بر الوالدين

أما علمت أن من بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).

  • التصنيفات: الأدب مع الوالدين -

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فإن الله -تعالى- قد جبل النفوس على حب من أحسن إليها والنظرِ بعين الإجلال والـتقديرِ لمن كان له سابقُ فضل عليها، وإن أعظم الخلق منة عليك. وإحساناً إليك. والداك يا ابن آدم.

فهما سبب وجودك من العدم بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، ولهذا قرن الله حقهما بحقه فلا يكاد بأمر بحقه إلا ويثني بالأمر بحقهما ولا يكاد ينهى عن الإساءة في حقه إلا ويثنّي بالنهي عن الإساءة في حقهما: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).

فأمر بعبادته وحده ثم أمر بالإحسان إلى الوالدين وفي حديث أكبر الكبائر: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).

وفي حديث علي: ((لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه)).

فنهى فيهما عن الشرك بالله، ثم نهى عن عقوق الوالدين

وكل ذلك تأكيداً من الله ومن رسوله -صلى الله عليه وسلم- على شأن الوالدين وأن حقهما عليك يأتي بعد حق الله -تعالى-.

تذكر أيها الابن وأنت أيتها البنت تاريخ أمك معك. فماذا ستجد؟

لقد حملت بك تسعة أشهر لاقت في حملها بك ما لاقت من الوهن والثقل وضيق النفْس والنفَس، ثم يجيء المخاض والطلق فترى فيه الموت ماثلاً بين عينيها

فما إن تستهل صارخاً حتى تنسى كل ألم!.

ثم لا تزال تسهر لتنام وتتعب لترتاح!.

تفرح لفرحك وتحزن لحزنك وتمرض لمرضك!.

وكانت لك كل شيء:

ثديها طعامك وشرابك، وحضنها ملجأك وأمانك، وحجرها مهدك وفراشك، وجنبها مقعدك وركابك.

وأما أبوك، فانظر كم كدح لأجلك يتغرب في الأسفار، ويصل الليل بالنهار ليؤمن لك حياة كريمة يبذل الغالي والنفيس، فضلاً عن الرخيص الخسيس من أجل أن يطعمك ويكسوك ويربيك ويعلمك ويصلح شأنك.

أنت قرة عينه ومحط آماله ومصدر سعادته.

إذا غبت خفق قلبه وراءك خوفاً وقلقاً، وإذا مرضت مرض كل شيء فيه، وإذا فرحت كان فرحه لك أشد من فرحك لنفسك.

فأين في الناس من الصحب والأهل والجار مَن شأنُه معك كشأن أبويك؟

لا أحد.

فلذا عظّم الله شأنهما وفخّم قدرهما وأعاد وأبدا في الوصية بهما أحياء وأمواتا أقوياء وضعفاء مسلمين وكفاراً.

قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إما يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).

أي قضى وأمر وأوصى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً عظيماً ظاهراً وباطنا، قولاً وفعلاً، هيئة وشكلاً، بدناً ومالا، بكل صور الإحسان وأنواعه الممكنة.

وإذا كان الإحسان مطلوباً منك بهما في كل وقت فإنه آكد ما يكون عند كبرهما حين تضعف القوى، ويهن العظم، وتذبل العزيمة، وتضيق النفس، ويزداد تحسسها.

تؤلمها كلمة، وتؤذيها نظرة، ويقتلها إعراض، وتزداد حاجتهما للعناية والرعاية لكثرة الأمراض، ومعاودة الأسقام.

يأتي هذا في وقت أشد ما تكون فيه أنت انشغالاً بنفسك، وولدك وزوجك، وبناء مستقبلك، فيكون ذلك مظنة تقصيرك فيهما وتفريطك في شأنهما فيأتي التنبيه الإلهي على هذه الحالة، فيقول سبحانه: (إما يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً).

لما كان أقوياء لم يكونا بحاجتك كانا يخدمان أنفسهما ويتوليان شؤونك وشؤونهما لكن اليوم لا.

اليوم ضعُفا وتبدل حالهما فصارا في حاجتك، فاحذر أن تقول لهما أف ولو علم الله كلمة أقل أذية منها لذكرها كما قال بعض السلف.

ولا تنهرهما، فترفع صوتك عليهما وإن غلطا وأساءا في نظرك... وإنما تقول لهما قولاً كريما سهلاً لينا. ليس فيه جفاء ولا غلظة ولا فظاظة.

عاملهما بالتواضع والشفقة ولو كنت غنياً وهما فقراء ولو كنت قوياً وهم ضعفاء ولو كنت متعلما وهما جهال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

ففضلهما عليك سابق وإحسانهما عليك سابغ.

هم اليوم أحوج ما يكونون إلى رحمتك وعطفك، وحنانك وبرك، كما كنت من قبل أحوج ما كنت إلى برهم وعطفهم وحنانهم.

ولما كان أداؤك لحقهما مما لا يمكنك على أكمل صورة علّمك ربك أن تكافئهما بالدعاء لهما أن يتولى الله كمال جزائهما وكمال مثوبتهما، فقال: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).

إن مقام الوالدين عظيم حتى قدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجهاد في سبيل الله أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر، قال: ((فهل من والديك أحد حي))؟ قال: نعم بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله؟)). قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).

وجاء رجل إلى النبي يستشيره في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألك والدان؟) قال: نعم؟ قال: (الزمهما فإن الجنة تحت أقدامهما)[رواه الطبراني].

ولعظم حقهما أمر بالإحسان إليهما ولو كانا كافرين، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا).

وفي الآية الأخرى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً).

ومن البر بهما البر بهما بعد موتهما: بالدعاء لهما، وصلة رحمهما، وبر أصدقائهما؛ ففي الحديث: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)).

وأتى رجلٌ النبيَّ فقال: يا رسول الله، ماذا بقي من برِّ أبويَّ؟ كيف أبرّ بهما بعد موتهما؟ هل بقِي من برِّ أبويَّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاةُ عليهما ـأي: الدعاءـ، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهما، وإكرامُ صديقهما، وصلةُ الرحِم التي لا توصَل إلا بهما)).

فبعدَ موتِ الأبوين تدعو لهما، وتستغفرُ لهما، وتنفِّذ عهدَهما، وتبرّ صديقَهما، وتصِل الرحمَ التي ترتبِط بالأبوين صلةً لله -جل وعلا-.

عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروّح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة وعمامة يشد بها رأسه فبينا هو يوما على ذلك الحمار إذ مر به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا والعمامة - قال - اشدد بها رأسك.

فقال له بعض أصحابه غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروّح عليه وعمامةً كنت تشد بها رأسك! فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى)).

وإن أباه كان صديقا لعمر.

أيها المؤمنون: إن البر راحة وطمأنينة وسبب لخير الدنيا والآخرة؛ فعن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء؛ فليتق الله، وليصل رحمه)).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أيها الإخوة في الله: إذا كان الله قد أمر بالبر إلى الوالدين ووعد عليه بأحسن المثوبة في الدارين فإنه قد نهى أعظم النهي وأبلغه عن عقوق الوالدين وتوعد أهل العقوق بالوعيد الشديد، قال -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء)).

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله، فقال: ((يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق)).

وعن عمرو بن مرة الجهني -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يعق والديه))[رواه أحمد].

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعشر كلمات، قال: ((لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك))[الحديث رواه أحمد].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((...ملعون من عق والديه))[الحديث رواه أحمد].

وعن العوام بن حوشب -رضي الله عنه- قال: نزلت مرة حيا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر فخرج رجل رأسه رأس الحمار وجسده جسد إنسان فنهق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر، فإذا عجوز تغزل شعرا أو صوفا، فقالت امرأة ترى تلك العجوز، قلت ما لها؟ قالت: تلك أم هذا قلت وما كان قصته، قالت: كان يشرب الخمر، فإذا راح تقول له أمه يا بني اتق الله إلى متى تشرب هذه الخمر، فيقول لها إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار، قالت: فمات بعد العصر، قالت، فهو ينشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات، ثم ينطبق عليه القبر"[رواه الأصبهاني].

إن من العار أن يُفجأ الوالدان بالتنكر للجميل، بعد أن كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف.

يا أخا اللؤم أتناسيت ضعفَك وطفولتَك، أأعجبك شبابُك وفتوتك، أم غرك تعليمك وثقافتك، أم أطغتك منزلتك ومرتبتك؟

إن ذلك كله لا يغني عنك من عذاب الله شيئاً فاستيقظ من غفلتك. وقم من رقدتك

أيها المخذول: أحينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قد عممت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان.

أما علمت أن من بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).

اللهم إنا نسألك البر ونعوذ بك من العقوق، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً برحمتك يا أرحم الراحمين.

ثم اعلموا -رحمكم الله- أن خير الحديث كتاب الله... الخ.


علي بن يحي الحدادي