اللياقات الست - (1) اللياقة الروحية

منذ 2015-03-23

اللياقة الروحية أن يصلَ الإنسان إلى مرحلة يشعُرُ فيها أنه يحب اللهَ تعالى، وأن الله تعالى يحبه.


تعريفها:
المراد باللياقة الرُّوحية هنا: أن يصلَ الإنسان إلى مرحلة يشعُرُ فيها أنه يحب اللهَ تعالى، وأن الله تعالى يحبه، وهذا الأمرُ قد دلَّ عليه بإجمال قولُه سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]؛ فالعبد يمكنُ أن يحب اللهَ تعالى، والله تعالى يحبُّه إذا اتبع الرسولَ صلى الله عليه وسلم وأطاعه.

تحصيلها:
ليس لتحصيل اللياقة الرُّوحية دواءٌ يستعمله المريض مرتين: صباحًا ومساءً ليتم له الشِّفاء، ولا تمرينات رياضية يقوم بها الإنسانُ نصف ساعة في اليوم.. إنها عمليةٌ مستمرة لا تنتهي إلا بانتهاء الإنسانِ!

إن عمليةَ (التَّزكية) التي أشار إليها القرآنُ الكريم بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]، عملية (التَّزكية) هذه هي التي تسِير بصاحبها إلى تحصيلِ اللياقة الرُّوحية، وسوف نتحدَّث عنها بشيء من التفصيل عند الكلام على اللياقة النفسية.

طرقها:
هناك طُرق متعدِّدة للوصول إلى اللياقةِ الروحية، نذكر أهمها باختصار:
[1]- الإخلاص:
الإخلاص هو الأساسُ الذي يُبنى عليه كلُّ عمل، فإذا انعدَم انهار العملُ من أصله؛ قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].

وفيما يلي أحاديثُ تبيِّنُ أهمية الإخلاصِ الذي موضعه النِّية، والنية محلُّها القلوب، ولا يطَّلع عليها إلا علامُ الغيوب، وليس الغرض من إيرادِ هذه الأحاديث قراءتَها؛ إذ القراءة وحدها لا تُجدي كثيرًا، بل المراد: تأمُّلها، وتدبُّرها، وتكرار قراءتها حتى تنغرس في العقلِ الباطن، ثم تظهَر آثارها في تفكيرِ الإنسان وسلوكه.

• عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمالُ بالنِّيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسولِه، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه» (البخاري ومسلم).

• عن جابر بن عبدالله الأنصاريِّ رضي الله عنهما قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ فقال: «إن بالمدينة لَرِجالاً ما سِرْتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا شَرِكوكم في الأجر، حبَسهم المرضُ» (رواه مسلم).

• عن أبي العباس عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب رضي الله عنهما، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى قال: «إن اللهَ كتَب الحسناتِ والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها، كتَبها الله تبارك وتعالى عنده حسنةً كاملة، وإن همَّ بها فعمِلها كتَبها الله عشرَ حسناتٍ، إلى سبعِمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعمَلْها كتَبها الله عنده حسنةً كاملة، وإن همَّ بها فعمِلها، كتبها الله سيئةً واحدة» (البخاري ومسلم)، وفي الحديث دليلٌ ناصع على أهميةِ النية المرتبطة بالإخلاص أوثقَ ارتباط.

[2]- الانتهاء عن المعاصي:
المعاصي: نوعان؛ معاصي الحواس: كالكذب، والسرقة، وشُرب الخمر، وأكلِ الربا، ومعاصي القلوب: كالحقد، والحسَد، والكِبْر، وسوء الظن بالمسلمين، وكلاهما خطَرٌ على صاحبه، قد يورِدُه المهالك، وقد تكونُ معاصي القلب أخطَرَ من معاصي الجوارح.

"ولا شك أن ضررَ المعاصي في القلوب كضررِ السُّموم في الأبدان، على اختلاف درجاتِها في الضرر".

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقَّراتِ الذنوب؛ فإنما مَثَل محقَّرات الذنوب كقومٍ نزَلوا بطنَ وادٍ، فجاء ذا بعُودٍ، وجاء ذا بعُودٍ، حتى أنضَجوا خُبزتَهم، وإن محقَّراتِ الذُّنوب متى يُؤخَذْ بها صاحبُها تُهلِكْه» (أحمد).

وقال: «إن العبدَ إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نكتة، فإذا هو نزَع واستغفر وتاب، صُقِل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلوَ قلبه، وهو الرانُ الذي ذكَره الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]» [1].

"وللمعاصي من الآثارِ القبيحة المذمومة المضرّة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلَمُه إلا الله، منها: وحشةٌ يجدها العاصي في قلبِه بينه وبين الله تعالى، ووحشةٌ بينه وبين الناس، وظُلْمة يجدها في قلبِه، يحسُّ بها كما يحسُّ بظُلمة الليل" [2].

قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنةِ ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعة في الرزق، وقوَّة في البدن، ومحبَّةً في قلوب الخَلْق، وإن للسيئة سوادًا في الوجهِ، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدنِ، ونقصًا في الرِّزق، وبغضةً في قلوب الخَلْق" [3].

[3]- التطوع في العباداتِ بعد أداء الفرائض:
جاء في الحديثِ القدسي قولُه سبحانه وتعالى: «... وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه...» [4].

فأحبُّ ما يُتقرَّب به إلى الله عز وجل: أداءُ فرائضه على اختلافِ أنواعها؛ البدنيَّة: كالصلاة والصيام، والمالية: كالزكاةِ، وما يجمَعُ بينهما: كالحجِّ والجهاد، والقلبيَّة: كذِكْر الله تعالى، واللِّسانية القلبية: كتلاوةِ القُرآن.

ويدخُل في الفروض ما كان تركًا؛ كالامتناع عن السَّرقة، والزِّنا، والخمر، والغِيبة، والحسَد..., وما إلى ذلك.

والمهم جدًّا في الأعمال كلها على وجه العموم -ومنها العبادة- رُوحُها وحقيقتُها قبل ظواهرِها؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظُرُ إلى أجسادكم، ولا إلى صورِكم، ولكن ينظُرُ إلى قلوبِكم وأعمالكم» (البخاري ومسلم)، ويا ليتَنا جميعًا نحرصُ على أن تكون عباداتُنا مقبولةً كحرصِنا على أدائها!

ونأخذ مثالًا واحدًا على ما يسمَّى (الآداب الباطنة) في فريضةِ الزكاة:
قال في مختصر منهاج القاصدين [5] اعلم أن على مريدِ الآخرة في زكاته وظائفَ:
الأولى: أن يفهَمَ أن من مقاصدِ الزكاة: إخراجَ المال المحبوب عند العبد، ومداواة داء البُخل، وشُكْر نعمة المال؛ إذ إن شكرَ النعمة يكون من جِنسها.

الوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجها؛ لكونِه أبعدَ عن الرياء، وأصونَ للفقير من الإذلال.

الوظيفة الثالثة: ألا يفسدَها بالمنِّ والأذى؛ فإن المعطيَ لو حقَّق النظر لرأى الفقير محسنًا إليه بقَبولها، الذي هو سببٌ لحصوله على الأجرِ العظيم مِن الله تعالى.

الوظيفة الرابعة: أن يستصغرَ العطيَّة؛ إذ ما أصغَرَ ما يعطي بالنسبةِ إلى ما أعطاه اللهُ سبحانه، ومنَّ عليه به.

الوظيفة الخامسة: أن ينتقيَ من ماله:
أ- أحَلَّهُ.
ب- وأجودَه.
ج- وأحبَّه إليه.

فهو في الحقيقة يقدِّمُ لنفسِه؛ لأن ما يقدِّمه سيلقاه غدًا يومَ القيامة.

الوظيفة السادسة: أن يعطيَ زكاتَه لمن تزكو بهم، فيخصَّ بها أهلَ التقوى، والعِلم، والصلاح، والذين يُخفون فقرَهم وحاجتهم عن الناس، والمرضى، والمُعسِرين، والأرحام.

ومن الأمثلة على أعمال الخير والتطوع في العبادات ما جاء في الحديث:
• عن عبدالله بن سلاَم رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناسُ، أفشوا السلامَ، وأطعِموا الطعام، وصلُّوا بالليلِ والناس نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلام» (رواه الترمذيُّ).

• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أيقَظ الرجلُ أهلَه من الليل، فصلَّيا ركعتينِ جميعًا، كُتِبا في الذاكرينَ والذاكرات» (أبو داود).

[4]- تلاوة القرآنِ مع التدبر:
المقصد الأولُ من تلاوة القرآن الكريم هو الفهم والتدبُّر اللازمان للعملِ به؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].

ومن علامات التدبر:
• التأثير والانفعال بالآيات الكريمات حسَب موضوعِها وسياقها، فيفرَحُ القارئُ عندما يتلو آيات التبشير والرَّجاء، ويحزَنُ ويبكي عند آياتِ الترهيب والوعيد، وهكذا تتغيَّرُ حاله ومشاعره، ويعرض نفسَه على الآيات التي تذكُرُ صفاتِ المؤمنين ليستكملَ ما ينقصه منها، وعلى الآيات التي تذكر صفاتِ المنافقين والكافرين ليبتعدَ عنها.

• وإذا قرأ آيةَ نعيم دعا الله أن يكونَ من أهله، وإذا تلا آيةَ عذاب تعوَّذ بالله منه، وعند وَصْف الجنة يطير قلبُه شوقًا إليها، وعند ذِكْر النار ترتعد فرائصُه خوفًا منها.

• ومن علاماتِ التدبُّر الشُّعور بأن القارئَ نفسه هو المخاطبُ بالآيات، وهو الذي وجِّهت إليه التكاليف، فيعيش هذا الشعور، ومما يُعِين على التدبُّرِ أن يتلوَ المرءُ السورة، أو الصفحة، أو الآيات بتأَنٍّ، وخشوع، وانفعال، وألا يكون همُّه نهايةَ السورة أو خاتمة الجزء، ولا كم صفحة قرأ، وكم حَسنة جمَع.

• ومما يعين على التدبُّر: استحضار الأجر والثواب العظيم على هذا الجهد الضئيلِ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرَأ حرفًا مِن كتاب الله، فله به حَسَنة، والحَسَنة بعَشْر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (الترمذي).

• وقوله: «خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه» (البخاري).

• وقوله: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يومَ القيامة شفيعًا لأصحابه» (مسلم).

• ومما يُعِين على التدبُّر: تفريغ النَّفس من شواغلها، وتلبية طلباتها قبل الإقبالِ على القراءة؛ لأن الحاجاتِ تلحُّ على النفس، والخواطر ترِدُ على الذهن، ولا بد من صرفِها، فلا يكون قارئ القرآن في أثناء قراءته جائعًا، أو عطِشًا، أو في برد شديد، أو حرٍّ شديد، أو في مكانٍ ينظُرُ فيه للغادين والرَّائحين، أو مشغول الأحاسيس بأمرٍ متوقَّع.

• ويمكن للقارئِ -مثلًا- أن يخصصَ ربع ساعة للنظر والتأمُّل في آيةٍ واحدة، أو مجموعة من الآيات (الأفضل ألا تزيد على صفحة واحدة)، يكرِّر تلاوتها، ويحاول تركيزَ ذِهنه في معانيها، فتكون قراءتها عبادة، وتدبُّره عبادة، وينالُه من بركة القرآن بقدرِ إخلاصه ومجاهدته لنفسه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

•ومن الطُّرق المجرَّبة التي تعين على التأمل، أن تكتبَ آية، أو شطر آية، بخطٍّ كبير، وتوضع في مكانٍ لائق بحيث تقعُ عليها العين، وكلما رآها من وضعها كرَّرها مرات عدة مع التركيز على معانيها، ويختار من الآيات ما يناسِبُ حاله؛ فإذا كان في حيرةٍ من أمره لا يدري ماذا يفعل كتب -مثلًا- قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

• وإن كان في عُسرٍ وشِدة مادية ومعنوية كتَب قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].

• وإن كان مريضًا يرجو الشفاءَ كتب: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].

• وإن كان في قلقٍ واضطراب كتب: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

[5]- الذِّكر:
المراد من الذِّكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر، فيحرص عليه، ويتدبَّر ما يذكُر، ويتفكر في معناه؛ فالتدبُّر في الذِّكر مطلوب كما هو مطلوب في تلاوة القرآن؛ لأن المقصودَ لا يتحقق من غير تدبُّر.

وأفضلُ الذِّكر ما اشترَك فيه القلبُ واللسان، وكان من الأذكار النبوية، ووعى الذَّاكر معانيَه ومقاصدَه.

والدعاء ذِكر، وقد يكون الذِّكر دعاءً، وقد لا يكون؛ قال الإمام النوويُّ رحمه الله في كتاب الأذكارِ -ولعله أفضلُ ما أُلِّف في موضوعه-: أجمَع العلماءُ على استحباب الذِّكر بعد الصلاة، وفي الصحيحين: "إن رَفْع الصوت بالذِّكر حين ينصرف الناسُ من المكتوبة كان على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ومن الأذكار المتَّفق على صحتها قولُ الذاكر:
• "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، و"لا إله إلا اللهُ وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، و"لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله".

وفيما يلي بعضُ الأحاديث النبوية الشريفةِ التي ورَدت في الذِّكر:
• قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقعُدُ قوم يذكرون اللهَ عز وجل إلا حفَّتْهم الملائكةُ، وغشِيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينةُ، وذكَرهم اللهُ فيمن عنده» (مسلم والترمذي).

• قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرني؛ فإن ذكَرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم...» (البخاري ومسلم).

ومن أهمِّ فوائد الذِّكر: شعورُ الذاكر بالسَّكينة والطُّمأنينة، والهدوء النفسي، وهو من الأمور التي يشكو أكثرُ الناس من فقدانِها الذي ينجُم عنه القلقُ والأرَق والتوتُّر والاكتئاب؛ قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] [6].

[6]- التوبة:
• قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون»؛ أي: إن الناس جميعًا كثيرو الخطأ والذنوب، وهذه الأخطاءُ والذنوب ينبغي أن تقابلَها كثرةُ التوبة، والأَوْبة، والرجوع، والاستغفار، ومما ورد في التوبة أيضًا ما رُويَ:

• عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلته بأرضٍ فلاةٍ، فانفلتت منه وعليها طعامُه وشرابه فأيِس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها، وقد أيِس من راحلته، فينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخَذ بخطامها، ثم قال مِن شدة الفرح: اللهم أنتَ عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرَح» (البخاري ومسلم).

• وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ عز وجل يبسُط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها» (رواه مسلم).

• وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ يقبَلُ توبة العبدِ ما لم يُغرغِرْ» أي: ما لم تبلغ رُوحُه حلقومَه؛ (رواه الترمذي وابن ماجه).

• وعن عبدِالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «التائبُ من الذَّنب كمَن لا ذنبَ له» (ابن ماجه)، «والمستغفر من الذَّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئِ بربِّه» (البيهقي).

• وعن أنس بن مالك، وابن مسعود رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الندمُ توبةٌ» (رواه الحاكم وابنُ حبَّان).

[7]- البكاء من خشية الله:
الضَّحِك والبكاء من أسرارِ النَّفس الإنسانية التي أودَعها الله تعالى فيها، ذكَرهما سبحانه في كتابه الكريم وهو يعدِّد بعضَ آياته الدالةِ على كمال قدرته عز وجل فقال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]، وللبكاء والضحك من الفوائد النفسية والجسمية ما لا يزال العلمُ الحديث يكشِف عن جديده كل يوم.

والبكاء من خشية الله تعالى من صفات الأنبياءِ الكرام عليم السلام، ومن اقتدى بهم من المهديِّين الأبرار، الذين وصَفهم ربنا بقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109].

وجاءت السنَّة المشرفة فبيَّنت (قولًا وعملًا) هذه المعانيَ القرآنية، من ذلك:
• ما رواه ابنُ عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينانِ لا تمسهما النارُ: عين بكَتْ من خشية الله، وعين باتت تحرُسُ في سبيل الله» (الترمذي).

• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سبعةٌ يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله»، وذكَر منهم: «ورجل ذكَر الله خاليًا ففاضت عيناه» (البخاري ومسلم وغيرهما).

• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلِجُ النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبنُ في الضرع» (رواه أحمد، والترمذي، والنسائي).

فلا غروَ أن يكون البكاء خوفًا من عقابِ الله، وشوقًا إلى لقائه من أهم الوسائلِ لتحقيق اللياقة الرُّوحية.

[8]- الزهد في الدنيا:
• يقال: زهد في الشيء: أعرَض عنه وتركه، وزهد في الدنيا: ترَك حلالها مخافةَ حسابه، وترك حرامَها مخافة عقابه.

• عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حُلْوة خَضِرة، وإن الله تعالى مستخلِفُكم فيها، فينظر كيف تعمَلون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ» (رواه مسلم).

• وعن أنَسٍ رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الميتَ ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنانِ، ويبقى واحد؛ يرجع أهلُه وماله، ويبقى عمله» (متفق عليه).

• وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنكبي فقال: «كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر سبيل» (البخاري).

• وعن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلَح من أسلم، ورُزِق كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه» (مسلم)، والكَفاف: الذي ليس فيه زيادةٌ عن الكفاية.

• وفي حديث أبي الدرداءِ رضي الله عنه: «.... يا أيها الناسُ، هلمُّوا إلى ربكم؛ فإن ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى» (أحمد والحاكم وابن حبَّان).

• وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرتَه أضرَّ بدنياه؛ فآثِروا ما يبقى على ما يفنى» (أحمد والحاكم وغيرهما).

[9]- الجوع وخشونة العيش:
• عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «ما شبِع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن خبز شعيرٍ يومين متتابعينِ حتى قُبِض» (متفق عليه).

• وعن أنس رضي الله عنه قال: «لم يأكلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خوانٍ حتى مات، وما أكَل خبزًا مرقَّقًا حتى مات» (رواه البخاري).

• عن النعمانِ بن بشير رضي الله عنهما قال: "لقد رأيتُ نبيَّكم صلى الله عليه وسلم وما يجِد من الدَّقَل ما يملأ به بطنَه"؛ (رواه مسلم).

[10]- ذكر الموت وقِصر الأمل:
• قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

• عن أبَيِّ بن كعب رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهَب ثُلُث الليل، قام فقال: «يا أيها الناسُ، اذكروا الله، جاءت الرَّاجفة، تَتْبَعها الرادفة، جاء الموتُ بما فيه، جاء الموت بما فيه» (رواه الترمذي).

• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أكثِروا ذِكْرَ هاذمِ اللَّذَّات»، يعني: الموتَ؛ (رواه الترمذيُّ)، وهاذم: قاطع.

[11]- بين الخوف والرجاء:
إذا كان الإنسانُ ينتظر شيئًا محبوبًا سُمِّي انتظاره رجاءً، وإن كان الشيء مكروهًا سُمِّي خوفًا، والخوف ليس عكس الرجاء، بل عكس الرجاءِ اليأسُ، أما الخوف فهو رفيقُ الرجاء؛ ولذلك قيل: الرجاءُ والخوف جَناحانِ، بهما يطير العبد إلى كل مقامٍ محمود.

وقد ورَدَت في كلٍّ من الرجاء والخوف آياتٌ وأحاديثُ:
فمن الآياتِ الواردة في الرجاء قولُه تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

ومن الأحاديث قولُه صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدِه، لو لم تُذنِبوا لذهَب اللهُ بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» (رواه مسلم).

أما في الخوف، فكلُّ ما ورَد في القرآن الكريم والحديث الشريف مِن وصفِ جهنَّم وأهوال يوم القيامة، فهو شاهدٌ يستحقُّ التأمُّل والتدبُّر.

والإنسانُ يخاف اللهَ تعالى على قَدْرِ علمِه به؛ قال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرَفُكم بالله وأشدُّكم له خشيةً» (الإمام أحمد).

والخوف ثلاثةُ أنواع: زائد، ومعتدل، وناقص؛ فالزائد يسبِّبُ اليأس، والقُنوط، والمرض، والناقص لا يمنَعُ صاحبَه من المعاصي، والمعتدل هو الذي يدعو صاحبَه إلى العمل الصالح الذي ينفَعُه وينفع الناس في الدنيا والآخرة، ويكفُّه عن الأذى والمحرَّمات والمعاصي.

فإن قيل: أيهما أفضل: الخوف أم الرجاء؟
قلنا: هذا كقوله: أيهما أفضل الخبز أم الماء؟
وجوابه: الخبزُ للجائع أفضل، والماء للعطشان أفضل، ولا بدَّ منهما معًا، فإن كان الإنسانُ متجرِّئًا على المعصيةِ فالخوف أفضلُ له، وإن كان في حالةِ ضعف، ويأس، ومرض، وخوف، فالرجاءُ أفضل له؛ ولهذا قال سيدنا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما العالِم الذي لا يقنِّط الناسَ من رحمة الله، ولا يؤمِّنُهم مَكْرَ الله".

___________________
[1]- أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
[2]- ابن القيم، الجواب الكافي: [97].
[3]- انظر مختصر منهاج القاصدين، [228-223].
[4]- رواه البخاري (6502).
[5]- لابن قدامة: [38] ط1 مؤسسة الرسالة، بتصرف.
[6]- وفي [ص98] كلامٌ مهمٌّ عن الذِّكر.
 

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 9
  • 0
  • 18,131
 
المقال التالي
(2) اللياقة النفسية

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً