وحي القلم

منذ 2015-05-13

حديثنا اليوم من مقدِّمتين قصيرتين مهمتين لكتاب (وحي القلم)؛ لعبقري البيان العربي في العصر الحديث، مصطفى صادق الرافعي رحمه الله

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حديثنا اليوم من مقدِّمتين قصيرتين مهمتين لكتاب (وحي القلم)؛ لعبقري البيان العربي في العصر الحديث، مصطفى صادق الرافعي رحمه الله أما المقدمة الأولى، فهي للأديب الكبير الأستاذ محمد سعيد العريان رحمه الله حَوارِيِّ الأديب الراحل، وتلميذه الأوفى، ولا تَزيد صفحاته على الثلاث إلا قليلاً، وأما الثانية، فهي لصاحب الكتاب، وصفحاتها تَنقُص عن الثلاث قليلاً، وقد شاء الناشر أن يضع على صفحة العُنوان الداخليَّة رأي الزعيم الوطني المصري سعد زغلول في الكتاب، وفي صفحة تليها رسالة الشيخ محمد عبده إلى المؤلِّف، فكانت رسالة لا تَزيد على خمسة أسطر، قال فيها: "ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي زاده الله أدبًا! لله ما أثمر أدبك، ولله ما ضَمِن لي قلبك، لا أُقارِضك ثناءً بثناء؛ فليس ذلك شأن الآباء مع الأبناء، ولكني أعدُّك من خُلَّص الأولياء، وأُقدِّم صفَّك على صفِّ الأقرباء، وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يَمحَق الباطل، وأن يُقيمك في الأواخر مقامَ حسَّانٍ في الأوائل، والسلام"، والرسالة مؤرَّخة في الخامس من شوال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف، الموافِق للخامس والعشرين من ديسمبر سنة ثلاث وتسعمائة وألف؛ أي: قبل أكثر مِن تِسعين عامًا من الآن.

يقول محمد سعيد العريان في تصديره لوحي القلم: "هذا آخِر كتاب أنشأه الرافعي، ففيه النفحة الأخيرة من أنفاسه، والنبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وِجدَانه، أفرأيتَ الليل المُطبق كيف تتروَّح نسماته الأخيرة بعبير الشجر، وتتندَّى أزهاره في نسيم السحر؟ ألا وإنه -إلى ذلك- أوَّل كتاب أنشأه على أسلوبه وطريقته؛ فقد عاش الرافعي ما عاش، يكتب لنفسه، ويَنشُر لنفسه، لا يعنيه مما يكتب ويَنشُر إلا أن يُحيل فكرةً في رأسه، أو لمحة في خاطره، أو خفْقة في قلبه - إلى تعبير في لسانه، أو معنى في ديوانه، ولا عليه بعد ذلك أن يتأدَّى معناه إلى قارئه كما أراده، أو يُغلَق دونه، فلما اتَّصل سببه بمجلة الرسالة (وكان ذلك قبيل موته بثلاث سنوات) رأى لقارئه عليه حقًّا أكثر من حقِّ نفسه، فكان أسلوبُه الجديد الذي أنشأ به هذا الكتاب.

على أن هذا الكتاب -وشأنُه ما قدَّمت- يجمع كلَّ خصائص الرافعي الأدبية متميِّزةً بوضوح، فمَن شاء فليقرأه دون سائر كتبِه، فسيَنكشِف له الرافعي في سائر كتبه. والأديب الحق تَستعلِن نفسُه بطريقتها الخاصة في كل زمانٍ ومكان على اختلاف أحواله وما يُحيط به.

والرافعي -عند طائفة من قرَّاء العربية- أديب عَسِر الهضْم، وهو عند كثير من هذه الطائفة - مُتكلِّف لا يَصدُر عن طبْع، وعند بعضهم مُعمى لا تَخلُص إليه النفس، ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب وذوي الذوق البياني الخالص أديب الأمة العربية المُسلِمة؛ يُعبِّر بلسانها، ويَنطِق عن ذات نفسها، فما يَعيب عليه عائبٌ إلا من نقصٍ في وسائله، أو كُدرة في طبْعه، أو لأن بينه وبين طبيعة النفس العربية المسلمة التي ينطق الرافعي بلسانها حجابًا يُباعِد بينه وبين ما يقرأ روحًا ومعنًى.

فمن شاء أن يقرأ ما كتب الرافعي ليتذوَّق أدبه، فيأخذ عنه، أو يَحكُم عليه، فليَستوثِق من نفسه قبل، ويستكمِل وسائله، فإن اجتمعت له أداته من اللغة والذوق البياني، وأَحسَّ إحساس النفس العربية المسلمة فيما تُحب وما تَكره وما يَخطر في أمانيها، فذوقُه وحكمه حُكْم، وإلا فليُسقِط الرافعيَّ من عِداد مَن يقرأ لهم، أو فليُسقِط نفسَه من عِدادِ هذه الأمة".

ويَمضي محمد سعيد العريان قائلاً في مقدمته: "على أنه إذا حُقَّ لنا أن نُرتِّب كتبَ الرافعي ترتيبًا يُعين قارئه على تذوُّقه أو دراسة أدبه، فإن (وحي القلم) في رأس هذا الثَّبَتِ، هو آخِر ما أنشأ، ولكنه أول ما يَنبغي أن يُقرأ له، وإن البَدء به لحقيق أن يُعوِّد قارئه أسلوب الرافعي، فيَسلُس له صعبُه ويَنقاد.

والكتاب - كما يُشعِر به عُنوانه - هو مجموعة فصول ومقالات وقَصص من وحي القلم وفيض الخاطر في ظروف مُتباينة، وأكثره ما كتبه لمجلة الرسالة، ولكلِّ فصل أو مقالة أو قصة من هذه المجموعة سبب أوحى إليه موضوعها، وأملى عليه القول فيها، ولقد كنت على أن أُثبِت عند رأس كلِّ موضوع منها باعثه وحادثته، لعلَّ من ذلك نورًا يكشِف عن معنى مُغلَق، أو يوضِّح فكرة يَكتَنِفها بعضُ الغموض، ولكن بعض الضرورات قد ألزمتْني أن أقتَصِد في البيان هنا، اكتفاءً بما بيَّنته في موضعه، وأشرت إليه في هامش موضوعه.

وكما قلتُ من قبل: إن هذا الكتاب يجمع كلَّ خصائص الرافعي الأدبية متميَّزة بوضوح في أسلوبه، كذلك أقول هنا: إنه يجمع كل خصائصه العقلية والنفسية متميزة بوضوح في موضوعه؛ ففيه خُلُقه ودِينه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه تزمُّته ووَقاره، وفيه فُكاهته ومَرحه، وفيه غضبه وسخطه، فمَن شاء أن يَعرِف الرافعي عِرفانَ الرأي والفِكرة والمُعاشَرة، فليَعرِفه في هذا الكتاب".

ونأتي الآن إلى مقدمة الكتاب التي كتبها مؤلِّفه؛ يقول الرافعي رحمه الله: "نقْل حقائق الدنيا نقلاً صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب، وإظهارُها للحياة في أسلوبٍ آخَر، يكون أوفى وأدقَّ وأجمل؛ لوضْعه كل شيء في خاصِّ معناه، وكشْفه حقائق الدنيا كشفةً تحت ظاهِرها المُلتبِس، وتلك هي الصناعة الفنيَّة الكاملة: تَستدرِك النقص فتُتمُّه، وتتناول السرَّ فتُعلِنه، وتَلمَس المُقيَّد فتُطلقه، وتأخذ المُطلَق فتَحُدُّه، وتَكشِف الجمال فتُظِهره، وترفع الحياة درجة في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجَد لنفسه عقلاً يعيش به.

إن دورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورةُ خَلْقٍ وتركيب، تخرج بها الألفاظُ أكبرَ مما هي؛ كأنما شبَّت في نفسه شبابًا، وأقوى مما هي؛ كأنما كسَبتْ من رُوحه قوة، وأدلُّ مما هي؛ كأنما زاد فيها بصناعته زيادة، فالكاتب العِلمي تَمر اللغة منه في ذاكرة، وتَخرُج كما دخلت عليها طابَعُ واضعيها، ولكنها من الكاتب البياني تمرُّ في مصنَع وتَخرج عليها طابَعه هو، أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبةٍ ساميةٍ، وهؤلاء عَلَوا بها إلى أسمى مراتبها، وأنت مع الأوَّلِين بالفِكر، ولا شيء إلا الفِكر والنظر والحكم، غير أنك مع ذي الحاسة البيانيَّة لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي".

ويَختِم الرافعي رحمه الله مقدمته قائلاً: "وربما عابوا السموَّ الأدبي بأنه قليل؛ ولكن الخير كذلك، وبأنه مُخالِف؛ ولكن الحق كذلك، وبأنه مُحيِّر؛ ولكن الحَسَن كذلك، وبأنه كثير التكاليف؛ ولكن الحرية كذلك.

إن لم يكن البحر فلا تَنتظِر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تَنتظِر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب".

وإلى الملتقى في مقدمة أخرى لكتاب آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 1
  • 0
  • 5,087

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً