الانتظار واغتنام الأوقات

منذ 2015-03-18

"الكسلُ عن الفضائل بئس الرَّفيق، وحبُّ الرَّاحة يورِث من الندم ما يربو على كل لذَّة، فانْتَبِهْ، واتعَبْ لنفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سَعة، واسقِ غُصنَك ما دامت فيه رطوبة، واذكُرْ ساعتك التي ضاعت، فكفى بها عِظةً، ذهبت لذَّة الكسلِ فيها، وفاتت مراتبُ الفضائل".

الاستفادة من وقت الانتظار:
كنتُ كثيرًا ما أسمع من أحد أساتذتي هذه العبارة: الانتظار أشدُّ من النار!

كنت شابًّا في مقتبل العمر، قليل المسؤوليات، ولا أبالي كثيرًا بضياع جزءٍ من وقتي في غيرِ فائدة تُذكَر، لكنني لما كبِرْت، وكبرت مسؤوليات وتعدَّدت، وتغيَّر إيقاعُ الحياة من حولي، بعد ثلاثين سنة من تلك المدة التي أتكلَّم عنها، أدركتُ شعور أستاذي حيال الانتظار، وفهمت عبارته: الانتظارُ أشد من النار.

ولكن يبدو أن الانتظار صار جزءًا من الحياةِ العصرية: في "السوبر ماركت" عند دفع ثمن مشترياتنا، في عيادة الطبيب، في الدوائر الحكومية، في زحمة السير... إلخ، فيكف نتعاملُ معه بحيث لا يضيعُ وقتُنا، ولا تتأثَّر صحتُنا العصبية والنفسية؟

كقاعدة عامة: حاوِلْ -ما استطعت- أن تتجنبَ الانتظار، أو الشراء في الأوقات المزدحمة، أو الأيام المزدحمة؛ كنهاية الأسبوع مثلاً، حاول أن تخرجَ من بيتك مبكرًا ربع ساعة، وأن تتأخر في مكتبِك عن وقت نهاية الدوام ربع ساعة، فتنجو من زحام السير، وهذا ما أفعلُه وأشعر بفائدته.

ولكن، قد لا ينفع هذا في بعضِ الأماكن، فلا بد إذًا من التخطيط الجيِّد للاستفادة من مسجِّل السيارة للاستماع، وفي خطَّة مسبقة لتحقيق هدفٍ معيَّن لأشرطة منتقاة بعناية: كمن يريد حِفظ بعض الآيات أو السور من القرآن، أو مراجعة ما حفِظه منه، أو تعلَّم لغة أجنبية، أو الاستماع إلى محاضرةٍ ثقافية في موضوعات تُهمُّه.

أما في عيادة الطبيب، وما شابَهها، فاحرِصْ أن تأخذَ معك كتابًا خفيف المادة، لا يحتاجُ إلى تركيز في قراءته، لتطالعَه هناك؛ لأن أغلب المجلات التي توضع للزبائن تكون قديمةً قليلة الفائدة.

كما يمكن الاستفادة من وقت الانتظار بالتسبيح والاستغفار، وغيرهما من الأذكار، أو بمراجعة أبياتٍ من الشعر، أو أحاديث نبوية، أو تعلُّم مفردات جديدة باللغة العربية، أو بلغة أجنبية، تكون قد كتبتها مسبقًا على بطاقات، وقد حفظتُ كثيرًا من أبيات الشِّعر بهذه الطريقة، وتعلَّمتُ كلمات جديدة كثيرة باللغة الإنجليزية عندما كنت طالبًا.

إنَّ بين الأوقات ثغرات وفجوات، ومن الحكمةِ البالغة الاستفادة منها؛ فاقتناص خمس دقائق من هنا، وعشرٍ من هناك، ونصف ساعة من هنا، وساعة من هناك، قد يوفِّر المرءُ فيها ما معدَّله ساعتان في اليوم، أي: [730] ساعة في العام! فإذا انتبه إلى هذا الأمرِ وهو في سن العشرين، وطبَّقه حتى بلَغ السبعين، فيكون قد ربح [005.63] ساعة؛ أي: [1520] يومًا؛ أي: إنه أضاف إلى عمره أكثر من أربع سنوات، وهذا أحدُ معاني البركة في الوقت فيما أرى!

أمور تساعد على اغتنام الوقت:
قال الإمام العلاَّمة أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله وغفر له- في رسالتِه اللطيفة المسماة: لفتة الكبد في نصيحة الولد:

"الكسلُ عن الفضائل بئس الرَّفيق، وحبُّ الرَّاحة يورِث من الندم ما يربو على كل لذَّة، فانْتَبِهْ، واتعَبْ لنفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سَعة، واسقِ غُصنَك ما دامت فيه رطوبة، واذكُرْ ساعتك التي ضاعت، فكفى بها عِظةً، ذهبت لذَّة الكسلِ فيها، وفاتت مراتبُ الفضائل".

"وإنما تقصر الهِمَم في بعض الأوقات، فإذا حُثَّت سارت، وما تقف همةٌ إلا لخساستِها، وإلا فمتى علَتِ الهمة فلا تقنَعُ بالدون:

إذا ما علا المرءُ رام العُلا *** ويقنَعُ بالدُّونِ مَن كان دونَا 

وإن مِن أهم ما يساعد على اغتنام الوقت: الانحياش عن المجالسِ الفارغة الخاوية، وتَرْك الفضول في كل شيء، ومصاحبة المُجدِّين، النُّبَهاء، الأذكياء، المتيقظين للوقت والدقائق، وقراءة أخبار العلماء الأفذاذ، أصحاب التراجم الحافزة، والتذاذ المرء بحلاوة كَسْبِ الوقت في الإنتاج، والانغمار في متعة المطالعة والاستزادة في المعرفة والاطلاع، وتنقيح المعلومات؛ فإن ذلك يعرِّفُك بقيمةِ الزَّمن، ويُلهب فيك الحِفاظ عليه، ويجعَلُك تكسِبُه لا تُبيده، وتحافِظُ عليه ولا تُضيِّعه".

ومن المؤسِف أنه قد انتشَر في صفوف طلبة العلم اليوم الكسلُ العقلي، وغلَب عليهم إيثار الراحة والدَّعَة على الجِدِّ والدأب، وصارت الرفاهية مقصدًا من مقاصد الحياة عندهم، وغدَتِ المتع مطلبًا من مطالبهم، فلم يبقَ لديهم وقت للدرس والتحصيل، وصارت حالُهم تُشبه حال مَن عناهم الشاعرُ بقوله:

إذا كان يُؤذِيك حَرُّ المصيفِ *** ويُبسُ الخَريفِ، وبَرْدُ الشِّتا 
ويُلهيكَ حُسْنُ زمانِ الرَّبيع *** فأَخْذُك للعِلْمِ، قل لي متى؟! 

الترويح عن النفس:
ومما يدخل في تنظيم الوقت، ويُعين على حُسن الاستفادة منه، أن يكونَ للإنسان هواية يمارسُها، يروِّحُ بها عن نفسه؛ ليعود إلى الجدِّ بنشاط أوفرَ، وهمة أكبر؛ فقد أصبَح من البدهيِّ لدى علماء التربية أنَّ أوقات الترفيهِ عن النفس مهمةٌ كأوقات الجدِّ؛ لأنها تعينُ عليه.

ومِن أنفع الهوايات: الرياضة البدنية المناسبة؛ لِما لها من فوائدَ جمة، وآثارٍ بالغةٍ على الصحة النفسية والجسمية.

ومن الآثار التي ورَدَتْ في الترويح عن النفس:
-  قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجمُّ لقلبي بالشيء مِن اللهو؛ ليكون أقوى لي على الحقِّ" (بهجة المجالس، ابن عبدالبر: [1/115]).

- وقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لا تُكرِهْ قلبك؛ إن القلبَ إذا أُكرِه عَمِيَ".

وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه، ويمازحُهم؛ ليروِّحَ عن نفوسهم؛ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالوا: "يا رسول الله، إنك تداعبُنا"، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لا أقولُ إلا حقًّا»(رواه الترمذي. وانظر: سوانح وتأملات في قيمة الزمن، خلدون الأحدب: [72-74]).

فبيَّن بفِعله أهميةَ الترويح عن النفس، وتسليتها، وبيَّن بقوله أن وسيلةَ ذلك الترويحِ ينبغي أن تكونَ مشروعة.

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 3
  • 0
  • 8,686

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً