صندوق داروين الأسود

منذ 2015-03-24

من المهم قبل السير قدُمًا في فصول هذا الكتاب الماتع أن نتعرف على المعنى الذي يقصده (بيهي) بعبارة "التصميم الذكي"، فإن هذا مما يعين على فهم كافة الحجج والمفاهيم المرتبطة بها وهو يتحدث عنها.

لماذا هذا الكتاب؟!
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد..
فإدراكًا من مركز براهين لأهمية توفر المادة العلمية المناسبة بين أيدي الباحثين المهتمين بنقد أو تقييم نظرية التطور، يأتي كتاب (صندوق داروين الأسود) لمايكل بيهي ليسد شيئاً من هذه الحاجة، ولينضم إلى قافلة أطروحات الخبراء المناهضة لنظرية التطور الدارويني.

وككتاب (تصميم الحياة)، يتبنى هذا الكتاب مقالة التصميم الذكي [1]، ويبتكر لتعضيدها دليلًا قويًّا لم تستطع كافة النقود الموجهة ضده أن تقدم من الأدلة ما ينهض للقدح فيه، فضلًا عن دحضه؛ ألا وهو دليل التعقيد غير القابل للاختزال أو التعقيد الذي لا أبسط منه (irreducible complexity). وفكرة التعقيد غير القابل للاختزال من حيث هي ظاهرة بيولوجية -كما يذكر بيهي في هذا الكتاب- قد رُصدت من قبل وأشار إليها بعض العلماء، ولكنها لم تحظ باهتمام بارز وتحتل موقعًا مهمًا في أدبيات التطور المتأخرة إلا على يدي عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي مايكل بيهي.

والكتاب وإن كان يدور في مجمله على تأكيد أهمية التعقيد المشار إليه، وتفصيل دلالته الظاهرة على التصميم [2]، إلا أنه قد عني بذكر أدلة أخرى على وهاء نظرية التطور الدارويني كتفسير لأصل الحياة بالاعتماد على التراكم التدريجي العشوائي للتغيرات الطفيفة وعمل الانتخاب الطبيعي عليها. فقد جعل بيهي الفصل السابع من هذا الكتاب لبيان: "أنَّ الأنظمةَ المعقدةَ غير القابلة للاختزال ليست هي المشكلةُ الوحيدةُ لفكرة التدرج" [3] ليصل بعد ذلك إلى نتيجة ما فتئت تكتسب زخمًا مرة تلو مرة في أدبيات نقد التطور الدارويني، ألا وهي - كما يقول بيهي- ثبوت: "عجْز النظرية الداروينية عن تفسير الأُسُس الجزيئية للحياة، لا مقابل التحليل المقدم في هذا الكتاب فحسب، بل بسبب الغياب التام لأيِّ نموذج مفصل يمكن من خلاله تفسير نشوء الأنظمة البيوكيمائية الحديثة في الأدبيات العلمية الاختصاصية" [4]

كما أن المؤلف في سياق تأصيله لمفهوم التعقيد غير القابل للاختزال لم يقتصر على مثال حيوي وحيد. فقد لفت بيهي الانتباه إلى ملاحظة مهمة وهي أن أمثلة هذا المفهوم في مظاهر الحياة المختلفة، وتحديدًا على المستوى الجزيئي، كثيرةٌ جدا. وفي ذلك يقول به بيهي: "فالأمثلة على التعقيد غير القابل للاختزال وفيرة، وتتضمن بعض مناحي تضاعف الدنا، وعمليات نقل الإلكترونات، واصطناع القسيمات الطرفية للصبغيات –التيلوميرات- والتركيب الضوئي، وتنظيم الانتساخ للحمض النووي والكثير من الأمور".

من المهم قبل السير قدُمًا في فصول هذا الكتاب الماتع أن نتعرف على المعنى الذي يقصده (بيهي) بعبارة "التصميم الذكي"، فإن هذا مما يعين على فهم كافة الحجج والمفاهيم المرتبطة بها وهو يتحدث عنها.

وقد نصَّ بيهي على مراده بهذه العبارة في مقال بعنوان (ما التصميم الذكي على وجه الدقة؟)، نشرته مجلة (البيولوجيا والفلسفة) عام 2001م، وفيه يقول: "قد يُقصد بالتصميم الذكي أنَّ قوانين الطبيعة نفسها مصممة لإنتاج الحياة والأنظمة المعقدة التي تدعمها. من دون تعليق على تبعات هذا الرأي، دعوني فقط أقولُ لكم بأنَّهُ ليس المعنى الذي حددته للعبارة. قصدت بالـ(التصميم الذكي) افتراض تصميم غير قوانين الطبيعة؛ أيْ هل هناك أسباب أخرى للاستنتاج - بأخذ قوانين الطبيعة كما هي - بأنَّ الحياةَ والأنظمة المكونة لها قد رتبت بشكل مقصود، كما أنَّ هناك أسبابًا غير قوانين الطبيعة للاستنتاج بأنَّ مصيدة فئران قد تم تصميمها؟ فعندما أشير إلى التصميم الذكي فأنا أقصد - ما لم أنص على العكس - هذا المغزى الأقوى للتصميم فوق قوانين الطبيعة".

إن بيهي ليذكرنا بهذا التمييز الفارق المهم بالأصل الذي قرره الفيلسوف لودفيج فتغنشتاين حين صرّح أن "معنى العالم لا بد أن يقع خارج العالم"، وأن "في داخل العالم كل شيء على ما هو عليه، ويقع كما يقع"، وأن "في داخله لا يوجد قيمة، وإن وجدت فستكون بلا قيمة" [5] وذلك من جهة أن بيهي وفتغنشاتين متفقان على أن القوانين من حيث كونها قوانين منتمية لهذا العالم فقط ليست إلا وقائع مجردة، لاحول لها ولاقوة من تلقاء نفسها، وأننا إذا ما أردنا أن نسبغ على مجموع علاقاتها ببعضها البعض معنى ذا مغزى، فإنه يتعيّن علينا أن نبحث عن أصل هذا المعنى خارجها لا فيها.

نترك الآن المجال للقارئ كي يبحر في فصول هذا الكتاب، متجلّدًا على ما قد يصادفه من اصطلاحات خاصة يعرفها خبراء هذا العلم، ناهلًا من جُلّه لا فوائد علمية فحسب، وإنما دروسًا حياتية رائعة، وخبرات شخصية نافعة، ولفتات فلسفية دينية مهمة، وفوق ذلك كله إضاءات على آيات "الصُنع المتقن"، لا في مظاهر الخلق البادية للعين المجردة فقط وإنما الكامنة أيضًا في أدق تفاصيل الحياة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

في الختام كما في البدء، الشكر الخالص لله وحده على ما وفق إليه من إتمام لهذا العمل. ثم أتوجه بالشكر الصادق لفريق الترجمة والتنسيق على ما بذله من جهد كبير في ظروف زمنية ومادية لم تؤازره كثيرا، ولكنه استطاع -بعون من الله- مواجهة تلك التحديات لإخراج هذا العمل في وقت قياسي. بقي أن نذكّر القارئ الناصح في حال وجد ما يستحق التصحيح أو التحسين ألاّ يبخل علينا بتوجيه منصف أو نقد هادف، والله يتولّى ثوابه أولا، وله منّا حق الشكر ثانيًا.
والحمد لله رب العالمين.

________________

تمهيد:
لا يسعنا في مستهل التعريف بالكتاب الذي بين أيديكم أن نتجاوز التعريف بمؤلفه (مايكل بيهي) أستاذ العلوم البيولوجية بجامعة ليهاي في بنسلفانيا، والحاصل على الدكتوراه في تخصص الكيمياء الحيوية عام 1978م من نفس الجامعة.

بالإضافة إلى نشره ما يناهز الأربعين مقالة في مجلات علمية محكمة متخصصة فى مجال الكيمياء الحيوية، حرر بيهي مجموعة من المقالات الرئيسية Editorial Features لبعض الدوريات مثل: Boston Review، American Spectator، New York Times.

ظهرت الطبعة الأولى من كتاب (صندوق داروين الأسود) عام 1996م، حيث أثار جدلًا واسعًا في الأواسط العلمية في ذلك الوقت؛ وذلك لما طرحه من إشكاليات حول قدرة الداروينية الحديثة على تفسير كيفية نشوء النظم البيولوجية في أبسط صورها علي صعيد المستوى البيوكيمائي الجزيئي في الحياة المجهرية الدقيقة بالطرائق الطبيعية.

كما ساهم الكتاب في إعادة صياغة حجة التصميم في النظم الحيوية على مستوى الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الدقيقة، من خلال طرحه لفكرة التعقيد الذي لا يمكن اختزاله Irreducible Complexity، والتي يستلزم وجودها تدخلا ذكيّا.

قُيِّمَ كتاب (صندوق داروين) من قبل مجلتي (National Review) و (World Magazine) كواحد من أهم مائة كتاب في القرن العشرين، ويصف ديفيد بيرلنسكي مؤلف كتاب (A Tour Of The Calculus) كتاب بيهي بأنه "عمل غير مسبوق"، ويعده "ضربة ساحقة ضد داروين علي مستوى الكيمياء الحيوية بالتأصيل والرشاقة وقوة الثقافة".

يرمي بيهي من خلال عنوان كتابه (الصندوق الأسود) إلى الاصطلاح الذي درج استعماله في وصف النظام أو الآلة التي يجهل كيفية عملها، وقد مثلت الخلية لدارون ومعاصريه صندوقًا أسودًا بالفعل، فالخلية التي كانت تبدو آنذاك تحت المجهر ككرة هلامية ذات بقعة مظلمة تمثل النواة، تعرف الآن كنظام معقد للغاية، إنها مدينة كاملة من الآلات الجزيئية المتعاضدة المتكاملة التي يحسدها عليها علماء التقانات النانوية، فمع اهتزازها أو التفافها أو زحفها المتواصل في أرجاء الخلية، تقطع هذه الآلات، وتلصق وتنسخ جزيئات جينية، وتقوم بنقل المغذّيات من مكان إلى آخر، أو تحولها إلى طاقة، وتبني أو تصلح الأغشية الخلوية، وتنقل الرسائل الميكانيكية والكيميائية والكهربائية، وكل جزيء له وظيفته التي يختص بها ويقوم بها بكفاءة وتعقيد معجز.

وهذا التعقيد يتحدى اختبار داروين الذي وضعه بنفسه حين قال في كتابه (أصل الأنواع): "إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يُرجَّح أنه قد تشكل عن طريق العديد من التعديلات المتعاقبة والطفيفة، فسوف تنهار نظريتي تماما" [6]

وكما يقول بيهي فإن هذا الاختبار الذي وضعه دارون كان أساس فكرته في هذا الكتاب. واستجابة لذلك، يستعرض تلك النظم غير القابلة للاختزال Irreducible Complexity على حد وصفه، والتي تقوم علي مبدأ التعاضد التام بين مكوناتها المختلفة؛ حيث تعمل معًا لإنجاز العمل المنوط بذلك النظام.

فلو قمنا بإزالة أحد هذه المكونات سوف يتوقف النظام عن العمل، وهو ما يمثل تحديا أساسيًّا للعمليات الدارونية التي تفترض أن هذه النظم الحيوية تمر أثناء رحلة تطورها عبر سلسلة من المراحل الوسيطة الطفيفة والمتتالية، يقوم خلالها الانتقاء الطبيعي بصياغة تكيفها تدريجيّا؛ بالحفاظ على تغيرات المرحلة المفيدة والوظيفية، وتدمير ما هو غير صالح أو أقل تكيّفا. وهنا تكمن المعضلة المحورية؛ فهذه الأعضاء لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها إلا بوجودها مكتملة، والكيانات الوسيطة المتتالية التي من المفترض أن يمر بها العضو أثناء رحلة تطوره ليس لها أي معنى وظيفيٍّ إلا بوصفها أجزاء من المنتج النهائي.

من منطلق دعوة داروين، وفي سبيل شرح حجته، يتنقل بيهي برشاقة أسلوبه المعهودة وأمثلته المثيرة بين العديد من النظم الحيوية التي تتحدى نظرية التطور، في رحلة مجهرية شيقة للنظر عميقا في داخل الصندوق.. (صندوق داروين الأسود).

أحمد يحيى (رئيس قسم البحوث البيولوجية بمركز براهين).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم الكتاب: صندوق داروين الأسود: تحدي الكيمياء الحيوية لنظرية التطور
تأليف: د. مايكل بيهي
ترجمة: د. مؤمن الحسن - د. أسامة إبراهيم - د. زيد الهبري وآخرون
مراجعة وتقديم: أحمد يحيى - عبدالله بن سعيد الشهري
يصدر عن: مركز براهين لدراسة الإلحاد ومعالجة النوازل العقدية
الناشر: دار الكاتب للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 232


[1] أفرد بيهي الفصل التاسع من هذا الكتاب لمفهوم التصميم الذكي.
[2] يُنظر تقدمة كتاب (تصميم الحياة)، من إصدارات براهين، حيث كتبتُ رأيي مختصرا في تعبير "التصميم الذكي".
[3] في نهاية الفصل السابع.
[4] مطلع الفصل التاسع بتصرّف يسير جدا.
​‹Wittgenstein، L. (1960) Tractatus Logico-Philosophicus، Routledge & Kegan، London، p. 183[5]
[6] Charles Darwin، "The Origin Of Species"، Harvard University Press، 1964، p189.


عبد الله بن سعيد الشهري
المشرف العام على مركز براهين
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 4
  • 0
  • 4,672

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً