النظر إلى الدنيا باعتبارات الملدوغ والفائز

منذ 2015-05-14

الناظرون إلى الدنيا، تتعدد نظرتهم إليها لاعتبارات.. من نظر إليها في حالة من الاتزان وقد يصاحبها لحظات توقف الشهوات، إما لشدة إشباع أو لشدة يأس أو ما هو قريب من ذلك، فشدة الإشباع كشدة اليأس، وعندها ينظر الناظر فيراها منغصة مكدرة آلامها أكثر من أفراحها، لذّاتها منغصة ومشوبة بالأكدار ومسبوقة وملحوقة بالأكدار كذلك، والمتعة فيها لا تدوم، وهي متقلبة عمومًا..

الناظرون إلى الدنيا، تتعدد نظرتهم إليها لاعتبارات..
(1) من نظر إليها معتبرا ما فيها من الشهوات فغمرته، وكلما نال منها طلب المزيد كشارب الماء بالملح لا يرتوي ولا يشبع ولا يتلذذ! وهذا أخذته لذة، وأدّت به من شهوة إلى أختها، حتى يُمْسي في غمرة كما قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا} [المؤمنون من الآية:63]، يعني في غمرة من الشهوات والغفلة بحيث لا ينتبهون ولا يفكرون في أمر الآخرة.

والذي غمرهم عن هذا هو كثرة الشهوات المتتابعة وهذا قد يفيق بموعظة، أو بلاء أو هزة عنيفة، أو لا يفيق إلا مع موته عندما يعاين الملائكة ولا ينفعه حينئذ، ومثل هذا لا يشبع "ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب"، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن تشعبت به الهموم في الدنيا لم يبال الله تعالى في أي أوديتها هلك» (ابن ماجه)، وقال تعالى في شأن من أفاق عند معاينة العذاب: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85].

(2) من نظر إليها في حالة من الاتزان وقد يصاحبها لحظات توقف الشهوات، إما لشدة إشباع أو لشدة يأس أو ما هو قريب من ذلك، فشدة الإشباع كشدة اليأس، وعندها ينظر الناظر فيراها منغصة مكدرة آلامها أكثر من أفراحها، لذّاتها منغصة ومشوبة بالأكدار ومسبوقة وملحوقة بالأكدار كذلك، والمتعة فيها لا تدوم، وهي متقلبة عمومًا، يعتور الإنسان فيها الخليطان من الفرح والشدة، ومن لم يُصَب في نفسه قد يُصاب فيمن يحب، فثمة قلق لا ينتهي، يرقب كل لحظة قادمة، ولحظات الغفلة تعقبها إفاقة مؤلمة بل قد يتعجب من ذهاب الناس وإيابهم في وحرصهم على ما لا يُحرص عليه.

مثل هذا النظر قد يؤدي إلى الزهد فيها والنظر إلى دار أخرى، والخشية أن لا تكون الآخرة حاضرة في حسه إما لعدم معايشة أو لعدم إيمان بها من الأساس، وهذا الحال قد يؤدي بصاحبه إلى توديعها وتركها إما منزويًا أو مستهينًا بها فيفسدها، وإما منتحرًا أو باحثًا عن طريقة غير مؤلمة للموت، وهنا يأتي دور جمعيات الموت الرحيم! لتقوم بدورها المنشود أحيانًا!

(3) من نظر إليها من الآخرة -وعدّ نفسك في أهل القبور-، فنظر إليها من داخل القبر وهو ما زال فيها، فهذا أسعد الناس، فلا يكون عبرة يُعتبر به، بل اعتبر هو بمن مضى واعتبر هو بنفسه؛ فاستدرك أمره وقاس الأمور كأنه رحل إلى الآخرة وتمنى العودة إلى الدنيا فعاد، والمقصود بهذا النظر أن يتذكر مثل هذا الرجل الذي يرتفع درجة في الجنة فيسأل بم ذاك؟ فيقال له: "بدعوة ولدك لك".

وكذلك من يرتفع درجات بأثر عمله عندما يؤثر ويؤتي ثمرته فيعمل أحد بعمل صالح أو أثرٍ تركه صاحبه، أو يستفيد أحد بشيء نافع، بأثر تركه كمسجد أو ماء أو ظلة، أو ما هو أعظم من ذلك من نظام صالح أو عدالة وطدها أو غير ذلك، وفي هذه النظرة يعلم الإنسان قيمة الدنيا، وقيمة العمر، ويعرف لماذا قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، فأقسم تعالى بالعمر والزمن الذي يمر، ويعلم قيمة النعمة فيما قال تعالى مذكّرًا أهل النار بأعظم نعمه تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر من الآية:37]، ويعلم الإنسان أن هذه الدنيا وهذه الأرض هي المجال الذي فاز بعض من عاش فيها فكان نبيًا أو رسولاً..

ومن عاش في الدنيا فخرج منها صِدّيقًا، وآخر خرج (شهيدًا) وآخر خرج بوصف (تقيًّا)، وآخر (صالحًا) وآخر (برًّا) وآخر (سابقًا مقرَّبا)، وآخر (كريمًا جوادًا) وآخر (شكورًا) وآخر (صبورًا) كمن قال تعالى فيه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص من الآية:44]، وآخر قال الله فيه: {نِّعْمَ الْعَبْدُ} [ص من الآية:44]، وآخر يسلم الله عليه: {سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79]، {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام من الآية:54]، {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:91]، وآخر يتخير من الحور ما يشاء لكظم غيظ، وآخر رفع لدرجة الصائم القائم لحسن خلقه..

وآخر يتكلم عن الله تعالى مبلغًا دينه ووحيه ويتكلم يوم القيامة كما تكلم في الدنيا: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل من الآية:27]، هذا ينال بحبوحة الجنة بلزومه الجماعة، وهذا له نور لو قسم على أهل الموقف لوسعهم ولم يكن معروفًا في الدنيا! لكن بسريرته وإخلاصه وخمول ذِكره في الدنيا، وهذه تزاحم رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب الجنة لأنها قعدت على أيتام لها، وذلك على منابر من نور على يمين الرحمن لأنه مقسط فيما ولي عليه، وآخرون على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء لأنهم متحابون بجلال الله هذا تحت ظل العرش، وذلك يُكسى حُلة الكرامة إلى آخر أنواع الخلق الفائز يوم القيامة..

هذه النظرة تجعل الدنيا فرصة ضخمة، وأعظم ما فيها وقتها، ومع الوقت فأعظم النعم الصحة، لأنها تمثل القدرة على العمل الصالح ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالغنى للمؤمن، والصحة خير للمؤمن من الغنى» (ابن ماجه)، وهاتان هما النعمتان المغبون فيهما كثير من الناس «..الصحة والفراغ» (رواه البخاري)؛ فالدنيا من هذه الجهة فرصة ومن هنا يقول الشاطبي: "أن بعض الكليات يكون النظر إليها من جهتين، جهة تمدح بها، وجهة تذم بها وأعطى مثالًا على الدنيا".

خير الأمور هو أن تكون النظرة الأخيرة هي المعتمدة، وأن تكون النظرة الثانية معتبرة من حيث تكفكف اندفاع الشهوات، وأن تكون النظرة الأولى ليست هي الأصل، ولكن يأخذ منها ويتناول بقدْر ما يسرّي نفسه ويجمّها ويعينها على الطاعة لتكمل سيرها إلى الله تعالى، فيتناول هذا القدْر بنية صالحة وبالحكم الشرعي ومن الجهة التي أذن الله تعالى، لا من جهة محرمة فيأخذ حظ نفسه من تحت إذن الشارع سبحانه وبالقدر الذي يعينه على الآخرة، والشارع تعالى لم يحرم الأخذ منها بل أباح منها واستحب ما يكون عونًا على الآخرة.

وهنا آيتان لا بد من اعتبارهما معًا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف من الآية:32]، فالمؤمن يأخذها بشرطها فأُذن له، وسكت عن الكافر وهو يأكل منها فهو لم يأكل منها بشرطها وهو التوحيد والإيمان، فذكر أنه يشترك مع المؤمن في الدنيا، ولم يأخذها بشرطها فسكت عنه، ثم قال أن الدنيا للمؤمن ليستعين بها على الآخرة بتحقيق وظيفة العبودية، خالصة له في الآخرة بأعظم منها، ويوضح هذا الآية الثانية وهي قوله تعالى فيما حكى عمن رضي مسلكهم ودعاءهم أنهم قالوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة من الآية:201].

يقول ابن كثير في تفسيرها: "فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام" (انتهى النقل)، ففي هذا الإطار تؤخذ شهوات الدنيا وتُتناول.

فمن استسلم للنظرة الأولى هلك، ومن استسلم للنظرة الثانية تلف وأفسد الحياة إن لم يتهيأ بها لطلب الآخرة، ومن أخذ بالنظرة الثالثة فاز، لكن إن لم يعتبر الأولى بقدْرها انقطع، وإن لم ينظر إلى الثانية كمُن حب الدنيا في قلبه، وقد ينقلب قلبه عليه في أي لحظة وقد يخونه في آخر أمره، ولهذا فمن الخير إعطاء النفس ما تكف به عن النظر إلى الدنيا وتستجم به فتطلب الآخرة وتسرع في طلبها، إلى أن تنصرف عن الدنيا حقيقة وييأس القلب منها عن قناعة وبلا تكلف فعندها يأخذ الدنيا من خلال التكليف الشرعي المحض.

فمن يئس من الدنيا فلم يرها مقصدًا، وأخذ منها ما يردّ نفسه وييسر عليه سير الآخرة، وجعل الهموم همًا واحدًا، هم المعاد {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص من الآية:77]، فهي الأصل، وهي المراد، لأنها المنزل والمستقر، فذاك الرابح من النظر إلى الدنيا واعتبارها من عدة جهات، والسعيد من وعُظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 3,446

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً