ذلك لسواد عيون ملك ولا أمير ولا وزير، بل توقيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعانا لذلك في أحاديث كثيرة، فإذا كان رفع الصوت بحضرة رسول الله يوشك أن يحبط العمل فكيف بالاعتراض على سنته صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].

تأمّل يا أخي الكريم في كثير ممن يكتب في الخلل السياسي أو في قضايا السياسة الشرعية؛ تجد كثيرًا من الكتّاب (الثوريين) إذا جاء إلى قاعدة (النهي عن المنكر) يكون تقريره في غاية القوة والحماس والمغالاة اللفظية، وإذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف لولاة الأمور؛ رأيته يُضعِّف ويُقرِّرها على خجلٍ، أو يُزهِّد فيها.

بينما بالمقابل تجد كثيرًا من (السلطانيين) إذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة لولاة الأمور يُقرِّرهما بتوسع وتكرار وإعادة وإبداء وطاقةٍ عجيبة، فإذا جاء إلى قاعدة (النهي عن المنكر) خارت قواه وتحاشى نصوص الإنكار القوية، وصار أكثر كلامه في ذم أخطاء المنكرين!

وكِلا الطائفتين، أعني الثورية والسلطانية؛ إنما جوهر قصورهم هو ضعف الإيمان والتسليم لله ورسوله، ولذلك تراهم يجدون في نفوسهم حرجًا من بعض ما أنزل الله، والله تعالى يقول: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف من الآية:2].

فالمؤمن المنقاد المنصاع لله ورسوله تجده يُقرِّر الأصول السياسية الشرعية الثلاث بكل فخرٍ وعزة، ولا يجد في نفسه حرجًا وخجلًا من كلمة واحدة قرَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بأحاديثٍ متواترة؟!

ولذلك فنصيحتي إليك يا أخي الكريم أنك إذا التقيت بأحد من (الثوريين) أن لا تخجل من عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وتحريم الخروج المُسلَّح.

وإذا التقيت بأحدٍ من (السلطانيين) أن لا تخجل من عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالإنكار والصدع بالحق.

ومن سلوكيات الطائفة الثورية التي لاحظتها أنها تزايد دومًا في قضايا النقد السياسي، فربما انجرف بعض الدعاة وقال نقدًا سياسيًا متهورًا ليتحاشى الضغط النفسي لهذه الطائفة الثورية.

والأسلوب المُفضَّل لهذه الطائفة الثورية هو ما يمكن تسميته: (أسلوب المطالبة بالسقف السياسي الأرفع)، ولأضرب على ذلك مثلًا:

لو جاء داعيةٌ وانتقد خطأ معلم معيّن، لقالوا له: تستقوي على المعلم، لماذا لا تنتقد مدير المدرسة نفسه، فإذا انتقدت مدير المدرسة، قالوا لك: تستقوي على مدير المدرسة، لماذا لا تنتقد مدير التعليم بالرياض؟ وإذا انتقدت مدير التعليم قالوا: لماذا لا تنتقد وزير المعارف؟ وإذا انتقدت وزير المعارف قالوا لك: لماذا لا تنتقد الملك الذي اختار هذا الوزير ووضعه في مكانه؟ وإذا انتقدت الملك قالوا لك: مؤكد أن لديك صفقة مع جناح سياسي آخر، لماذا لا تنتقد كل أجنحة السلطة؟ وإذا انتقدت أجنحة السلطة الأخرى قالوا لك: ما فائدة النقد، النقد كلام لا يصنع شيئًا، ومؤكد أنهم لم يسمحوا لك بالنقد إلا لإشغال الناس بالكلام عن التغيير الفعلي، هذا إلهاء وخطة من السلطة لتفريغ الغضب فقط، لا بد من التغيير بالقوة. فإذا بدأت فعلًا بالتغيير بالقوة ثم اعتقلت على خلفية "قضية إرهاب"، خرجوا من الغد يكتبون عنك (مسكين متهور ليس لديه وعي سياسي)، وهكذا لو وقعت قضية عنف تجد هؤلاء الثوريين أول من يتبرأ منك، وهم الذين دفعوك أصلًا!

هذا الأسلوب -أعني أسلوب المطالبة بالسقف السياسي الأرفع- هو نوع من استخفاف الدعاة الذي نهى الله عن التأثر به في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم من الآية:60].

ولذلك كله كنت ولا زلت وسأظل مؤمنًا بأهمية التفافنا جميعًا حول العلماء الربانيين الراسخين، ومن أخطر المزالق التي يمكن أن تنزلق فيها الدعوة الإسلامية تصدير الصغار وترميز الدعاة الشباب والالتفاف حول طلبة علم لا يزالون في مُقتبَل العمر.

دعونا نكون صرحاء مع أنفسنا؛ هناك فارق جوهري بين شخصية العلماء الربانيين، وشخصية الداعية الشاب، فالداعية الشاب يعرض له من حب الظهور وشهوة الرياسة ولذة التصدر ونزوة غلبة الأقران والاستسلام للفتن ما لا يعرض للعلماء الربانيين الراسخين، ولذلك فاحتمال إصابة الراسخين للحق أكثر بكثيرٍ من احتمال إصابة الشاب، وثبات الراسخين على المنهج أكثر بكثيرٍ من ثبات الدعاة الشباب.

كثير من الشباب لا يستوعب جيدًا معنى قول أهل السنة أن الحجة في الكتاب والسنة، ويظن أن هذا المبدأ ينفي مرجعية العلماء الكبار، ولذلك تراه يعارض مرجعية العلماء بهذه القاعدة، وهذا خطأ فهناك فرق بين المصدر المؤسس للحقيقة والمصدر الكاشف لها، فالكتاب والسنة مصدر مؤسس للحقيقة، بينما الإجماع والقياس وقول الصحابي الذي أقرّه بقية الصحابة، وانشراح صدر العالم الرباني للحق... إلخ؛ هذه كلها مصادر وقرائن عظيمة في كشف الحقيقة الشرعية وليس تأسيسها، فهذه المصادر لا تأتي بمعاني شرعية جديدة، بل تكشف فقط المعنى الشرعي.

خذ مثلًا هذا النموذج: لما قال أبو بكر رضي الله عنه: "لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة".. فجادله عمر، ثم اقتنع عمر لاحقًا بصواب قول أبي بكر، السؤال هاهنا: كيف اقتنع عمر بقول أبي بكر؟ انظر ماذا يقول عمر: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق" (البخاري: [1400]).

أرأيت كيف اعتبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن انشراح صدر العالم الرباني أبي بكر للقول قرينةٌ على أنه الحق، فهل عمر لا يعتبر الحجة في الكتاب والسنة؟!

هؤلاء العلماء الربانيون الراسخون الذين جمعوا العلم والعبودية فيهم من التجرد لله ورسوله ما لا يستطيعه أكثر الشباب الدعاة، هؤلاء الربانيون لا يراعون في اجتهادهم سلطانًا، ولا جمهور، ولا ثقافة غربية ضاغطة؛ وإنما يتحرون مراد الله ورسوله بقلوبٍ زكاها الإيمان والعبودية والتقوى والتصون والورع والسلامة من الأغراض.

هل تريدني أن أُصدِّق أن بعض من تحوّل إلى نجمٍ إعلامي يتتبع الفلاشات الفضائية أصدق في البحث عن مراد الله ورسوله من هؤلاء الأكابر المعرضين عن زخارف الدنيا؟!

الفتوى الشرعية دين وعلاقة بالله.. فلينظر كل رجل مِنّا عمّن يأخذ دينه؟!

على أية حال.. كان المراد من هذه الورقة هو التباحث حول بعض القواعد الشرعية للمال العام مثل: «إنما أنا قاسم»، و"من أين لك هذا؟"، «هلّا جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟»، "اكتبا كل مالٍ لكما"، انتفاء الحد لا يعني انتفاء التعزير، المصلحة تقييد لا تخيير، العدل في الإقطاع العقاري... ونحوها؛ وإبراز مركزية المال العام في فقه أهل السنة، وشدة عنايتهم به، ومحاولةً لمواصلة جهود أهل السنة في الإصلاح الشامل للدين والدنيا، ولا زال الموضوع فيه نصوص شرعية كثيرة، وشواهد من آثار الصحابة، وخصوصًا آثار عمر بن الخطاب؛ وكلها تحتاج لعرض مفصل يليق بها، فلعلها تتاح فرصٌ لاحقة بإذن الله.

والله تعالى أعلم.

ذوالقعدة 1431هـ - 16 أكتوبر 2010م.

 

 

المصدر: مدونة الكاتب