الاتحاد الإسلامي ضرورة لتحرير فلسطين، ولكن؟!

أيمن الشعبان

الوحدة الإسلامية واتحاد الدول فيما بينها، الأصل فيه أنه ضرورة شرعية حثنا الله سبحانه عليها في غير ما آية وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا لا يتحقق بمجرد التنظير والتمني والرغبات الفردية، كما أنها هدف عقلي ومنطقي وكما يقال الاتحاد قوة.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، مقلب الليل والنهار، لا تدركه الأبصار، وكل شيء عنده بمقدار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

لا يخفى على الجميع ما تمر به الأمة الإسلامية منذ أكثر من قرن لا سيما في السنوات الماضية؛ من فرقة وضعف وهوان وظروف استثنائية، حتى تكالبت عليها الأمم من كل حدبٍ وصوبٍ، واستباحت بيضتها وانتهكت حرماتها ودنّست مقدساتها، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

وقبل الإجابة الصريحة على الأسئلة المطروحة، من واقعية الاتحاد الإسلامي وإمكانية تطبيقه، والمصالح المرجوة من ذلك لا سيما بقضية فلسطين، والخطوات العملية لتحقيقه، لا بد من تأمل وتدبر لسنن الله الكونية في قوة وضعف المجتمعات، نهوضها وديمومتها من سباتها وتأخرها، الانتصار والتمكين من الهزيمة والتقهقر.

المتأمل في تتابع الأحداث وتسلسلها تاريخيًا، يجد أن حال الأمة هذا طارئ عرضي، وأن وضعها الطبيعي الريادة والسيادة والعزة والغلبة والتمكين والصدارة بين الأمم، ولكلٍ أسبابه ومقدماته، فصحة الانتهاء من صحة الابتداء، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [1].

كان العرب قبل الإسلام في جاهلية دهماء وضلالة عمياء، يُضرب بهم المثل بالتفرق والتنازع والحروب وما حرب البسوس وداحس والغبراء بأكبر برهان، حتى إن إمبراطور الدولة الفارسية وصف حالهم بدقة، في حواره مع سفراء المسلمين قبيل غزوة القادسية، (فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم. فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم. فأسكت القوم فقام المغيرة بن شعبة: إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم. ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته، وهى حية كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد...)[2].

وعندما جاء الإسلام جمعهم على كلمة واحدة كلمة التوحيد، ثم هذه الوحدة والتآلف جعل القبائل المتناحرة المتقاتلة المتصارعة تقاتل تحت راية واحدة بقيادة المثنى وسعد وخالد وعقبة وطارق وصلاح الدين وغيرهم، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [3].

الله عز وجل بعث نبيه عليه الصلاة والسلام للناس كافةً بشيرًا ونذيرًا، ولا فرق في ذلك بين عربي أو أعجمي، أسود أو أبيض، شرقي أو غربي، ومهما تباينت واختلفت عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، فهي شريعة كل فرد وأسرة وفئة ومجموعة وقبيلة وعشيرة وجماعة بل ودولة، فالإسلام هو شريعة كل العالم.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28]، أي وما أرسلناك إلا إرسالة عامة لجميع الخلائق من المكلفين. تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] [4].

الأمة الإسلامية بحضارتها القوية سادت العالم بأسره وغيرت مسار الدنيا بربع قرن، يقول جوستاف لوبون في شهادته للحضارة العربية الإسلامية: "إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًا سوى مؤلفات العرب؛ فهم الذين مدّنوا أوربا مادةً وعقلًا وأخلاقًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه" [5].

ويقول مؤلف شيوعي: "إن الإنسان ليُدهش إذا تأمل السرعة الغريبة التي تغلب بها طوائف صغيرة من الرحالين، الذين خرجوا من صحراء العرب مشتعلين بحماسة دينية على أقوى دولتين في الزمن القديم، لم يمض خمسون سنة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى غرز أتباعه علم الفتح على حدود الهند في جانب، وعلى ساحل البحر الأطلانطيكي في جانب آخر، إن خلفاء دمشق الأولين حكموا على إمبراطورية، لم تكن لتقطع في أقل من خمسة شهور على أسرع جمل، وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوى ملوك العالم" [6].

أصل مبعث الأمة الإسلامية ليس لإتمام نقص في طرق إدارة الملك فحسب، أو لإكمال مشاريع زراعية أو تنمية التجارة والاقتصاد وما شابه، بل بعثت لغاية أسمى من كل هذه الأمور الدنيوية، فكل الأمم تبتدأ وتنهض إلى أن تموت وتندثر لأغراض البطن والشهوات وزخارف الدنيا الزائلة من ملك وثروات وسيطرة ونعيم زائل، إلا أمتنا الرائدة لأنها أمة ربانية.

وفي قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه مع رستم ومقولته الشهيرة "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، للتدليل على حقيقة هذه الأمة وهذا الدين ومكانتها بين الأمم، وعندما أعز الله دينه وكثر ناصروه أراد الأنصار إصلاح أموالهم، نزل قوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [7].

والنبي عليه الصلاة والسلام ما بُعث ولا أتى من أجل المال كما تقوم عليه حضارات الغرب اليوم، ولا جاء من أجل النساء كما وصلت لحالة من الابتذال وتضييع الأنساب ونشر الرذيلة والفاحشة كثير من الدول التي تدعي الرقي والتقدم والحضارة، ولا جاء من أجل الملك واستعباد الناس وإذلالهم وظهور طبقات تصول وتجول وتتحكم بأحوال الدول كما هو الحال في بعض الدول التي تسمى بالعظمى!

يكاد يكون أوضح وصف لهذا العصر هو عصر الأزمات، سواء على المستوى السياسي والديني والاقتصادي والأمني وغيرها، لكن حقيقة الأمر أن مرجع كل تلك الأزمات لأزمة واحدة فقط هي أزمة إيمان وأخلاق، والابتعاد عن تحقيق العبودية لرب الأرض والسماوات.

أزمة العالم بأسره اليوم تكمن بعدم وجود أمة رائدة تقود العالم قيادة مثالية، كما كان عليه أسلافنا مطلع الإسلام، ففي القرن السادس الميلادي كانت أمة النصارى جسد بلا روح ولا قلب ولا عقل ولا دين ولا أخلاق، حتى جاء الإسلام وقاد العالم قيادة رشيدة شهد بها القاصي والداني الأعداء قبل الأصدقاء، ومن أبرز مقوماتها وحدة الكلمة ومركزية القرار من غير تسلط أو تجبر وتكبر ودكتاتورية، بل شورى وتغليب مصالح الناس على الفئويات وأي نسبة أخرى، حتى كانت حضارة حقيقية وليست صورية.

ونحن بأمس الحاجة الآن لأن نكون قدوة صالحة على مستوى الشعوب جميعًا بشكل عام وللنهوض بأمتنا الإسلامية بشكل خاص، ولا يكون ذلك إلا باتحاد حقيقي فعلي مبني على أصول متينة وركائز قوية وقواعد رصينة، من توحيد وإيمان وعمل صالح وصدق في النوايا وثقة كبيرة بهذا الدين وحسن ظن وتقوى.

وكأن هذا العصر اختلطت المهازل بالمآسي والله المستعان، وكما يقول أبو العلاء المعري:

فلما رأيتُ الجهلَ في الناسِ متفشيًا *** تجاهلت حتى قيل إني جاهل

فيا موت زر إن الحياةَ مريرةٌ *** ويا نفس جدي إن دهرك هازل

أصيبت الأمة الإسلامية عبر تاريخها بحالات من المد والجزر، والتاريخ يشهد بأن أمتنا مرت بمراحل سيئة للغاية وظروف حالكة أسوأ مما نمر به الآن، يصف ابن الأثير ما حل بالمسلمين عندما تسلط عليهم المغول والتتار: "لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا، وقتلًا ونهبًا، ثم يتجاوزونها إلى الري، وهمذان، وبلد الجبل، وما فيها من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينجُ إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله... فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلًا، وأعدل أهل الأرض أخلاقًا وسيرة، في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقب وصولهم إليه" [8].

حتى وصل الحال من شدة الضعف والاستسلام، أنّ تتريّ أخذ رجلًا لم يجد ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على هذا الحجر ولا تبرح، فوضع رأسه وبقي إلى أن أتى التتري بسيف وقتله، وقال ابن الأثير وأمثال ذلك كثيرة.

هنالك مثل قديم عندما غزا التتار بلاد المسلمين في القرن السابع الهجري كان يقال: "إذا قيل لك أن التتر انهزموا فلا تصدق"، وللأسف أصبحت من المسلمات الآن إذا قيل لك أن أمريكا أو الغرب أو حتى الصهاينة قد انهزموا فلا تصدق، وكأننا رضينا بالواقع المهين الذي جعلنا تابعين لهم بكل شيء حتى السياسة وإدارة شؤوننا الحياتية!

إن أعظم فتنة وخلل في التصور يمر به المسلمون بهذا العصر هو انبهارهم بالحضارة الغربية، والسعي الحثيث للبحث عن أسباب هذه القوة ونهضتهم وقيادتهم للعالم، لكن مهما بلغت ووصلت فهي نتاج تجارب بشرية وهذا لا يعني أحقيتهم ورشاد طريقتهم، أما حضارة الإسلام فهي نتاج رباني لا باطل فيه بجميع نواحي الحياة.

إن ثقة المسلم بدينه واعتزازه بالإسلام وافتخاره بهذه النسبة تعطينا حافزًا قويًا لاستعادة مكانة الأمة الفعلية، لأننا إذا بقينا على ما نحن عليه فتلك الحضارات الزائفة ستُغرق العالم بأسره، بسبب تخلينا عن موقعنا ومكانتنا الفعلية الصحيحة.

 

الاتحاد الإسلامي ضرورة شرعية وعقلية

حثنا الله سبحانه وتعالى في غير ما آية، على وحدة الكلمة ونبذ التفرق والتنازع والتدابر والتخاصم، وكذلك ركز عليه الصلاة والسلام على هذه القضية بشكل كبير، حتى أصبحت من دعائم وركائز قيام الدولة الإسلامية، يقول سبحانه في خطابه للأمة الواحدة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [9]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [10]، وقال عز وجل: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، أي قوتكم.

وقد ذم الله سبحانه من تزيا وتشبه بصفات اليهود الذين تفرقوا واختلفوا وجعلها أبرز صفة لهم، فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [11]، وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [12]، ولم يفتح المسلمون الأوائل الدنيا ويسودوا العالم إلا عندما كانوا أمة واحدة ودولة مجتمعة قوية رايتها واحدة، لأن الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق قانون إلهي من قوانين العز والنصر والفلاح والتمكين في كل محنة وتحدي، فهنالك روابط قوية ووشائج متينة تجمعنا جميعًا ألا وهي رابطة الدين والعقيدة والإيمان بالله والرسالة المحمدية على الرغم من اختلاف ألواننا وألسنتنا وقومياتنا، وهنا تكمن قوة المسلمين.

لم يكن يومًا سبب تخلف وتأخر المسلمين بشكل أساس قوى خارجية معادية، بل بسبب الضعف والهوى والهوان والتشرذم الداخلي والتفرق والتشتت واختلاف الكلمة وتبعثر الرؤى الواحدة.

يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله زوى لي الأرض. فرأيت مشارقها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة. وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم. فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة. وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم. يستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضًا» [13].

ففي الوحدة الإسلامية التي هي مقدمة لظهور وغلبة الدين الإسلامي؛ يعيش العالم بأسره بعدل وإنصاف وأمان، ويُعبد فيه الملك الديان، وتأملوا لقول النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر، ماذا قال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد». الله أكبر ما أجمله من دعاء وأعظمها من كلمات، فلم يقل إن خسرنا المعركة فالرعية سوف تموت من الجوع ويسود الفقر وتنعدم فرص العمل وتزداد البطالة وتحصل أزمة اقتصادية وتجف منابع المياه وغيرها من شعارات الدول المتقدمة المبنية على المادية المحضة.

وجود وبقاء الدولة الإسلامية مرتبط بمدى تحقيق العبودية لرب البرية، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [14].

المسلمون لا تجمعهم إلا رابطة الدين، فمتى ما ضعفت وتلاشت وتكسرت -وهذا هو الحاصل- فذلك نذير شؤم على الأمة الإسلامية، فأول ما يجب علاجه وإصلاحه هو إعادة هذه الرابطة لحقيقتها على أساس متين وركيزة قوية،ثم نبدأ بحل المشكلات الأخرى.

لذلك أدرك أعداؤنا أن الغزو الفكري الثقافي، وتغيير المفاهيم لدى المسلمين، وانقلاب الموازين في سلوكياتهم وأخلاقهم بل ودينهم وعقيدنهم، والعمل على تشرذم الدول وتحقيق القاعدة الشيطانية (فرّق تسد)؛ أجدى لهم وأنفع من الغزو العسكري، وكان مما توصل إليه لويس التاسع ملك فرنسا في معتقله بالمنصورة كما يشير بذلك المؤرخ النصراني (جوانفيل) أن أفضل سلاح للحملات الصليبية الجديدة هو نشر المكائد والدس بين العرب بعضهم مع بعض وإثارة الخلافات بالأوساط الإسلامية والإبقاء على النار مستعرة بينهم حتى تضعف شوكتهم وينهار الإسلام.

إذا رضينا بواقع الأمة الإسلامية اليوم دون التوحد والوحدة والاتحاد فكأننا نرضى بالصورة ونفضلها على الحقيقة، وهذا منافي لبديهيات العقول، فما تمر به الأمة الآن هو طارئ وصورة لا تعكس الحقيقة التي ينبغي أن تكون عليها، فلا أمل للأمم الضعيفة في إثبات وجودها وديمومة كيانها.

للأسف الشديد في الوقت الذي نجد فيه اتحاد الدول المادية، التي لا هم لها ولا شغل إلا زخرف الحياة الدنيا وبهارجها؛ نجد الدول الإسلامية تزداد الفجوة بينها وتكبر الهوة، حتى أغرقتها الأمم الأخرى بسفاسف الأمور وأشغلتها، في حين أن أدنى البديهيات والعقول تحتم على الجميع ولو بتصور عقلي أن يتّحدوا، لأن الصراع أصبح على البقاء وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية!

 

الاتحاد الإسلامي وقضية فلسطين

المتأمل عبر التاريخ يجد أن فلسطين لم تكن تحت الحكم الإسلامي العادل إلا إذا كانت دولة إسلامية قوية موحدة، إذ سبعة قرون تحت الحكم الروماني قبل مجيء الإسلام، وعندما قويت شوكة الدولة الإسلامية بدأت فتوحات الشام تمهيدًا لفتح بيت المقدس حتى تسلم مفاتيحها الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15هـ دون إراقة دماء.

وقد استشعر اليهود ضرورة تفرق وحدة الصف الإسلامي لتحقيق مآربهم، فعملوا منذ البداية لتفريق الكلمة، "وكان من المكايد التي مارسها نزلاء يثرب من يهود أن يفرقوا وحدة الصف الداخلي للمسلمين، ويضربوا بعضهم ببعض، فدبروا مكيدة إثارة النعرات الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج قبل أن يؤلف الله بينهم ويوحد صفهم بالإسلام، وذلك بإحياء الخلاف القديم الذي أماتته الأخوة الإسلامية وأحيت مكانه المحبة والتصافي والوئام، وهدف اليهود من ذلك أن يجدوا مرة ثانية سبيلًا للسيطرة بين توازن القوى المعادية، كما كان شأنهم قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" [15].

واستمرت القدس مدينة إسلامية تنعم بالأمن والرخاء والاستقرار وشد الرحال، إلى أن ضعفت الدولة الإسلامية وتصدعت حتى انقض عليها الجيوش الصليبية عام 1099م، وقتلوا من المسلمين سبعين ألفًا، استمر حكمهم تسعين عامًا إلا أن قيض الله نور الدين زنكي الذي مهد لتحريرها بالسعي أولا لتوحيد دويلاتها ونشر العلم والسنة وقمع البدعة، إلى أن خلفه بذلك القائد الهمام صلاح الدين رحمهم الله.

إنطلاقًا مما مضى وكنتيجة طبيعية فلم يتسن لليهود الصهاينة اغتصاب واحتلال مقدساتنا في فلسطين إلا بعد جهود مضنية وعمل دؤوب منهم في تصدع الدول العربية والإسلامية ونشر القلاقل بها وإشغالها بمشكلات داخلية وخارجية لصرف الأنظار عن قضية فلسطين.

وقبل ذلك كله بدأت أول مرحلة من خلال القضاء على الخلافة العثمانية على ما هي عليه من ضعف ووهن في أيامها الأخيرة، لأنهم أدركوا أن لا تغلب على المسلمين إلا بتشظّيهم وجعلهم دويلات على أسس عرقية وقومية وما شابه، و(سايكس بيكو) لأكبر برهان ودليل.

نشطت الحركة اليهودية منذ عام 1770 ميلادي بتأسيس نواة مؤسسة (روتشلد) اليهودية الكبرى والتي سيطرت على التجارة والصناعة في أوربا، وإعادة صياغة بروتوكولاتهم، كل ذلك تمهيدًا لإقامة دولتهم اليهودية على أرض فلسطين ولم يتحقق هذا إلا بعد تقويض الخلافة العثمانية، حتى تأسس محفل ماسوني باسم (محفل الشرق العثماني).

بعد ذلك أوفد اليهود للتفاوض مع السلطان عبد الحميد اليهودي الماسوني الثري (قره صو) فقال للسلطان: "إنني قادم مندوبًا عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة، ومئة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين" [16].

فكان جواب السلطان رحمه الله: اخرج من وجهي يا سافل، فخرج رأسًا إلى الباخرة فإلى إيطاليا، ومنها أرسل إلى السلطان البرقية التالية: "أنت رفضت عرضنا وسيكلفك هذا الرفض أنت شخصيًا ويكلف مملكتك كثيرًا" [17].

واستمرت المقايضات حتى أرسلوا زعيم الحركة الصهيونية (هرتزل) إلى السلطان ليقايضه، وعرضوا عليه امتيازات ومنافع مقابل شراء بعض الأراضي في فلسطين، فكان جوابه: "إن أراضي الوطن لا تباع، إن البلاد التي امتلكت بالدماء لا تباع إلا بالثمن نفسه".

ثم نصحهم بأن يحتفظ اليهود بملايينهم وقال -وهنا الشاهد- ماذا تفعل الفرقة بأهلها والتناحر والتقسيم-: "إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي وهذا أمر لا يكون" [18].

اليهود لم يسيطروا على أرضنا بقوة إمكانياتهم ومساندة دول كبرى لهم فحسب، بل السبب الأهم هو ضعفنا وتفرقنا، وبعدنا عن فقه ومعرفة حقيقة الصراع بيننا وبينهم، ومحور القضية التي أفرغت للأسف من محتواها، فكانت إسلامية ثم عربية ثم دول طوق ثم فلسطينية، بذلك حُيِّدت شريحة كبيرة من المسلمين وأُبعدوا عن قضيتهم المركزية!

مما لا شك فيه أن قضية فلسطين ومقدساتنا تخص أكثر من مليار ونصف مسلم على وجه الأرض، وينبغي أن تعاد القضية إلى نصابها ويتحمل كل مسلم مسؤوليته في الدفاع عنها، لا سيما أصحاب القرار من حكام وقادة ومسؤولين، والاتحاد الإسلامي بنظري في وقتنا الحاضر رغم الصعوبات وكثرة المعوقات، لكنه ممكن على الأقل منطقيًا للمحافظة على المناصب والكراسي المعرضة للزوال والسقوط، إذا وصلنا لمرحلة انعدام الإحساس بالمسؤولية الشرعية!

 

ومن هانت القدس في دينه *** يكون كمن هان حتى كفر

فالاتحاد الإسلامي يحتاج لتبني واضح وجرأة كبيرة من صناع القرار في عالمنا الإسلامي، وتوعية كبيرة وتثقيف مستمر، على أن يحقق الحد الأدنى لتطلعات شريحة واسعة من الشعوب الإسلامية بتحرير الأرض المقدسة.

فهو أمر ممكن؟ نعم، بل واجب كما أسلفنا، خصوصًا في ظل المخاض العسير الذي تمر به الأمة الإسلامية بمختلف النواحي؛ لكن واقعيته تحتاج إلى: صدق النية والإرادة القوية والهمة العالية، والتسامي والتجرد عن حظوظ النفس والجري وراء المناصب والكراسي الزائلة، في ظل الاتفاق أو التوافق العام على القضية المحورية بتحرير الأقصى من براثن اليهود الغاصبين.

مع صعوبة وتعقيد الأوضاع العالمية والأزمات المتداخلة، إلا أن تطبيق فكرة وأصل الاتحاد الإسلامي عملية إذا رجعت الأمة لدينها وعقيدتها وأخلاقها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، واستفادت من تاريخها واستلهمت منه الدروس والعبر، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله.

لذلك إذا أردنا الحديث عن هذه القضية المصيرية الهامة، بعيدًا عن السفسطة والفلسفة والتنظير، لا بد من الرجوع قليلًا عبر التاريخ والنظر بتمعن للظروف التي سبقت احتلال فلسطين من قبل الصليبيين، هذا أولا ثم كيف نهضت الأمة واستعادت مقدساتها في أقل من قرن، وما هي أبرز العوامل التي ساعدت على ذلك.

في الوقت الذي كانت المجتمعات الإسلامية تعاني من الفساد والضعف في ميادين الحياة المختلفة، ورؤساء العالم الإسلامي على حالهم من التفكك والصراع، دخل الصليبيون فأطاحوا بملك سلاجقة آسيا الصغرى واستولوا على عاصمتهم نيقية. ثم انحدروا إلى بلاد الشام وهددوا الأخوين -رضوان في حلب، ودقاق بدمشق- تهديدًا بالغًا حتى اضطرا الدخول في طاعة الصليبين وأداء الجزية [19].

وتقدم لنا المصادر الإسلامية صورًا أقبح من تقاعس الخلفاء والسلاطين أمام الفظائع التي ارتكبها غزاة الصليبيين في القدس وسواحل سوريا ولبنان، فقد جمع أحد الوفود المستنجدة كيسًا كبيرًا مليئًا بقحف الجماجم وشعر النساء والأطفال، ونثرها بين يدي المسؤولين، فكان جواب الخليفة لوزيره "دعني أنا في شيء أهم من هذا! حمامتي البلقاء لي ثلاث ليال لم أرها"! فقط كان للخليفة حمامة بلقاء اللون مدربة على الغَلَبة ونقر الحمام. وهذه كانت لعبة شائعة بين الناس وكان مولعًا بها ويماثله الأغنياء والطبقات العالية.

وفي نفس العام الذي نزلت فيه الكارثة بالمدينة المقدسة، كان سلاطين السلاجقة الثلاثة أبناء ملكشاه: محمد وسنجر وبركياروق يتحاربون من أجل النفوذ والسلطة. ففي ذي الحجة من العام نفسه دخل محمد بغداد وخطب له فيها، ثم سار إلى الري حيث وجد السيدة زبيدة والدة أخيه بركياروق فأمر بخنقها، وحارب بالوقت نفسه أخاه بركياروق في خمس معارك هائلة [20].

سبحان الله ما أشبه اليوم بالبارحة، حتى ضاعت فلسطين سنة 1948 واغتصبت من قبل شذاذ الآفاق، بمرأى ومسمع من الدول العربية والإسلامية، ولا أحد يحرك ساكنًا والكل منشغلون بسفاسف الأمور ومشاكلهم الداخلية وتقوية نفوذهم والتشبث بالكراسي، وتقديم مصالح أفراد وفئات قليلة على مصالح دول بأسرها ومجتمعات وشعوب!

وقد ظهر هذا التحول العظيم في العقيدة والنفسية، والإفلاس في الروح والإيمان، في شر مظاهره في حرب فلسطين، فكان فضيحة للعالم العربي في القرن الرابع عشر الهجري، كما كان انكسار المسلمين وفشلهم الذريع أمام الزحف التتاري فضيحة للعالم الإسلامي في القرن الثامن، فقد اجتمعت سبع دول عربية لتحارب الصهيونية وتدافع عن وطن عربي إسلامي مقدس، عن القبلة الأولى، وعن المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، وعن جزيرة العرب والأقطار العربية التي أصبحت مهددة بالخطر اليهودي، فكانت حرب فلسطين دفاعًا عن حياة وشرف وعن دين وعقيدة، وكان العالم العربي بأسره إزاء دويلة صغيرة لم تستقر بعد، واتجهت الأنظار إلى مسرح فلسطين، وانتظر الناس معركة مثل معركة اليرموك، أو وقعة مثل وقعة حطين، ولماذا لا ينتظرونها والأمة هي الأمة، والعقيدة هي العقيدة، مع زيادة فائقة في العدد والعُدد.

فلماذا لا ينتصر العرب وهم عالم؟ ولماذا لا يقضون على عدوهم وهو حفنة من المشردين؟ ولكنهم نسوا ما فعلت الأيام وما فعلت التربية، وما فعلت الدول والزعامة السياسية، وما فعلت المادية بالأمة العربية في هذا العصر. لقد تقدم العرب إلى معركة اليرموك حقًا، ولكن بغير الإيمان الذي تقدم به أسلافهم إلى هذه المعركة في العصر الأول.

لقد تقدموا إلى وقعة كانت وقعة حاسمة كحطين -لو ظفر العرب- ولكنهم تقدموا بغير الروح التي تقدم بها صلاح الدين وجنده المؤمن المجاهد. تقدموا بقلوب خاوية تكره الموت وتحب الحياة، وأهواء مشتتة، وكلمة متفرقة. يريدون أن يربحوا النصر ولا يخسروا شيئًا، وأن يحافظوا على شرفهم ولا يخاطروا بشيء، كل يعتقد أن غيره هو المسؤول عن الحرب، وعن الغلبة والهزيمة، ثم هم يقاتلون وحبلهم في يد غيرهم. إذا أرخى قليلا تقدموا، وإذا جره تأخروا، وإذا قال حارِبوا حارَبوا، وإذا قيل اصطِلحوا اصطلَحوا، وما هكذا يُكتسب الظفر ويُقهر العدو [21].

أوردها سعد، وسعد مشتمل *** ما هكذا يا سعد تورد الإبل

من رحم هذا الوضع المزري المأساوي، كان لا بد من تصحيح للمسار وترشيد للطريق وتقويم للاعوجاج، فبدأت إصلاحات بعدة مسارات وعلى مختلف الأصعدة والجوانب، تركزت بمجملها على أصلين مهمين:

الأول: نشر العلم والعقيدة الصحيحة الصافية، لأن السلاح الفكري هو أنجع سلاح.

الثاني: السعي الحثيث لإيجاد مؤسسات تقوم على هذه العقيدة والعلم في ربوع المعمورة، بحيث تتحول هذه المبادئ والمفاهيم والتصورات إلى واقع حياة عملي.

دأب ثلة من العلماء والمصلحين لتحقيق هذه الركائز والدعائم المهمة، لنهوض وقيام أي مجتمع واستعادة الأمة عافيتها، مع ما في ذلك من صعوبة الموقف وتعقيد الحالة، إلا أن الله عز وجل إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه.

لذلك تميزت سياسة الدولة الإسلامية الجديدة في زمن نور الدين زنكي رحمه الله بستة أمور أساسية:

الأول: إعداد الشعب إعدادًا إسلاميًا وتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية، والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر.

والثاني: صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية وشيوع العدل والتكافل الاجتماعي.

والثالث: نبذ الخصومات المذهبية وتعبئة القوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد وقيادة متكاملة متعاونة.

والرابع: ازدهار الحياة الاقتصادية وإقامة المنشآت والمرافق العامة.

والخامس: بناء القوة العسكرية والعناية بالصناعات الحربية.

والسادس: القضاء على الدويلات المتناثرة في بلاد الشام وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية [22].

هذه الخطة الشاملة أصبحت بمثابة إستراتيجية، لبناء دولة موحدة قوية ذات سيادة واستقلالية، حتى باتت اللبنة الأولى وحجر الأساس، لاسترجاع بيت المقدس لاحقًا، إذ بعد فترة من الإصلاح والترشيد والتوجيه، بمختلف المجالات العقدية والمنهجية والسلوكية والتربوية، ظهر وبرز جيل من القادة بمختلف النواحي في الدولتين (الزنكية والأيوبية ).

 

تميزت هذه الدولة بصفات عامة أبرزها:

1- الصبغة الإسلامية للقيادات السياسية والإدارية والعسكرية، بالتزامهم العقيدة والتربية الإسلامية، كنهج وسلوك عام، كيف لا وقد كان قائد الدولة نور الدين زنكي رحمه الله تقيًا زاهدًا ورعًا، حتى عده المؤرخون سادس الخلفاء الراشدين، وكان يسمى تقي الملوك ليث الإسلام ناصر أمير المؤمنين، وكذلك صلاح الدين كان فقيهًا حافظًا لكتاب الله، ومساعدوهم أيضا كانوا على مستوى من الورع والتدين والتقوى والعلم، إذ كان مستشار ووزير وكاتب صلاح الدين القاضي الفاضل عبد الرحيم العسقلاني، الذي قال عنه صلاح الدين مقولته العظيمة: "لم نفتح البلاد بسيوف الجند إنما بقلم القاضي الفاضل"!!

2- الزهد والتعفف وبذل المال في الصالح العام، حتى أصبحت سمة غالبة لقادة الدولة والإدارة والسياسة والجيش، إذ كان نور الدين زنكي مقتصدًا بالإنفاق على نفسه وأسرته، حتى قيل إن أدنى الفقراء في زمانه كان أعلى نفقةً من نور الدين، وذات يوم شكت له زوجته قلة النفقة، فقال: من أين أعطيها ما يكفيها؟ والله لا أخوص في نار جهنم في هواها!! إنما هي أموال المسلمين مرصدة لمصالحهم وأنا خازنها فلا أخونهم فيها!! وهكذا كان صلاح الدين مات ولم تجب عليه الزكاة قط لأن الصدقة استنفذت أمواله كلها، وكذا وزيره وقادة الجيش.

3- توفير الأمن والعدل واحترام الحرمات العامة، حتى وصف ابن الأثير الملك العادل نور الدين، أنه كان قصر ليله ونهاره على نشر العدل وإزالة المظالم، ومن شدة عدله لم يعاقب على المظنة والشك، حتى كان له دارًا للعدل بمثابة محكمة الاستئناف العليا ويذكر أنه أول من فعل ذلك، وكذا صلاح الدين كان يجلس للعدل يومي الإثنين والخميس بحضور الفقهاء، يصل إليه الكبير والصغير والشيخ العجوز.

4- توفير النقد البناء وحرية الرأي المنضبط ومنع روح التزلف والنفاق للمسؤولين، حتى منع نور الدين خطباء المساجد الذين يبالغون في الدعاء له ووصفه بعبارات رنانة!!

5- رعاية أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، من خلال توفير الإقامة لهم والتعليم في مدارس أنشأت، ثم إعادتهم للثغور والمرابطة، واشتغال العلماء والخريجون في تلك المدارس، ومشاركة العديد من التلاميذ في الجيش والجهاد العسكري وميادين السياسة.

6- ازدهار الحياة الاقتصادية والعمل، حتى أزال كل من نور الدين وصلاح الدين الضرائب والمكوس عن كافة البلاد، وقاما بتشجيع النمو الاقتصادي، فنشط الناس للعمل وأخرج التجار أموالهم للتجارة، حتى أصبحت الجبايات الشرعية أضعاف المكوس سابقًا! وبنيت الفنادق والقناطر والجسور والأسواق التجارية وازدهرت الصناعات المختلفة والزراعة.

7- إقامة المنشآت والمرافق العامة بجميع المدن والقرى، حتى بنى نور الدين في الشام مستشفى لم يبن في الشام مثله قبله ولا بعده كما وصفه ابن كثير، ووقف أوقافًا بمختلف نواحي وجوانب الحياة.

8- بناء قوة عسكرية تستمد أصولها وبرامجها ومناهجها ومفاهيمها من توجيهات القرآن والسنة النبوية، وآثار الأئمة الذين رافقوا الفتوحات الإسلامية، وكذلك تطوير الصناعات الحربية وإعداد الجيش والقوات المسلحة، من حيث التدريبات العسكرية والإعداد العقدي على مبادئ الجهاد، وتنمية الإرادة على التضحية والتفاني.

ثم عزم نور الدين على فتح بيت المقدس، وصنع منبرًا للمسجد الأقصى، لكن وافته المنية قبل تحقيق ذلك، فسار على خطاه كبير رجاله وواليه على مصر القائد صلاح الدين، إلى أن حررها من الصليبيين.

هذه هي طبيعة الإستراتيجية التي عملت نصف قرن كامل، وهيأت المجتمع الإسلامي لمواجهة الأخطار التي أحدقت به، ومن طبيعة هذه الإستراتيجية نخلص إلى القول أن كلا من نور الدين وصلاح الدين كانا طليعة جيل مر بعملية تغيير لها برامجها ومؤسساتها ورجالها: تغيير ما ران على القلوب من أغلال فكرية وآصار ثقافية وقيم وتقاليد وعادات، فتغيرت نتيجة لذلك اتجاهاتهم وممارساتهم وإدارتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، وانتهى ذلك كله إلى إحلال الوحدة محل الفرقة، والقوة محل الضعف، والاستقرار بدل الاضطراب، والشعور بالمسؤولية بدل الأنانية، والانتصار بدل الهزائم [23].

 

الخلاصة:

مما مضى نخلص إلى أن الوحدة الإسلامية واتحاد الدول فيما بينها، الأصل فيه أنه ضرورة شرعية حثنا الله سبحانه عليها في غير ما آية وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا لا يتحقق بمجرد التنظير والتمني والرغبات الفردية، كما أنها هدف عقلي ومنطقي وكما يقال الاتحاد قوة.

وحتى نصل لهذا المطلب الشرعي العقلي المنطقي، لا بد من تصور الآليات والوسائل والمقدمات لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فنحتاج للسير على المنهج الرباني والأخذ بالأسباب وسلوك السنن الكونية في حقيقة قيام ونهوض الأمم والمجتمعات.

ولا بد من الاستفادة من المدارس الإصلاحية والنهضة العلمية والتربوية والسلوكية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، في زمن الدولتين الزنكية والأيوبية، لأن ملابسات وظروف تلك الحقبة قريبة جدًا وشبيهة بوقتنا الحاضر وما تمر به الأمة الإسلامية من فتن وحروب وضعف ووهن.

فتحقيق الاتحاد الإسلامي واقعي إذا تهيأت الأرضية لذلك، وحقيقة إذا صدقت النوايا، ويمكن تنفيذه بالشروط والضوابط المذكورة أعلاه، والتاريخ يثبت أن تحقيق هذا المطلب -كما أسلفنا- هو حجر الأساس وخطوة مهمة في طريق تحرير بيت المقدس.

الفرقة التي تمر بها الأمة والتشرذم بسبب الضعف والهوان والانهزام النفسي الداخلي، وعدم استشعار المسؤولية والأهم من ذلك ابتعاد المسلمين عن كتاب ربهم وترك العمل به، يقول سبحانه: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] فعِزُنا بالتمسك بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، قولًا واعتقادًا وسلوكًا وتطبيقًا وعملًا.

ولتحقيق تلك الوحدة المنشودة المطلوبة المرجوة، لا بد من خطوات عملية تمهد لهذا الأمر العظيم، ومن غيرها نكون كالذي (ينفخ في قربة مزروفة):

1- قبل كل شيء لا بد من نضوج وتأصيل علمي شرعي والترويج لها ولكل ما يسبقها من خطوات عملية، خصوصًا في ظل المتغيرات الهائلة التي يمر بها العالم بأسره، مع ترشيد للدعوة الإسلامية مما علق بها من شوائب وغبار، فلا بد من مراجعة عقدية ومنهجية وسلوكية شاملة وجريئة وصريحة وفاعلة.

2- ضرورة استشعار المسلمين بالخطر الذي يتهددهم في كل مكان، والاستفادة من دروس الماضي والتاريخ، وخطورة المرحلة القادمة على مستقبلهم إذا لم ينتبهوا.

3- إيقاظ الشعور الديني لدى عامة المسلمين واستنهاض الهمم من أجل العمل لهذا الدين.

4- غرس ثقافة التضحية في نفوس المسلمين، ولا رفعة وانتصار بلا تضحية.

5- نشر العدل في ربوع الدول الإسلامية لأن الإسلام لا يدوم مع الظلم.

6- إيجاد أرضيات ملائمة لتهيئة النفوس وتحمل مسؤوليتها لحمل هذه الرسالة.

7- العمل على إصلاح المؤسسات الثلاث (السياسية والعسكرية والخيرية)، وتهيئتها لأن تكون بكفاءة عالية ومهنية، بعيدًا عن أي مصالح فئوية أو إثنية أو عنصرية.

8- إعادة الثقة الضائعة بضرورة تبوء المسلمين مركز القيادة وصدارة المشهد في العالم.

9- التدرج في إصلاح المجتمعات وضرورة التخصص وتوزيع الأدوار كل بحسبه.

10- العمل على أن تكون دولنا الإسلامية دول هداية لا جباية!

11- الاستقلالية في صنع واتخاذ القرار بعيدًا عن أي تبعية للغرب وغيرهم.

12- التعامل مع النوازل والقضايا المصيرية بتأصيل علمي شرعي موضوعي بعيدًا عن ردود الأفعال والحماسة المؤقتة لأنها لا تبني مجتمعًا ولا تنكأ عدوًا.

13- العمل على إخراج جيل يستشعر الهموم ويتحمل المسؤولية يبذل الغالي والرخيص من أجل دينه وقضيته وعزته.

14- ينبغي أن يقود الأمة فقهاء يفقهون قوانين بناء الأمم وانهيارها، لا خطباء ومفوهون يتلاعبون بالعواطف والمشاعر، تبقى شعاراتهم ودعواتهم في إطار الأماني، فإذا وقعت النازلة حاصوا حيصا ولم يفقهوا ما يقومون به وأحلوا قومهم دار البوار.

 

--------------------------------------

[1] الأنعام:6.

[2] البداية والنهاية ط إحياء التراث( 7/49).

[3] آل عمران:103.

[4] تفسير القاسمي.

[5] ماذا قدم المسلمون للعالم( 1/13).

[6] إلى الإسلام من جديد، ص46.

[7] البقرة:195.

[8] الكامل في التاريخ( 10/333).

 [9] آل عمران:110.

[10] الأنبياء:92.

[11] آل عمران:105.

[12] آل عمران:103.

[13] صحيح مسلم.

[14] النور:55.

[15] مكايد اليهود عبر التاريخ، ص106.

[16] مكايد اليهود عبر التاريخ، ص273.

[17] المصدر السابق.

[18] المصدر السابق.

[19] من كلام د. حسين مؤنس في كتابه (نور الدين محمود) نقلًا من كتاب: (هكذا ظهر جيل صلاح الدين)- د. ماجد عرسان الكيلاني ص89.

[20] هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص91-92.

[21] من كلام لأبي الحسن الندوي رحمه الله في مقال بعنوان (المد والجزر في تاريخ الإسلام).

[22] المصدر السابق، ص255-256.

[23] هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص307-308.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام