بر الوالدين سبل للعمل
ألا هيا فلنبادر إلى برِّهما وطاعتهما قبل أن يرحلا، ويفوت الوقت فينتقلا.. هيا قبل أن نحزن على فقدهما، ونذرف الدموع ندماً على التقصير في حقهما.
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
أولى الإسلام الأسرة اهتماماً كبيراً، وأحاطها بسياج آمن من الطمأنينة، والسعادة في كل أطوارها، من الطفولة..إلى الزوجية..إلى الأمومة والأبوة، فالأسرة التي تتكون من الزوج والزوجة والأولاد هي قوام البناء الإنساني، وعماد أية أمة، وقد تدخلت الشريعة الإسلامية في بناء الأسرة على قواعد ثابتة من الدين والخلق، فإذا قامت هذه الأسرة على الضوابط الدينية واسترشدت بما حددته الشريعة لها، واستنارت بإرشادات القرآن الكريم، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد بدأت البداية السليمة، وسلكت الطريقة الصحيحة.
بناء الأسرة المسلمة:
وأساس السعادة في بناء الأسرة المسلمة لا يقوم على الجمال أو الجاه أو الثروة فحسب، بل لابد من الدين والخلق الطيب، ومن هنا رغَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند تكوين العائلة في اختيار صاحبة الدين: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن؛ فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين))، وإذا حدث الزواج فأساسه أيضاً - حسن الخلق - سواء بالنسبة للزوج أو الزوجة - قال - تعالى -: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوْفِ) [النساء: 19] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خيركم خيركم لأهله)).
وقد وردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية في فضل وعظمة نعمة الأولاد؛ ولذلك وصانا الله بهم: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء: 11]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من نعم الله على الرجل أن يشبهه ولده)).
وإذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد جعل الأولاد زينة لنا في الحياة الدنيا، فإنه - سبحانه - جعلهم أيضاً فتنةً وابتلاءً؛ قال - تعالى -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، وليس في هذا أي تناقض أو اختلاف، بل هما طريقان، ولكلٍ اتجاه وعلامات.
وإذا أراد الواحد منا أن يجعل ولده زينة وبهجة للناظرين وخليفة له، فليحسن تربيته، وليكن قدوة حسنة له في كل شيء يرعى نشأته، ويوجِّه سلوكه، ولا ينصرف عن ذلك إلى تجارته وأمواله، بل يحنو عليه، ويتعاطف معه، سواء كان الابن ولداً أو بنتاً.
وإذا نشأ الولد وتربى التربية الإسلامية الحقة فإنه يكون وفيَّاً لوالديه، فالعلاقة بين الوالد والولد، علاقة تبادلية، بمعنى: أن الوالد يربى ابنه وهو صغير ليرعاه الولد حين يكبر.
برُّ الوالدين فريضة شرعية:
رعاية الوالدين والوفاء لهما من أسمى وأعمق العواطف النبيلة التي دعا إليها القرآن الكريم وفى هذا المقام يقول العلماء: أن القرآن الكريم على كثرة ما أوصى الولد ببر والديه؛ فإنه لم يوص الوالد بابنه كثيراً؛ لأن عاطفة حب الوالد لابنه عاطفة أصيلة فيه، والشذوذ فيها خارج عن طبيعة البشر، وبر الوالدين فريضة لازمة وعقوقهما حرام، وللأم في هذا المجال منزلة خاصة. ولا ينكر فضل الوالدين إلا كل نذل لئيم، ومهما فعل الأبناء فلن يستطيعوا أن يكافئوا الوالدين بما قاموا به نحوهم من عطف ورعاية، وتربية وعناية، وقد فصَّل الله - سبحانه وتعالى - ما يجب من الإحسان إلى الوالدين بقوله - تعالى -: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 23].
وقد أكد الله - سبحانه وتعالى - على الوفاء للوالدين ورعايتهما عند الكبر، حتى إنه - جلت قدرته - شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ووردت الأحاديث النبوية حاثة على بر الوالدين، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله ورسوله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سرّه أن يُمد في عمره ويُزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)) وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء يستأذنه في الجهاد معه: ((أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد)).
ورعاية الأم والاهتمام بها وبرها مقدم في بر الوالدين؛ لأنها تتحمل في رعاية الطفولة وتربيتها أكثر مما يتحمل الأب؛ تتحمل مشقة الحمل، وصعوبة الوضع، وقسوة الرضاع، ثم الخدمة والتربية: ((جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
عقوق الوالدين من الكبائر:
وإذا كان بر الوالدين مروءة وعبادة وفريضة فإن عقوقهما جريمة وكبيرة، وإن من أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وعقوق الوالدين، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء)).
وقد حرم الله علينا عقوق الوالدين.. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)).
ومن أقبح مظاهر العقوق التي نشاهدها في مجتمعاتنا المعاصرة اليوم: أن يتبرأ الولد من والديه، حين يرتفع مستواه الاجتماعي، وتلك صفات وضيعة، وضعف ديني، وخلق دنيء. والكثير من الفقهاء يرون تحريم تبرؤ الابن من أبويه لما رواه معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: ((من العباد عباد لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولا يطهرهم. قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ فقال النبي: المتبرئ من والديه)).
وقد قرن القرآن الأمر بعبادة الله وعدم الشرك به بالإحسان للوالدين حيث يقول - سبحانه -: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء: 36] وقوله أيضاً: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23] وتكتمل الصورة المشرقة في أمر الله بقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)).
حيث تفضل - عليه الصلاة والسلام - فجعل عدم بر الوالدين قرين الإشراك بالله، وبذلك أفاض أمر الله ورسوله هالة من القداسة والإجلال على علاقة الأبناء والبنات بالآباء، وبسط على الوالدين جناحاً من الرحمة؛ كما في قول الباري - سبحانه -: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 24]، ومن هذا وغيره نجد أن إكرام الوالدين وإبراز حقوقهما في دين الله الكريم يبلغ أقصى درجة يتصورها الفكر الواعي، والضمير الحي، ويدين بها الوجدان الصادق، والنفس المؤمنة.
ويؤكد ذلك أيضاً ما يراه جمهور الفقهاء من أنه يحرم على الإنسان المسلم أن يخرج للجهاد في سبيل الله-في غير الحالات المتعينة عليه- بغير موافقة والديه ورضاهما؛ حتى لا يتضررا بفقد رعايته لهما، ولا يشق عليهما غيابه عنهما.
فعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من اليمن جاء يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج للجهاد معه فقال - صلى الله عليه وسلم - له: ((هل لك أحد باليمن؟ فقال الرجل: أبواي يا رسول الله. فقال النبي: أبواك أذنا لك؟ فقال: لا. قال - عليه السلام -: ارجع واستأذنهما فإن أَذِنَا لك فجاهد وإلا فبرهما بطاعتك)).
من سبل بر الوالدين:
ومما أشار إليه بعض الفقهاء في صراحة وحزم أنه ينبغي على الإنسان المسلم إذا اضطر أن يحنث في يمين يتعلق بوالديه ويتضرران منه أن يفعل ما فيه رضا الوالدين وعليه الكفارة، ما لم يقع بذلك في معصية، ودون أن يكون في رضاهما شيء يتصل بالشرك بالله؛ قال - تعالى -: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) [لقمان: 15].
ويبلغ تكريم الدين للوالدين وتقديره لهما ما يراه المالكية والشافعية من أنه ينبغي للشخص المسلم أن يجيب نداء أبويه دون تراخ ولو كان في صلاة النافلة، وعقب على ذلك إمام الحرمين فقال: على الابن أن يجيب أبويه دون تراخ منه، حتى لو كان يصلي الفريضة، بشرط أن يكون في الوقت متسع لإعادة الصلاة.
ومن الحقائق الثابتة أنه لا ينتفع إنسان بعبادة غيره؛ لقول الله - تعالى -: ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39]، ولكن عدداً من الفقهاء استثنى من هذه القاعدة جواز انتفاع الأبوين بعد موتهما بالعبادة التي يؤديها أولادهما عنهما من صوم أو حج أو صدقة، يروى أن امرأة جاءت إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقالت له: إن أمي ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيت لو كان عليها دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ فقالت: نعم. قال: فصومي عن أمك)). كما أفتى كثير من الفقهاء بأن الدعاء للوالدين واجب بالأمر المفهوم صراحة في قول الله الكريم (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيْراً) وفى قوله - تعالى -: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) فقرن شكر العبد لربه بشكر الابن لأبويه، وقد سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ فقال: نرجو أن يجزيهما بالدعاء بعض حقهما إذا دعا لهما في آخر كل تشهد عند كل صلاة.
كما أوجب العلماء النفقة عليهما؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الجهاد أن يضرب الرجل بسيفه في سبيل الله؛ إنما الجهاد من عال والديه)).
وقال: من عال والده فهو في جهاد، ومن عال نفسه فكفاها عن الناس فهو في جهاد. واعتمد الفقهاء على قول الله - تعالى -: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) فقالوا بأنه لا يحد أحد الوالدين في قذف ولده، ولا يحبس أحدهما في دين عليه لأحد أولاده أولهم جميعاً.
صور ومواقف في بر الوالدين:
من جميل ما يروى عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال له: يا رسول الله، إن لي أما عجوزاً أحملها على عاتقي كل يوم وأطوف بها حول البيت، أفأكون بذلك قد وفيتها حقها؟ فيقول النبي لا. ولا بزفرة واحدة؛ إنها حملتك وهى ترجو حياتك، وأنت حملتها وتنتظر رحيلها.
ومن طريف ما يروى في مجال تكريم الوالدين أن أبا الأسود الدؤلى خاصمته زوجته في ولدها منه إلى القاضي زياد كل منهما يريد أن يحتضنه، فقال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها وحملته قبل أن تحمله ووضعته قبل أن تضعه. فقالت الأم: وضعته شهوة ووضعته كرهاً، وحملته خفاً وحملته ثقلاً؛ فقال القاضي زياد: صدقتِ أنتِ أحق به منه.
وكان علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبر الناس بأمه، ومع ذلك كان لا يأكل معها في وعاء واحد، ولما سئل عن ذلك قال: "أخاف أن تسبق يدي إلى شيء تكون قد سبقت إليه عيناها؛ فأكون قد عققتها".
والمواقف الدالة على حرص أسلافنا على برهم بآبائهم وأمهاتهم كثيرة جداً، لا تحصرها هذه السطور، ولا تتسع لها هذه المساحة، لكنها في جملتها تعكس صورة ذلك المجتمع البار، وحقيقة أولئك الأخيار، الذين زكت نفوسهم، واهتدت قلوبهم، فكانوا لنا مثلاً في برهم، ونبراساً في طاعتهم.
فهيا لنتفقد حالنا مع آبائنا وأمهاتنا، وننظر بعين الملاحظة هل نحن في برهم وطاعتهم على الحال الذي يجب، والطريقة التي تنبغي، أو أننا غير ذلك؟
ألا هيا فلنبادر إلى برِّهما وطاعتهما قبل أن يرحلا، ويفوت الوقت فينتقلا.. هيا قبل أن نحزن على فقدهما، ونذرف الدموع ندماً على التقصير في حقهما.
نهى الفخراني