من أين أبدأ؟

منذ 2015-02-26

على الداعية أن يربي المدعوَّ على الاهتمام بأمور المسلمين، فمن لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم، وأن الأمة الإسلامية جسدٌ واحد، يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، يدعو لهم ويسعى لنُصرتهم، يعتز بالانتماء لهذه الأمة، ويُوقن أنها منصورة.

أذَّن المؤذن لصلاةِ الفجر، فقُمت وتوضأت وذهبت إلى المسجد، وعند دخولي إلى المسجد كانت المفاجأة، إنه هو (صديقي، قريبي، جاري، زميلي) فلان، كان يجلس في الصف الأول خلفَ المؤذِّن يُردِّد الأذان باهتمام وخشوع، بعد فراغ المؤذن قام في هدوء، فصلَّى ركعتين في خشوع، أطال فيهما السجود، سمعنا له فيه تضرعًا ونشيجًا، بعد أن فرغ من الصلاة، ظَلَّ يدعو وهو مغمض العينين، وبرغم ذلك تنفجر منهما الدموع حتى أقيم للصلاة.

صلينا الفجرَ، وبعد الصلاة أخذ مصحفًا من على الرف برِفْق، وأمسكه بكلتا يديه وكأنه يخشى أن يسقط منه، ذهب إلى زاوية في آخر المسجد، وفي الطريق مَرَّ عليَّ، وعندما رآني ألقى إليَّ ابتسامة رقيقة دافئة، فتح المصحف، وجعل يُقلِّب بين دفتيه، وكأنه حائر من أين يبدأ، في الوقت نفسه انتابني الشعور نفسُه عندما فكرت أن أذهبَ إليه، فقلت لنفسي: من أين أبدأ؟

نحاول في هذا المقال أنْ نضع أُسُسًا عامة للاستفادة من هذه الحالة الفريدة، التي يَمر بها المهتدي في أول الطَّريق، ووَضْعَ مفاهيمَ دعويةٍ عامة للوصول إلى أنسب وأفضل طريقة تأخذ بيد هذا الشاب إلى طريق الله والمنهج القويم، وخلق التصوُّر السليم للالتزام الجاد، دون تخبُّط أو خلط في فقه الأولويات، مع استثمار حماسة البداية وتوهج الإيمان.

• ففي البداية يَجب الترحيبُ به، وإظهار الفرحة له بنعمة الله عليه، ثم تركه يتكلم عن سبب التزامه، ثم إظهار رحمة الله به وفضله عليه.
• بعد ذلك لا شك أنَّ الأمر يَختلف باختلاف شخص المدعوِّ؛ لذلك سنتكلم عن قواعدَ عامة، ويبقى الأمر بعد ذلك لفطنة الداعية وإخلاصه، مع أخذ شاهد من القرآن أو السنة على كل قاعدة.

1- على الداعية التأني في التعامُل معه، وسلوك طريق تصحيح المفاهيم، فلا شَكَّ أن هذا المدعوَّ كانت له تصورات قديمة عن الدين وأهله، ومفاهيم عن الدين توارثها، أو اكتسبها من المجتمع، وتكون في الغالب خاطئةً.
قال - تعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 178].

ولما أهم قريشًا شأنُ المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقالوا: مَن يكلم فيها "يعني رسولَ الله" - صلى الله عليه وسلم - قالوا: ومن يَجترئ إلاَّ أسامة بن زيد حِب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ فكلَّمه أسامة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟!»، ثم قام فاختطب، فقال: «إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحد، وايمُ الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها».

وعندما اعتقد الصَّحابة أنَّ الشمس كُسفت لموت إبراهيم، قام النبيُّ بتصحيح المفاهيم؛ حماية لجناب العقيدة، فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله - تعالى - لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله - تعالى - وإلى الصلاة» (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).

فيجب البُعد عن الصِّدام المباشر؛ بل يُربَط المدعوُّ بالقاعدة العامة، ألاَ وهي أن الدين يؤخذ من مصدره، وهو الكتاب والسنة، بذلك لن تصبحَ المعركة بين الداعية والعادات والتقاليد؛ بل بينها وبين الكتاب والسنة، فعمل الداعية إظهارُ حكمِ الله من الكتاب أو السنة، وعلى المدعوِّ أن يعقد هو الموازنة، ومَن الأَولى بالاتِّباع، والأمر محسوم.

2- على الداعية الالتزامُ بقاعدة التدرُّج مع المدعو؛ بل يرسخها عنده من غير إفراط أو تفريطٍ، فهذا ملاحظ في نزول القرآن مفرَّقًا، ونزول آيات الاعتقاد قبل آيات الأحكام.

فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار - تعني سورة المدثر - حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحرام والحلال، ولو نزل من أول الأمر (لا تزنوا)، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، ولو نزل (لا تشربوا الخمر)، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا.. الحديث» (صحيح البخاري).

في البداية يكون لدى المدعوِّ طاقةٌ هائلة للعبادة والطاعة، فيجبُ أن يرشد له الأمر، ولا يترك على سجيته؛ حتَّى لا يتخلف مع أول فتور يَمر به، على سبيل المثال: كان أحدُ الشباب في أول الالتزام يقوم الليل كله، ولكن مع أول فتور تَرَكَ قيامَ الليل بالكلية، فالتدرُّج هو صِمَامُ الأمان، فقد كان أحب الأعمال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدومها وإن قلَّ، وعلى الجانب الآخر يَجب استغلال هذه الطاقة، والأمر متروكٌ لفطنة الداعية، كذلك عند مرحلة التعلُّم والطلب يَجب أن يستصحب هذه القاعدة، فيبدأ بصِغار العلم قبل كِباره، وبفرْض العين قبل الكفاية.

3- على الداعية ربط المدعوِّ بصحبةٍ صالحة، وهذا الأمر من أهم الأمور، خصوصًا في بداية الالتزام، فالصاحبُ ساحب، صحبة يستأنس بها في طريقه الجديد، تشعرُه أنه ليس وحدَه على هذا الطريق، يتعلَّم منها دينه، يأخذون بيده إلى الطاعة ويعاونونه عليها، يشغلونه عن الصحبة السابقة التي لن تفرِّط فيه بسهولة، تتفقد حاله عند الفتور والانشغال بالدُّنيا، تكون قدوة له عند الفتن والابتلاءات؛ قال - تعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 29].

4- على الداعية تعريف المدعوِّ بالمنهج القويم للوصول إلى رضا الله وجنته، وأنَّ العلمَ هو أول الطريق؛ قال - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 20].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (صححه الألباني).

فيحدِّثه عن فضل العلم وأهله، ويُربي فيه احترامَ أهله وتبجيلهم، وأنَّهم أشراف الأمة، وألاَّ يخوض في أعراضهم؛ بل يدْعو لهم ويترحَّم عليهم، ومع ذلك فإنَّ العصمة لرسول الله، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك.

5- على الداعية تعليم المدعو فقه الأولويات عند التزاحم: قال - تعالى -: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 20].

وفرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأعمال، وجعل بينها تفاضلاً؛ فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخير لكم مِن أن تَلقَوا عَدُوَّكُم فَتَضرِبُوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى، قال: «ذِكرُ الله تعالى» (قال الحاكم أبو عبدالله في كتابه "المستدرك على الصحيحين": هذا حديث صحيح الإسناد).

فالواجب مقدَّم على السُّنة، والقرآن مقدَّم على طلب العلم الكفائي، وبِرُّ الوالدين مقدم على درس العلم، وصلة الرحم مقدمة على مجالسة الإخوان، ولكل وقت واجب، فالأذكار مقدمة على غيرها في وقتها، وقيام الليل مقدم على غيره في وقته... إلخ.

6- على الداعية أن يربي المدعوَّ على الاهتمام بأمور المسلمين، فمن لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم، وأن الأمة الإسلامية جسدٌ واحد، يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، يدعو لهم ويسعى لنُصرتهم، يعتز بالانتماء لهذه الأمة، ويُوقن أنها منصورة.

قال - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 11].
 وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى» (متفق عليه).
وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا - وشبَّك بين أصابعه» (متفق عليه).
هذا، والحمد لله رب العالمين.

إيهاب إبراهيم

باحث شرعي وكاتب صحفي

  • 1
  • 0
  • 4,967

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً