الخواطر والأفكار

منذ 2015-01-20

مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها. فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابّه فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء.

مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها. فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابّه فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء. 

فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد، بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضراً معه مشاهداً له، ناظراً إليه رقيباً عليه، مطّلعا على خواطره وإرادته وهمّه فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله أو يرى في نفسه خاطراً يمقته عليه.

فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقرّبه منه وأكرمه واجتباه ووالاه وبقدر ذلك يبعد عنه الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة. 

كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عنه جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص. فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرّب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته، وآثره على هواه وشرّ المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته فمتى اختار التقرّب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكّم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه وحكّم رشده على غيّه وهداه على هواه ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.

واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة فرّدها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.

ومعلوم أنه لم يعطى الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال: «أوقد وجدتموه؟» قالوا: نعم قال: «ذاك صريح الإيمان» وفي لفظ: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» (متفق عليه). 

وفيه قولان:

أحدهما: أن رده وكراهته صريح الإيمان. 

والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان فإنه إنما ألقاه في النفس طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته به. وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً ونحو ذلك فإذا جاء وقت تعجن والخبز تبيّن له حقيقة طحينه.

فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده وإن قبلته صار فكراً جوّالا فاستخدم الإرادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح فإن تعذّر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتوجه هو إلى جهة المراد ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل وتداركه أسهل من قطع العوائد فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر في ما لا يعني باب كل شر، ومن فكّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما ما لا منفعة له فيه فالفكر والخواطر، والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفس فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.

وإياك أن تمكّن الشيطان من بيت أفكارك وإراداتك فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرّة ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن ?يها جيّد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكّنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً. 

والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك، وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوى عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح همّه.

وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته وعند العارفين أن تمنّى الخيانة واشتغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها فإن تمنيها يشغل القلب بها ويملأه منها ويجعلها همه ومراده.

وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله فإذا اطّلع على سره وقصده مقته غاية المقت وأبغضه، وقابله بما يستحقّه وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره مع الملك غير منطو على تمنّي الخيانة ومحبتها والحرص عليها فالأوّل يتركها عجزاً واشتغالاً بما هو فيه وقلبه ممتلئ بها والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها، فهذا أحسن حالا وأسلم عاقبة من الأول.

وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها وإما في مصالح دنياه ومعاشه وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقى فيها فإن ألقيت فيها حباً دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجاً وحصى وبعراً دارت به والله سبحانه هو قيّم تلك الرحى ومالكها ومصرّفها وقد أقام لها ملكا يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانا يلقي فيها ما يضرها فتدور به فالملك يلم به مرة والشيطان يلم بها مرة فالحب الذي يلقيه.

المصدر: مختارات من كتب ابن القيم
  • 2
  • 0
  • 12,596

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً