الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف - (4) تتمة نافعة في بيان السنة والبدعة

منذ 2015-01-17

أرواح الأولياء على أفنية قبورهم تشفع لمن زارهم وتقضى حاجاته، ولذا نقلوا إليهم مرضاهم للاستشفاع بهم، وقالوا: من أعيته الأمور فعليه بأصحاب القبور

إنه قبل تعريف البدعة ينبغي تعريف السنة، إذ السنة من باب الأفعال والبدعة من باب التروك، وما يفعل مقدم على ما يترك، كما أنه بتعريف السنن تعرف البدع ضرورة.

فما هي السنة إذن؟

السنة لغة هي الطريقة المتبعة، والجمع سنن.

وشرعا هي ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى لأمته من طرق البر وسبل الخير، وما انتدبها إليه من الآداب والفضائل، لتكمل وتسعد. فإن كان ما سنه قد أمر بالقيام به والتزامه فذلك السنن الواجبة التي لا يسع المسلم تركها، وإلا فهي السنن المستحبة التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

واعلم أيها القارئ أن النبي صلى الله عليه وسلم كما يسن بقوله يَسُنُّ بفعله وتقريره إنه صلى الله عليه وسلم إذا عمل شيئا وتكرر منه بالتزامه له يصبح سنة للأمة إلا أن يدل الدليل على أنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم كموالاة الصيام مثلا، وإن سمع بشيء أو رآه بين أصحابه، وتكرر ذلك الشيء مرات ولم ينكره صلى الله عليه وسلم كان سنة بتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما ما لم يتكرر فعله أو رؤيته أو سماعه فإنه لا يكون سنة، إذ لفظ السنة مشتق من التكرار ولعله مأخوذ من سن السكين إذا حكها على المسن المرة بعد المرة حتى أحدَّتْ أي صارت حادة بمعنى أنها تنفذ في الأجسام وتقطعها.

فمثال ما فعله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة ولم يكرره فلم يصبح سنة، جمعه بين الظهر والعصر[1] والمغرب والعشاء في غير عذر سفر ولا مرض ولا مطر، فلذا لم يكن سنة متبعة لدى سائر المسلمين.

ومثال ما سكت عنه وأقره مرة واحدة فلم يكن لذلك سنة يعمل بها المسلمون "ما روي من أن امرأة نذرت إن رد الله رسوله سالما من سفر كان قد سافره صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تضرب بالدف على رأسه فرحا بعودته سالما عليه الصلاة والسلام"[2]، ففعل هذه المرأة وإقرار الرسول لها بعدم نهيها عنه مرة واحدة لم يجعل هذا العمل سنة وذلك لعدم تكراره مرات.

ومثال ما تكرر من فعله صلى الله عليه وسلم فأصبح سنة يعمل بها المسلمون بلا نكير: "استقباله صلى الله عليه وسلم الناس بوجهه وجلوسه بين يدي الصف بعد انفتاله من الصلاة المكتوبة" فهذه الهيئة من الجلوس لم يأمر بها صلى الله عليه وسلم ولكن فعلها وتكررت منه مئات المرات فكانت بذلك سنة كل إمام يصلي بالناس.

ومثال ما تكرر مما رآه أو سمعه فأقره فأصبح سنة، المشي أمام الجنازة ووراءها إذ كان يرى أصحابه منهم من يمشي وراء الجنازة ومنهم من يمشي أمامها مرارا عديدة فأقرهم على ذلك بسكوته عنهم، فكان المشي وراء الجنازة وأمامها سنة لا خلاف فيها. هذه هي السنة كما عرفتها أيها الأخ المسلم فاذكرها دائما وأضف إليها سنة أحد الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين لقوله صلى الله عليه وسلم «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ»[3].

أما البدعة فإنها نقيض السنة مشتقة من ابتدع الشيء إذا أوجده على غير مثال سابق.

وهي في عرف الشرع: كل ما لم يشرعه الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من معتقد أو قول أو فعل، وبعبارة أسهل: البدعة هي كل ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه دينا يعبد الله به، أو يتقرب به إليه من اعتقاد أو قول أو عمل مهما أضفي عليه من قداسة، وأحيط به من شارات الدين وسمات القربة والطاعة.

وهذه أمثلة للبدعة في كل من الاعتقاد والقول والعمل نوضح بها حقيقة البدعة تعليما وتحذيرا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

مثال البدعة الاعتقادية: اعتقاد كثير من المسلمين أن للصالحين ديوانا أشبه بحكومة سرية في العالم عنه يصدر التولية والعزل، والإعطاء والمنع، والضر والنفع وأهله هم الأقطاب، والأبدال، وكم سمعنا من يستغيث بهم قائلا يا رجال الديوان ويا أهل التصريف من حر ووصيف[4].

واعتقاد أن أرواح الأولياء على أفنية قبورهم تشفع لمن زارهم وتقضى حاجاته، ولذا نقلوا إليهم مرضاهم للاستشفاع بهم، وقالوا: من أعيته الأمور فعليه بأصحاب القبور،

واعتقاد أن الأولياء يعلمون الغيب، ينظرون في اللوح المحفوظ، ويتصرفون بنوع من التصرف وسواء كانوا أحياء أو أمواتا ولذا أقاموا لهم الحفلات واتخذوا لهم القرابين وجعلوا لهم مواسم وأعيادا ذات مراسم خاصة[5].

فهذه وغيرها كثير من البدع الاعتقادية التي لم تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أصحابه ولا عهد أهل القرون الثلاث المشهود لها بالصلاح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم «خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»[6].

مثال البدعة القولية: سؤال الله تعالى بجاه فلان، وبحق فلان مما جرى عليه الناس وقلد فيه صغيرهم كبيرهم وآخرهم أولهم، وجاهلهم عالمهم حتى عدوا هذا من أشرف الوسائل وأعظمها يعطي الله تعالى عليها ما لم يعط على غيرها ويا ويل من يجرؤ على إنكار هذه الوسيلة فإنه يعد مارقا من الدين مبغضا للأولياء والصالحين. في حين أن هذه البدعة القولية التي أطلقوا عليها اسم الوسيلة لم تكن معروفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد السلف الصالح، ولم يَرِدْ بها كتاب ولا سنة وأقرب القول فيها أنها من وضع الزنادقة من غلاة الباطنية لتعويق المسلمين عن وسائل نافعة تفرج بها كرباتهم، وتقضي بها حاجاتهم كوسائل الصلاة والصدقات والصيام، والدعوات والأذكار المأثورة.

ومن هذا الابتداع في القول: ما تعارف عليه أغلب المتصوفة من إقامة حضرات الذكر أحيانا بلفظ هو هو حي، والله الله، بأعلى أصواتههم وهم قيام ويقضون في ذلك الساعة والساعتين حتى يغمى على بعضهم، وحتى يقول أحدهم الْهُجْر وقد ينطق بالكفر وقد قتل أحدهم أخاه وهو لا يشعر حيث طعنه بسكين.

ومثله الاجتماع على المدائح والقصائد الشعرية بأصوات المرد وحالق اللحى والضرب على الطار والعود، أو الدف والمزمار، فهذه البدع القولية وغيرها كثير، والله قسما به تعالى ما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أصحابه وإنما هي من وضع الزنادقة والمخربين لدين الإسلام المفسدين لأمته لصرفهم عن النافع إلى الضار، وعن الجد إلى اللهو والهزل.

مثال البدعة الفعلية: البناء على القبور وخاصة قبور من يعتقدون صلاحهم، وضرب القباب على قبورهم، وشد الرحال إلى زيارتها والعكوف عليها، وذبح الغنم والبقر عندها وإطعام الطعام حولها كل هذا لم يعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ومثله خروج بعض الناس من المسجد الحرام القهقرى وكذا من المسجد النبوي حتى لا يستدبر البيت العتيق أو القبر النبوي عند خروجه فهذه بدعة فعلية أيضا لم يعرفها صدر هذه الأمة الصالح ولكن أحدثها المتنطعون من الناس. ومن ذلك وضع توابيت خشبية على أضرحة الأولياء وكسوتها بأفخر الكتان وتجمير الضريح بالبخور وإيقاد الشموع عليه.

هذه أيها القارئ الكريم أمثلة لبعض البدع في الاعتقاد والقول والعمل والتي اكتسبت طابع البدعة في العبادات ومثلها البدع في المعاملات كسجن الزاني بدل إقامة حد الزنى عليه، وكذا سجن السارق وضربه بدل إقامة حد السرقة عليه وهو قطع يده، وكإشاعة الأغاني وتعميمها في البيوت والشوارع والأسواق إذ مثل هذا الطرب العاتي والمدح الماجن لم يعرفه صدر هذه الأمة الصالح رضوان الله عليهم. ومن هذه البدع العملية ترسيم الربا والإعلان عنه، وعدم إنكاره، ومثله سفور النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال في الأماكن العامة والخاصة كل هذا من الإحداث المشين والمعرِّض لأمة الإسلام للمحو والزوال، وآثار ذلك ظاهرة في أمة الإسلام لا تحتاج إلى تدليل ولا تبيين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[7].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حديث الجمع بين الصلاتين في الحضر (رواه مسلم عن ابن عباس، وهذا نصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جمع رسول الله بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. بالمدينة المنورة في غير خوف ولا مطر".

(2) رواه أبو داود والترمذي وقال فيه حسن صحيح غريب. وهو حديث طويل ذكره في مناقب عمروالمذكور هنا طرف منه حيث الشاهد فقط.

(3) رواه أبو داود والترمذي وصححه. والنواجذ الأنياب وقيل الأضراس.

(4) الوصيف: الخادم المملوك ضد الْحُرّ.

(5) اعتقاد أن هناك ديوانا والاستغاثة برجاله ودعاؤهم هذا كله من الشرك الأكبر.

(6) متفق عليه، وتمامه: «ثم يكون بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون. وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن».

(7) إن قيل: لم نذكر لا حول ولا قوة في مثل هذا الموضع. قلت لتفريج الهم. لحديث أبي هريرة: «لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسع وتسعين داء أيسرها الهم» (رواه ابن أبي الدنيا وحسنه السيوطي).

المصدر: كتاب الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف

أبو بكر جابر الجزائري

مدرس بالمسجد النبوي وعضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية سابقا

  • 0
  • 0
  • 6,976
المقال السابق
(3) تنبيه
المقال التالي
(5) فرع مهم في بيان الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً