ثقافة التلبيس - خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني!

منذ 2015-01-26

يتردد عند كثير من الكتاب هذه الأيام الحديث عن (الوطنية)، والتغني بحب الوطن، دون ضوابط من البعض تمنعه عن الخلط بين الحب الشرعي للوطن المسلم، بالحب غير الشرعي.

يتردد عند كثير من الكتاب هذه الأيام الحديث عن (الوطنية)، والتغني بحب الوطن، دون ضوابط من البعض تمنعه عن الخلط بين الحب الشرعي للوطن المسلم، بالحب غير الشرعي. ولا أذيع سرًا إذا ما قلتُ بأن لفظة (الوطنية) غير محببة لدى كثيرين؛ بسبب ارتباطها أول نشأتها بالفكرة الانعزالية التي تقيم حاجزًا بين أبناء الإسلام إذا ما اختلفت أوطانهم، وتُطغي حبهم لأوطانهم على حبهم لدينهم؛ حتى قال قائلهم في وطنه:

ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني *** عليه أقابل الحتم المجابا

أدير إليك قبل البيت وجهي *** إذا فهتُ الشهادة والمتابا!

وهذه (وثنية) لا (وطنية)؛ لا أظن مسلمًا يرضاها لنفسه والعياذ بالله.

وللفائدة؛ فهذه الدعوة الوطنية الوثنية ابتدأت باعتراف أحد دعاتها وهو الدكتور محمد عمارة منذ الحملة الفرنسية على مصر؛ يقول الدكتور: "لقد كان الناس في مصر يفكرون تفكيرًا إسلاميًا يعرف الملة ولا يعرف الوطن ولا القومية؛ فسلكت الأفكار الوطنية أو القومية التي ألقى الفرنسيون بذورها في تربة مصر إلى عقول الناس"(1).

 

ثم ازدادت هذه الفكرة الوثنية اشتعالا بسبب النصارى العرب سواء القادمين من الشام إلى مصر أو الأقباط فنفخوا فيها ونشروها؛ لأنها تحقق لهم مصالحهم كما لا يخفى. ثم سرت في معظم بلاد المسلمين للأسف برعاية استعمارية؛ يستفيد منها العدو في عزل بلاد المسلمين عن بعضها البعض، وتشتيتها من خلال هذه الدعوة الجاهلية.

ويزداد الأسف؛ عندما نرى بوادر لهذه الدعوة تسري إلى بلادنا من خلال كتابات هنا وهناك؛ تحاول لبس الحق بالباطل؛ وتعيد هذه الفكرة جذَعة في بلاد التوحيد؛ في محاولة لصرف (المملكة العربية السعودية) عن دورها الإسلامي العظيم المنتظر منها في قيادة المسلمين إلى كل خير.

 

لذا؛ فقد أحببت أن أنتقي ما وقفت عليه من عبارات للشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله؛ يوضح فيها الفروق بين الحب الشرعي للوطن، والحب الجاهلي؛ لعل الله ينفع بها.

يقول الشيخ في شرح حديث: «وإذا استنفرتم فانفروا»:

"ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مره واحدة؛ يجاهَد أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم، لكن المسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلا، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام.

ولهذا يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم؛ يجب علينا أن نُذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء؛ لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج إلى حماية ودفاع، فلا بد أن ندافع عنه بهذه النية. أما الدفاع بنية الوطن أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليُرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». انتبه إلى هذا القيد! إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ممثلة في بلدك؛ لأن بلدك بلد إسلام، ففي هذه الحال ربما يكون القتال قتالا في سبيل الله.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- (أي يجرح) إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك».

فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله. فيجب على طلبة العلم أن يبينوا هذا والله الموفق"(2).

 

وقال رحمه الله في شرح حديث: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»:

"ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر؛ لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه. والذي يُقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد، ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك، الواجب أن نقاتل من اجل الإسلام في بلادنا.

انتبه للفرق: نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا؛ سواء كان في أقصى الشرق أو الغرب، فيجب أن تصحح هذه النقطة: فيقال: نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي، ندافع عن الإسلام الذي فيه.

أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإسلام شيئًا، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن.

وما يُذكر من أن (حب الوطن من الإيمان) وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب. حب الوطن إن كان إسلاميًا فهذا تحبه لأنه إسلامي، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه. على كل حال؛ يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلدنا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي لا لمجرد الوطنية"(3).

 

وقال رحمه الله عند حديث: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء»:

"بقي علينا: الذي يقاتل دفاعا عن بلده؛ هل هو في سبيل الله أو لا؟

نقول: إن كنت تقاتل عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا. أما إذا قاتلت لأجل أنها وطن فقط؛ فهذا ليس في سبيل الله، لأن الميزان الذي وضعه النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطبق عليه، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة، والله الموفق"(4).

 

وقال رحمه الله تعليقًا على عبارات (النشيد الوطني) لما سئل عنها؛ فلم يتوقف سوى عند عبارة (عاش المليك للعلم والوطن) قائلا:

"يُنظر أولا: هل العلم وهو جماد يُخاطب بمثل هذا الخطاب؟

ثانيًا: هل مثلا يقال لله والوطن، أو عاش المليك للعلم والوطن؟

ما معنى هذا الكلام؟ أما قولنا: عاش المليك فلا بأس أن ندعو له بالعيش الحميد والحياة الطيبة، وأن يسدد الله خطاه وأن يدله على الخير، هذا لا بأس به؛ بل من منهج السلف الدعاء لولاة الأمور بالصلاح والسداد، لكن العبارة الثانية: (للعلم والوطن) ما معنى للعلم والوطن؟ هل المعنى عاش للعلم وعاش للوطن؟ أو المعنى أقول ذلك تعظيمًا للوطن؟

والحقيقة إن الذي ينبغي علينا هو أن نوجه شبابنا إلى التحمس للدين، وليس للوطن من حيث إنه وطن، ولهذا ترك الصحابة أوطانهم في الفتوحات الإسلامية وذهبوا يسكنون الكوفة والبصرة والشام ومصر؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينه، فكوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن أو ما أشبه ذلك، دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا، أو ندافع عن وطننا من أجل ديننا، لأن وطننا والحمد الله (أعني بذلك المملكة العربية السعودية) هي من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية، أي أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر، بالنسبة لإقامة الدين، فأنا أدافع عن وطني لأنه الوطن الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره، وإن كان عندنا خلل كثير، فهذا لا بأس، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة"(5).

 

قلتُ: لعل عقلاء هذه البلاد يدركون الفارق بين الدعوتين، فيُلحون على المعنى الشرعي الذي يُبرز أن رفعة وطننا وعزه، وسبب محبتنا -بل محبة المسلمين له- والدفاع عنه أنه مأرز الإيمان، ومنطلق الرسالة؛ حيث لا فخر لنا بغير هذا؛ مع عدم إغفال تواصلنا مع المسلمين في كل مكان، ودعمنا لقضاياهم، وتصدرنا لها، فهذا هو والله خير ما يبقى لأهل هذه البلاد، وهو الذي يُحقق ما يهدف له من يريد نشر المحبة الحقيقية للوطن، ويجعل المسلمين يتفاعلون معه. بخلاف المعنى الضيق الذي لا يزيد الأمر إلا سوءًا مهما بذلنا واجتهدنا؛ لأن معظم المسلمين ولله الحمد لا ينقادون لغير المحبة الشرعية.

 مع التنبه والحزم مع كل من يريد بث المعنى الوثني الضيق للوطنية؛ الذي لايليق بهذه البلاد؛ وينطبق عليه قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ

 

ومن الاقتراحات التي أراها مناسبة لترسيخ المعنى الشرعي لحب الوطن في هذا البلاد؛ أن نتبنى شعار: (السعودية.. وطن الإسلام)؛ ليكون شعارًا لحملة وطنية يتم من خلالها إبراز مكانة هذه البلاد، ومعنى الحب الشرعي لها، واختيار الأفراد المناسبين للقيام بها. والله الهادي.

 

-----------------

الهوامش:

(1) الأعمال الكاملة للطهطاوي، 1/41

(2) شرح رياض الصالحين، 1/27

(3) السابق، 1/56

(4) السابق، 1/285

(5) الباب المفتوح 41-50/ص 37

  • 2
  • 0
  • 10,726
المقال السابق
قولهم: لا بد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!
المقال التالي
عدم تكفير اليهود والنصارى!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً