زاوية نظر

منذ 2015-03-12

قد تكون قدرة العين على التمييز منقوصة من حيث الكفاءة أو الخبرة وبالتالي يفسد حكمها على الأشياء وتصوراتها للوقائع، فتراه يحكم على (الفالصو) بأنه ذهب لمجرد قشرة ذهبية تم طلاؤه بها، لتكون حائلاً بين المادة الرخيصة القابعة تحت القشرة، وبين العين التي تفتقر إلى الحدة الكافية أو العلم والخبرة اللازمين للحكم الصحيح على ذلك المعدن، وملاحظة الفارق بين المزيف والحقيقي.

هل شاهدت من قبل دجاجة ترقص؟!
الدجاج يرقص في حالة واحدة عندما يُذبح..!

لكنَّ أولئك الذين لا يعلمون تلك الحقيقة وليست لهم خبرة بذبح الدجاج، أو يقفون بعيدًا فلا يلحظون تلك الدماء المتناثرة من عنقها الممزق فإنهم سيظنون أن الدجاجة المذبوحة ترقص! ولربما يضحكون من ذلك المشهد ويظنونه شيئًا طريفًا يستجلب البسمة إلى شفاههم، متعجبين من تلك الدجاجة الراقصة..

الفارق هنا بين الانطباع الحادث والانطباع الذي كان يفترض أن يحدث، ويحل محله هو تلك الصورة الماثلة أمامهم، الصورة التي تتحكم فيها إلى حد كبير زاوية النظر واتجاهه والمؤثرات المحيطة به..

"ما نسبة كف الإنسان إلى عرض السماوات واﻷرض؟ الجواب: لا شيء يُذكر.. ولكن إذا أدنيت كفك من عينيك حجب عنك السماوات واﻷرض؛ كذلك تشغلنا التوافه عن الحقيقة الكبرى"، بهذا المثال البديهي حاول الأديب الراحل (علي الطنطاوي رحمه الله) أن يقرب تلك الفكرة من الأذهان، مجرد (كف يد) لا تتخطى مساحتها بضعة سنتيمترات مربعة قادرة على حجب نور الشمس، وتلألؤ النجوم وزرقة السماء، وصفاء القمر ليلة البدر، فقط إن وضعت في طريق الرؤية وقطعت زاوية النظر أو ضيقتها وقللت من وضوحها..

تلك الزاوية التي من خلالها ينظر كل منا إلى الأشياء التي تحيط به، ويتشكل حكمه عليها ويخرج وصفه لها، فيرى هذا حقًا وذاك باطلاً، ويحكم على هذا بأنه شريف وذاك بأنه وضيع، ويرى هؤلاء ثوارًا مقاومين، بينما يراهم آخرون متمردين مخربين، ويصف هذا بالشذوذ الفكري والانحراف العقلي، بينما يراه آخرون من زاوية مختلفة مجددًا عبقريًا، وهكذا تختلف الأحكام على نفس الأشياء بحسب زاوية النظر إليها، والمؤثرات التي تحيط بتلك الزاوية.

من استطاع أن يسيطر على تلك الزاوية أو يؤثر عليها تأثيرًا يكفي لتغيير درجات وضوحها واتجاه رؤيتها فإنه ببساطة سيتحكم في تصورات الناس، ومفاهيمهم وحكمهم على الأشياء وتفاعلهم معها، ومن ثم لا يريهم إلا ما يرى وبالكيفية التي يرى.

من هنا جاءت العبارة القرآنية تصف بدقة إستراتيجية فرعون في التعامل مع الناس حين قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر من الآية:29].

لقد تمكن فرعون من السيطرة على رؤية الناس من خلال امتلاكه لأدوات السيطرة على أبصارهم، عبر ألاعيب السحرة الذين {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف من الآية:116]. تأمل مرة أخرى محل السحر (العين)، أو معبر للنفس والروح والعقل والقلب.

على صعيد آخر قد تكون قدرة العين على التمييز منقوصة من حيث الكفاءة أو الخبرة وبالتالي يفسد حكمها على الأشياء وتصوراتها للوقائع، فتراه يحكم على (الفالصو) بأنه ذهب لمجرد قشرة ذهبية تم طلاؤه بها، لتكون حائلاً بين المادة الرخيصة القابعة تحت القشرة، وبين العين التي تفتقر إلى الحدة الكافية أو العلم والخبرة اللازمين للحكم الصحيح على ذلك المعدن، وملاحظة الفارق بين المزيف والحقيقي.

المشكلة في من لديه هذا القصور في الرؤية أو النقص في معايير التمييز، أو الخلل في زاوية الإبصار، ورغم ذلك يصر على المنافحة بكل قوة ليثبت أن الحكم الذي وصل إليه من خلال زاوية إبصاره المعلولة هو فقط الصواب والحق الكامل الواضح، الذي لا لبس فيه، وبالتالي لا حاجة لمزيد من الإيضاح والبيان، من هنا تتضح قيمة وصف القرآن المتكرر بأنه الحل الجامع لذلك النقص، في الرؤية والخلل في الإدراك..

{هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف من الآية:203].
{قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام من الآية:104].
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل من الآية:89].

{قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة من الآية:15].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء:174].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].

إنه النور المبين الذي يظهر حقائق الأمور حين يسطع على سطحها.
وهو التبيان الذي يوضح الفوارق بين الأشياء ويبين تفاصيلها.
وهو البصائر التي بها يميز الإنسان بين الصواب والخطأ والحق والباطل والضار والنافع.

وهو الهدى الذي يدرك به المرء طريقه ويعرف وجهته ويصح حكمه، وتتكشف له حقائق الحياة التي كانت غائبة عنه حين كان يصر على النظر إليها من خلال تلك الزاوية الضيقة، ويظن أنها غاية الأمر ومنتهاه بينما هي في الحقيقة مجرد زاوية..
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 8,898

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً