تأملات تاريخية - (5) نصر من حيث لا تحتسب

منذ 2015-01-17

أوار الحرب قد يشتعل في نقطة ساخنة من بقاع العالم الإسلامي، ويلتفت الناس يمنة ويسرة لقدوم الفرج، ثم يأتي التغيير من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث.

المتأمل في تاريخ أمتنا يجد أنها متفردة حتى في مسار أحداثها وتتابع دولها والسنن الربانية المتحكمة في قيامها وسقوطها ومراحل عزِّها وهوانها، وإن من تلك القوانين الإلهية السائرة على الفرد والأمة، أنك قد تطرق أبوابًا للرزق في جهة، والله قد كتب رزقك في جهةٍ لا تخطر لك على بال!! أن أوار الحرب قد يشتعل في نقطة ساخنة من بقاع العالم الإسلامي، ويلتفت الناس يمنة ويسرة لقدوم الفرج، ثم يأتي التغيير من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث.

انظر مثلًا إلى تتابع أحداث السيرة النبوية منذ العهد المكي وبدايته الأولى حيث الهجرة إلى الحبشة، وهو مكان لم يخطر على بال أحد ولم يحتسبه المسلمون، حين قال صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ». ثم تتابع الأحداث إلى عرض رسول الله نفسه على القبائل وفشل مفاوضاته مع وفد بني شيبان، حتى كان الفرج من حيث أراد الله لا من حيث رأى المسلمون، يقول ابن إسحاق: "فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا" [1].

إن الأمور الحتمية القدرية التي قضاها الله تعالى، والتي يغفل عنها معظم المسلمين ويجهلها تمامًا أعداء الإسلام أن الله عز وجل قد حفظ أمة الإسلام من الزوال بالكلية، واستجاب لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم في ألا يسلط عليها عدوًّا من سواها يستأصل شأفتها؛ فأمة الإسلام قد تضعف وقد تمرض مرضًا شديدًا ويدب الوهن في كل أعضائها ولكنها لا تموت، ولا تخلو الأرض أبدًا إلى قيام الساعة من الجماعة المؤمنة الموحدة، فهي لا تنقرض وتزول مثلما حدث مع دول أخرى كبيرة مثل دولة الإغريق أو الرومان أو الفرس، وكلما سقط للمسلمين في بلد دولة قام لهم في بلد آخر دولة، وكلما اضطهدوا واستضعفوا في بقعة قووا وتجمعوا في بقعة أخرى.

وهذه الميزة تبدو بوضوح جليٍّ للمتأمل في تتابع أحداث الإسلام في بلاد الأندلس، ففي نهاية عهد الولاة كانت بلاد المغرب الإسلامي والأندلس تموج في ظلمات النعرات العصبية والصراعات القبلية، وجيوش النصارى تدق طبول الحرب للقضاء على الإسلام، وظن البعض أن الإسلام انتهى من الأندلس، ولكنَّ رحمة الله ظهرت بظهور رجلٍ أعاد للإسلام مكانته مرة ثانية، لم يكن من بلاد المغرب ولا الأندلس ولا من المعروفين المشهورين هناك، ولا من ذوي السلطان والقوة والمنعة، وإنما هو شاب مكلوم من الشرق مطارد مشرَّد، قُتل أهله وعشيرته، سُلب ماله وعزه، وتتابعه أكبر قوة إسلامية ثورية في العالم الإسلامي وهي القوة العباسية الجديدة كما أنه مطلوب الرأس من قوى الخوارج في الشمال الإفريقي.

ذلك الفارس هو عبد الرحمن الداخل صقر قريش، صاحب 19 سنة، الذي حط رحاله في الأندلس بعد رحلة من أعجب وأغرب رحلات المغامرة في التاريخ، حتى قال عنه المؤرخون: "لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس". وعلى مدار 34 عامًا (138- 172هـ/ 756- 788م) استطاع الداخل أن يقيم ملكًا ويؤسس دولة وينشئ حضارة زاهرة وعامرة وناضرة على أرض الأندلس، بعد حياةٍ كلها جهاد.

ومرة أخرى!! وبعد مرور قرون ثلاثة تفتت المسلمون تفتتًا لم يسبق في عهد الأندلس، وكان الهبوط على أشد ما يكون، وتجزأت بلاد الأندلس إلى دويلات ضعيفة لا تمتلك أسباب ومقومات النصر على الأعداء المحيطين بها، ودخلت الأندلس في صراع دامي وطويل بين مجموعة ملوك الطوائف الأقزام -يمثلون 22 دويلة أندلسية كلها تدعي الإسلام- من سنة 399هـ إلى سنة 479هـ، والغريب أن هؤلاء الذين حكموا هذه الدويلات الصغيرة قد أعلن أنه أمير المؤمنين!!

وأدى ذلك إلى التناحر والتباغض فيما بين أمراء هذه الدويلات، وتفاقم الأمر حتى بلغ إلى الاستعانة بالنصارى، فسقطت بسبب ذلك بعض الإمارات الإسلامية كطليطلة، والبعض الآخر فرض عليه الحصار كإشبيلية، فصارت هذه الدويلات تحت سلطة النصارى وحكمهم، وأصبح المسلمون يدفعون الجزية للنصارى وهم صاغرون!! وعظمت محنة الإسلام في بلاد الأندلس وقويت شوكة النصارى بقيادة ألفونسو، وظن الناس أن هذا أوان السقوط ووقت الرحيل!!

في ذلك الوقت العصيب الذي ارتجفت فيه قلوب المسلمين في الشرق والغربخوفًُا من سقوط دولة الإسلام في الأندلس، كانت يد الله تعمل وتهيئ للمسلمين أمرهم، حيث هناك في أدغال إفريقيا وفي شمال السنغال تظهر دعوة المرابطين على يد عبد الله بن ياسين سنة 440 هـ/ 1048م.

وبعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى، تصبح دولة المرابطين في سنة 478هـ دولة واحدة من تونس الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، أي تمثل أكثر من ثلث أفريقيا، وفي سنة 453 هـ/ 1061م يصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله (410 500 هـ/ 1019 1106م) زعيمًا على هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه أمير المسلمين وناصر الدين.

وفي سنة 478هـ لَا تزَال تفد عليه وفود ثغور الأندلس، مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بالله والإسلام مستنجدين بفقهاء حَضرته ووزراء دولته فَيسمع إليهم ويصغي لقَولهم وترق نَفسه لَهُم، فتشوَّق إلى ما يطلبون، فإنه يريد جهاد النصارى، فانطلق معهم رحمه الله، حيث كانت معركة الزلاقة فجر يوم الجمعة الموافق (12 من شهر رجب 479هـ/ 23 من أكتوبر 1086م)، التي انكسرت فيها أعلام النصارى ورجع للإسلام هيبته في بلاد الأندلس، وصدقت مقولة المعتمد بن عباد في رده على كتاب ألفونسو: "قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية في أيدي الجيوش المرابطية، تريح منك لا تروّح عليك إن شاء الله".

وما هي إلا سنوات قلائل حتى استطاع يوسف بن تاشفين أن يضمّ كل بلاد الأندلس تحت لوائه، وأن يحرّر سرقسطة، تلك التي كان النصارى قد أخذوها بعد أن قسَّمها أميرها بين ولديه واستطاع أن يضمّها إلى بلاد المسلمين، وقد أصبح أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب من فرنسا وحتى وسط أفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين [2].

نأخذ من هذا أنه عند وقوع النكبات الكبرى في تاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك.

ففي سلسلة الحروب الصليبية تقوم حركة الجهاد من الموصل شمال العراق، مع أن المناطق المنكوبة أو المحتلة في آسيا الصغرى (تركيا) وبلاد الشام وفلسطين. وفي قصة التتار ينقذ الله الأمة الإسلامية بمصر وتتحطم أحلام التتار على أبواب سيناء حيث معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز رمضان 658هـ/ سبتمبر 1260م، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلًا.

وفي نفس العام الذي سقطت فيه الخلافة العباسية العريقة تحت ضربات الجحافل الهمجية المغولية سنة 656هـ، ولد رجل وسط غمار هذه الأحداث الرهيبة، قدر له أن يكون منشأ دولة تنوب عن أمة الإسلام في التصدي لأعدائها لقرون عديدة، ودولة ستعيد مجد الخلافة الإسلامية، ودولة ستنشر الإسلام في قلب أوربا، ويتحقق على يديها موعود النبي بفتح عقر دار النصرانية (القسطنطينية)، ونعني بها الدولة العثمانية. فعندما سقطت الخلافة العباسية فعليًا في بغداد أقام الله الدولة العثمانية في بورصة Bursa على بحر مرمرة ثم أدرنة على يد عثمان الأول 699هـ/ 1299م.

وفي العصر الحديث يتمكن الغرب الصليبي من احتلال العالم الإسلامي عسكريًا وفكريًا وثقافيًا واقتصاديًا، وتعيش الأمة في خضم محنة وصراع هوية على مدار قرنٍ من الزمان، غير أن هذه الأمة لن تموت، فمن رحم المحنة يخرج الآلاف من الرجال والشباب والنساء يرفعون الراية من جديد.

وها هي الأمة الإسلامية الآن نعيش مخاضها العسير في القاهرة وفلسطين وبغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس، وتعود بنا بارقة الأمل بقوة من إسطنبول وغزة.. وتبقى الأمة في انتظار ذلك الفارس الذي يخرج من فوق صهوة جواده ليرفع الراية من جديد، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، وحتمًا ستتحقق البشارة والموعود: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51].

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ 1955م، 1/ 321- 322، 1/ 428.

[2] أبو العباس الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري محمد الناصري، الناشر: دار الكتاب الدار البيضاء، 2/ 38- 39.

راغب السرجاني: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، ط1 لسنة 1432هـ- 2011م.

راغب السرجاني: قصة الحروب الصليبية، مؤسسة اقرأ، ط2، يناير 2009م، ص263.

أحمد عبد الحافظ

  • 1
  • 0
  • 4,968
المقال السابق
(4) سنّة ماضية
المقال التالي
(6) يوم كنا أعز أمة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً