خطوات في التربية - (8) المملوك ليس حرًا (1)

منذ 2015-05-06

فمن نظر إلى ربه تعالى ونظر إلى نفسه علم أنه مخلوق، ومن علم أنه مخلوق علم أنه مملوك، والمملوك لا يتصرف كما يريد، بل كما يريد سيده، وعليه فيجب أن يبحث عن مراد سيده.

المملوك ليس حرًا (1)

القلق من الدنيا والتجافي عنها وعدم الاطمئنان إليها باب للرحيل إلى الله تعالى والهجرة إليه، فيعيش بنفسية الغريب وشخصية المهاجر، ويتخفف من حمل الدنيا ويجمع همه على الدار الآخرة.

لكن كما أن الرحيل من هذه الدار باب للولوج على الله تعالى، فالوقوف على معنى العبودية ومعرفة العلاقة بالله تعالى باب آخر إليه، وهو باب يقتضي الهجرة من داعية النفوس وأهوائها وشهواتها إلى رسم العبودية، وهو الإجابة على سؤال سائل: "لماذا نعبد الله ولماذا نُلزم بذلك؟ فالإجابة الأولى لأننا مِلكه وعبيده.

فمن نظر إلى ربه تعالى ونظر إلى نفسه علم أنه مخلوق، ومن علم أنه مخلوق علم أنه مملوك، والمملوك لا يتصرف كما يريد، بل كما يريد سيده، وعليه فيجب أن يبحث عن مراد سيده.

والله تعالى لم يعط العبد شيئًا دون شيء، ولم يشترك في العطية مع الله تعالى أحد.

فالله تعالى هو: {الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه:50] لم يعطه شيئًا دون شيء بل أعطاه {خَلْقَهُ} يعني وجوده، وذاته، وإدراكه لذاته، وتميزه، وخصائصه، وشعوره، وكينونته، وشخصيته، أعطاه طموحه وآلامه وأتراحه وأفراحه، ثم أعطاه طريقة حياته وتكيّفه معها {ثُمَّ هَدَىٰ}.

لم يكن الانسان شيئًا مذكورًا بل كان عدمًا محضًا، والله تعالى هو الذي أعطاه وجوده وذِكره {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان:1].

وعلاقة الله تعالى بك علاقة عميقة جدًا، منذ عالم الذرّ {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172].

ومنذ سبْق أوّليته تعالى، فقد كتب في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض؛ كتب وجودك وعمرك ورزقك وأجلك.

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6]، وهو عليم بكل ما تمر به جنينا في بطن أمك {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32].

وهو الذي أعطاك جوارحك {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78].
وبعدها كان قيومًا عليك في رزقك من كل شيء حتى الوفاة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ ۚ} [الروم:40].

فمن نظر في الأمر وتدبر علم أنه مملوك، والمملوك لا بد أن يتقيد بأمر مالكه فهو ليس حرًا في التصرف، ولذا فلا بد من التربية على منهجه تعالى.

تاب رجل عاصٍ لما سُئل حر هو أم عبد؟ فقيل له حرّ، فقال: الحر يفعل ما يشاء، فأدرك المذنب الأمر وقال: بل عبد بل عبد، وكانت توبته (التوابين، جـ 1، ص 210)

وآخر يقول: "لولا أنى أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد كان قبلى لأوصيت أهلى إذا أنا مت أن يقيدوني وأن يجمعوا يدى إلى عنقي فينطلقوا بى على تلك الحال حتى أدفن كما يصنع بالعبد الآبق" (صفة الصفوة جزء 3، صفحة 288).

إن استشعار العبودة والمملوكية المتصفة بها كل نفس، لله تعالى، تجعل العبد يعيش عبدًا، ومن عاش عبدًا لم يعش متبطلًا فارغًا غافلًا عما يريد الملك سبحانه.

فكما تقلقك الدنيا بآفاتها وكروبها وفنائها، فلتقلق أيضًا أنك عبدٌ مطالَب بوظائف العبودية والتقيد بشرفها، فإنها عبودية للخالق وهي أشرف حال للعبد وأنفسها وخيرها وأزكاها.

يتبع إن شاء الله تعالى.

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 1
  • 1
  • 2,137
المقال السابق
(7) مثل الدنيا، والتفكير فيها!
المقال التالي
(9) المملوك ليس حرًا (2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً