وحدك تعلم (2)

منذ 2015-04-28

وضعت كفيها على وجهها .. ضغطت على رأسها في محاولة عابثة لتُخرس ما تفكر فيه. أيّ صدق يكون قد بلغه الشهداء .. أيّ جهاد جاهدوه في حياتهم .. في كل لحظات أيامهم !؟

(5)

تَجد نفسها تُحاول عابثةً الانكماش أكثر وأكثر!
تَبكي دُون صَوت ..
وأحيانًا دُون دموع ..
تجد نفسها بعد كل هذا تُردد معهم ..
"وسْكَابَا يا دُموعَ العَين سكابا.. على شُهدا سُوريّا وشَبَابَا" !!

للآن لا تدري متى بحثت عن نشيدها هذا بصوتها الذي أحياناً لا تخاله صوتها !
متى قامت بتشغيله بهذه السُرعة !!
لكنها فعلت على أيّة حال.
تبكي وتبكي مع نفسها ..
لا تحرم نفسها من حقها في البُكاء على الشهداء.. وعلى نفسها وحالها!

وسْكَابَا يا دُموعَ العَين سكابا.. على شُهدا سُوريّا وشَبَابَا
ودَرعا وحُوران بأطفالها وشبابا، هَزّو النظام بحروفها وكتابا
صرخة أدلب، جبلها وطوراها مطلبنا الموت، ما نِرضى المَذَلّة

وتأتي في خاطرها كلمات قُرّة قلبها (الفَراشة) أسماء البلتاجي.. ضحكاتها..
تَنساب دُموعها على خدّيها غزيرة مُحرقة هذه المَرّة  ..
"وليسَ الذي يجري من العين ماؤها، لكنها رُوحٌ تذوبُ فتقطر"

رغبة مجنونة تنتابها ..
لو .. لو تجلس بغرفة أسماء الآن!
لو يجمعها لقاء بوالدتها الآن.
لكن لقاء صامت!
لأنها ببساطة لا تستطيع، ولن تجد أي كلمات مُناسبة أبدًا مهما حاولت!

(6)

ثم ماذا..
مساء يوم آخر ..
ويتوجب عليها صناعة الحلوى لإخوانها. ونفسها بالتأكيد!
وإلا ستتلقى عدد لا بأس به من الأسئلة.. والتوبيخات!
والتي لا طاقة لها للرد عليها أبدًا أو سماعها في حال كحالها.
على سبيل: لم لا تأكلين .. مريضة؟ أنت .. وأنت .. وأنت !؟

تجلس وتمضغ أوّل ملعقة.. فتجدها مُرّة حَنظلًا
تنسحب بهدوء لغُرفتها المُجهزة من كل أغراضها..
فيتلاشى كُلّ شيء بعينيها..
خِزانة ملابسها، مكتبتها، بقيّة الأشياء المُوزّعة هنا وهناك.
ثم فجأة تجد نفسها أمام رضيع سُوريّ وامرأة شابة تبكيه!!
لأنهُ ببساطة يموت بين يديها .. يموت يموت!
تقتله برُودة مُخيّم الزعتري ..
وقبل شهور قتلت حرارة الصّحراء الشديدة أطفال مثله..
مع عدم وجود أي مُقومات لحياة حيوان لا إنسان!

غصّت بالقهر والغضب وهي تذكر أبراج العرب العالية ..
ساعتهم التي يتباهونَ بها !!
أطول نافورة.. وأكبر معرض للطعام! وأكبر كعكة! وأكبر طبق تبّولة!!!
وأكبر .وأكبر ..
تبًا لهم جميعًا ..
أنزلَ الله عليهم سخطَ الدنيا قبل الآخرة.

يتركون رَضيعًا يتلوّى ..
في الصيف عقارب وثعابينَ تلسعهم في المُخيمات ولا أحد يهتمّ..
وصحراء تكوي أقدام صغير في ربيعه الأوّل..
برد يُجمّد .. وأي كلمات أخرى تصلح هنا..
لا لُقمة عيش ولا شربة هنيّة ..
فما العُذر من خُذلانهم فوق خُذلانهم الأكبر.. بعدَ أن أصبحوا في مُخيمات خارج سُوريّة!!

ثمّة حساب آت، وأجارنا الله إن شكانا ابن الثالثة
الذي قال قبل أن يذهب إليه.. سأخبر الله بكل شيء !!
تخيّلته يزيد كلماته بكلمات أمرّ ..
يقول لها: حساب الله قادم، ولسوفَ يكونُ عسيرًا!
ارتعدت وبكت ...
ثم قالت وماذا بيدي.. ماذا بيدي أن أفعل؟!


(7)

لا تدري أيّ جنون قد أصابها في ليلتها هذه ..
تتخيّل "ندى محرز" بصُحبة والدها الشهيد، يصعدونَ أحد جبال سُوريا!
يُضاحكها وهو يحملها على يدّ.. وسلاحه على اليدّ الأخرى ..
يُخبرها أنهُ  يبني لها بيت في الجنّة!
كانَ قد أحبّ الحياة هناك، وأراد أن ينتقل للعيش في أرض الرّباط ..
ولكن كأنَ الله أحبّ له أن ينتقل للعيش في مكان أبهى من كل هذه الدنيا ..
أيّ صدق كان بين جنبيه؟!
لا تجرؤ على الحديث عنه كثيرًا..

وضعت كفيها على وجهها .. ضغطت على رأسها في محاولة عابثة لتُخرس ما تفكر فيه.
أيّ صدق يكون قد بلغه الشهداء ..
أيّ جهاد جاهدوه في حياتهم .. في كل لحظات أيامهم !؟


تُغمض عينيها وتريد أن تبكي.. ولكن تكتم دموعها هذه المرّة
تردد مع نفسها "الشعب السُوري ما بينذلّ،، المُسلم ما بينذلّ" !!
وفي محاولة عابثة ليتلاشى هذا المشهد من أمام ناظريها ..
تجد أنه بدأ يتلاشى نعم.. لتصل حيث مُعتقل بعض الشّباب هنا في مصر!
وتجد ثُلّة من الحُقراء يقتحمون الزنزانة ..
يُكيلون أحقر الكلمات على سُكّانها ..
وهم -يا رعاهم الله- يُتمتمون باستغفار ومناجاة ..
لا يسمعها إلا الله الذي لا يَعْذُب عنهُ مثقال ذرّة ..


ويخفت صوت كل هذا برأسها قليلًا ..
ثم يعاودها أقوى وأعتى، وكأنه يُخبرها لن أبرح رأسكِ أبدًا هذه الليلة!!
ترى الآن البراميل التي تُلقى على الأطفال في المدارس..
براميل موت تُلقيها الطائرات الحربية على الأطفال في حَلَب!!
تقوم من سريرها ... تدور في كل الغرفة ... كالملسوع ...
تحكي مع نفسها ...
حَرّق الله عظامك يا بشار أنتَ والمقبور الأكبر

(8)

ثُمّ تأتيها تفاصيل رابعة..
وكأنّ ما رأته في بداية الليلة ليس كافيًا!

أسماء البلتاجي ..
تتخيلها وهي تَتَلَقّى قطرات الماء من أمّها لتتوضأ.. من زُجاجتها الصغيرة..
في السّابعة صباحًا.. بعد أن أصرّت على هذا!

تكاد تسمعها وهي تسير رافعة صوتها بتلاوة نديّة للقُرآن وسط كل هذا المَحرقة ..

وكأنها تربط اليقين على قلبها أكثر في هذه اللحظات..  تُرى.. لأيّ مرحلةٍ وصلَتْ!؟
كيف كانت تجمع الطُوب من الأرض .. في دلوٍ أبيض ..  وتعطيه لهم ..

تُرى بأي دعاء كانت تدعو ..
وأيّ صدق كان في قلبها وأيّ سكينة حلّت عليها .. ..
تتخيل ابتسامتها قبل أن تأتيها طلقة الجنّة بإذن الله..
لِمَ وسط كل هذا كانت تبتسم لصديقتها!؟

لا تدري لم تتخيّلها كثيرًا بثياب عُرس بهيّة، يدها في يد الشهيد عبد الرّحمن خالد الديب ..
أي حال كان حالهم ليرتقوا معًا في لحظة واحدة بطريقة مُتشابهة.. طلقة في الصّدر نحو القلب!
وكأنه -عبد الرحمن- طلبها من الله قبل أن يحكي لأمّه شيئًا عن نّيته لخِطبتها-أسماء-..
ما الذي كان بينكما وبين الله، ليُجزيكُما بهكذا جزاء.. ليجمعكما عنده !!؟


حبيبة والكاميرا في يدها، وثباتها وتقدّمها..
لا تُبالي بهم وهُم يُشيرون إليها بعلامة الذبح!
أي معرفة وثبات حلّ عليها حين طلبوا -صديقاتها- منها أن تُكمل وجبة فطورها بعد فجر اليوم المشهود،
فأخبرتهم "أكمل في الجنة بإذن الله"!!

زوج أسماء صقر وهو مُتّكئ عليها بعد إصابته بخرطوشة في قدمه ..
ثم هي بعد دقائق بوجهها  المُبتسم السّاحر..
ترحل تمامًا عن هذه الدنيا لحواصل طير خُضر كما كانت تتمنى من الله، وتملأ الدنيا بهذه الأمنية..
صغيرهم يَحيى .. ووجهه..
وتوقّفها أمام كلمات زوجها عنها كثيرًا..


د. فاطمة.. حَكيها عن المُستشفى الميداني.. وإحراق الطُغاة للنّاس أحياء!
إمساكها يد الجُنديّ لتتحسّسها.. إن كان بشر مثلها.. من لحم ودمّ!!
بعدما فرّغ الرصاص في المُصابين .. حين قالت له هناك أحياء ومصابين لا أستطيع تركهم!
فيلم "تحت المنصة" وفضحه لإعلام همّاز مشّاء بنميم.. يُزوّر، وعقول خاوية تُصدّق..
صوت عواء الجُنود الملاعين..
وهذا الشاب المُفجوع، الذي يدعو ويدعو ويبكي ويصرخ ..
صوته في أذنها للآن ..

لم تعد تتحمل أكثر..
سكتت تمامًا.. وقفت وجلست كثيرًا..
فتحت نشيد "هي جنّةٌ"..
تحاول أن تنسى قليلًا قبل أن يفتك برأسها هذا الصداع.
فيأتيها طيف الشهيدة الطفلة رَيَان أمجد العميان!
التي استُشهدت في دَرعا .. في حُضن والدتها

التي حاولت أن تحميها أثناء تواجدهما داخل باص مليء بالأطفال والنساء
حيث تمّ إطلاق النار عليهم من قبل قوات الأسد.. لعنات الله على رُوحه..
مما أدى لدخُول إحدى الرّصاصات من طرف خاصرتها اليُسرى لتخترق قلبها.

رَيَان .. :')
عندما كانو  يمزحون معها، يُخبرونها بحبهم لبشار!!
كانت تغضب وترد : " لا، بشار حيوان " يسألونها لماذا؟ تردّ: " لأنه قتل حمزة"
يأسألونها :من حمزة؟
هنا تسكت.. فهي صغيرة.. ولا تدري كيف قُتل حمزة !
والآن قد لحقت به إلى الجنّة إن شاء الله.

ضجّت بالبُكاء تسألها: لم يأتيني طيفكِ الآن!؟؟ لِمَ ترحلين وتتركيني!!

 

-----------------------

بقلم: أمل ناجح

وحدك تعلم (1)

وحدك تعلم (3)

  • 0
  • 0
  • 3,970

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً