سَقْيُ الماء فضائل وطرائق

ظافر بن حسن آل جبعان

فتبريد الأكباد، وإطفاء حرارة الظمآن من أعظم الأبواب التي تقود إلى الجنان، ومن أسباب تكفير الآثام، وهو باب عظيم لإذهاب الأسقام، وبه تكون الصدقة جارية عن النفس والْوَالِدَيْنِ والْوِلْدَان.

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -

الحمد لله الذي جعل من الماء كل شيء حي، خلق الإنسان من نطفة فإذا هو حي، فأحياء بالماء كل حي، {اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45]، أشهد أن لا إله إلا الله أنزل الماء من السماء، وامتن على أهل الأرض بما يشربون، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ . لَوْنَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68-70]، أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وأشرفُ سلالة خلقت من ماء، أمر بسقي الماء، وحث عليه، وَرَغَّبَ فيه، وسابق إليه، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،

فإن الحديث عن أعمال البر حديث يبدأ ولا ينتهي، وفي هذه المقالة سيكون الحديث عن عمل يسير، وهو في الميزان جليل، هذا العمل سببٌ من أسباب النجاة، وبابٌ من أبواب البر والفلاح، قليلون من يفطنوا له، وأقل من القليل من يبادر إليه، بل إنه صلى الله عليه وسلم رَغَّبَ ورَغِبَ في هذا العمل في يوم الحج الأكبر، ومع رغبته فيه إلا أنه تركه، وما تركه صلى الله عليه وسلم إلا خشية أن يُقتدى به في ذلك الموضع، وفي ذلك مشقة لأهله، ومنازعة لهم، إن هذا العمل هو سقي الماء، وإرواء العطشان من بني الإنسان، وكذا الحيوان، يقول صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ (أخرجه مسلم:5791).

فتبريد الأكباد، وإطفاء حرارة الظمآن من أعظم الأبواب التي تقود إلى الجنان، ومن أسباب تكفير الآثام، وهو باب عظيم لإذهاب الأسقام، وبه تكون الصدقة جارية عن النفس والْوَالِدَيْنِ والْوِلْدَان.

هذا فضل سقي الماء، وتبريد الأكباد، بل إن أعظم ما ذكره الله في وصف الجنة إجراءُ الأنهار التي منها السِّقَاء والتلذذ، والشرب والإطعام، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد:15].

بل إن الله عز وجل عذب أهل النار بحرمانهم من الماء، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: "وفي هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال" (تفسير القرطبي:7/215).

في مشهد تعلوه الرحمة، وتكسوه الشفقة، ويُجلله البر بجلبابه الفضفاض، ويختمره الإحسان بدثاره الرقراق، في مشهد لرجل يجر الخُطى في الصحراء قد اشتد به عطشه، وتقرحت منه كبده، وبلغ به الظمأُ مبلغه، وهو يسير يتلمظ الماء، ويبحث عن السِقَاء، فإذا هو ببئرٍ في الصحراء فابتدرها ابتدار السَّبُع، فنزل فيها وشرب حتى ارتوى، فذاق العُذُوْبَة، وتلذذ بالماء، مع أن الماء لا طعم له على اللسان، إنما طعمه ولذته ببرودته على الأكباد.

وعندما أذهب الله ظمأه، وأشفى غليله خرج من البئر وهو يتذوق طعم الحياة،وكأنه لن يموت، فخرج وهو ينظر للحياة بنظرة أخرى قبل نزوله للبئر، وعندما كان يُقلب طرفه في الفضاء إذ بكلبٍ يَلْهَثُ الثَّرَى مِنَ شدة الْعَطَشِ، فبلغ به العطش أن أخذ يأكل التراب بحثًا عن الماء، فَتَأمَّل هذا الرجل في هذا المشهد، وقال: "لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي" -مع أن الكلب دابة نجسة محتقرة، لكنها خلق من خلق الله عز وجل ذات كبد رطبة- فرجع إلى البئر، ولكنه لم يجد ما يجعل الماء فيه، فهداه الله لِخُفِّه فملأه، وجاء إلى الكلب ثُمَّ سَقَاه، فشرب الكلب وهو يسابق نفسه.

وفي هذا المشهد الذي تجللت فيه معاني الرحمة في أسما صورها -فيكون الجزاء من جنس العمل- هنا تجلت رحمة الرحيم الرحمن، اللطيف الجليل، الذي يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فشكر سبحانه صنيع هذا الرجل، فرضي عنه، فغفر له ورحمه؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) .

بل الأعجب من هذا ما جاء في الصحيحين من أن امرأةً زانية سقت كلبًا فغفر الله لها، يقول صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ» -أي يدور حول بئر- «قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أي خفها- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»، فيا لله كم من نفحات لله لا يعلمها إلا هو جعلها للرحماء المخلصين من عباده.

قال بعض التابعين: "من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء" (تفسير القرطبي:7/215).

ألا وإن من فضائل سقي الماء على الظمأ أن يكون جزاؤه أن يسقيه الله من الرحيق المختوم في الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» (أخرجه أحمد:3/13، وأبو داود:1684، والترمذي:2449 عن أبي سعيد رضي الله عنه) .

فيا أيها الراغب في البر والأجر، وبذل المعروف والخير سابق إلى الصدقات الجارية، عن الآباء والأمهات، والبنين والبنات، والأنفس والذوات، واعلم أن من أعظم الصدقات: سقي الماء وإجراؤه، فهو من أفضل الأعمال، جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم»، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سَقْيُ الْمَاء» (أخرجه أحمد:6/7، وأبو داود:1683، والنسائي:3649، وابن ماجه:3684)؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى مُعَلِّقًا على هذا الحديث: "فدل على أن سقي الماء من أعظم القُرُبَات عند الله تعالى" (تفسير القرطبي:7/215).

ألا وإن من فوائد سقي الماء، أَنَّه سببٌ لعلاج الأمراض، وشفاء الأسقام بإذنه سبحانه يقول ابن شقيق: "سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك: اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله" (أخرجها البيهقي في الشعب:5/69)، فقد كان سقي الماء من هذا الرجل سببًا لشفائه بعد إذن الله سبحانه وتعالى.

وعلى المسلم أن يحذر أشد الحذر من البخل بالماء، أو منعه عمن يحتاجه، أو حبس فضل الماء عن زرع الغير، فإن فعل فإنه إذن من الآثمين، الموعود بغضب رب العالمين، والمطرود من رحمته التي وسعت كل شيء، يقول صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» وذكر منهم: «وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ» (متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) .

وعند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» وذكر منهم: «وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ».

 

وبعد بيان فضائل السقي والتحذير من منعه، فإليك وسائل وطرائق لسقي الماء، فالسبل لسقي الماء كثيرة منها:

1- السعي في حفر الآبار في الأماكن التي يحتاج إليها الناس،وهذا أمر ميسور، فَيُطِيْقُ الإنسان أن يحفر له بئرٌ بثمن بخس في بلد فقير معوز تجري عليه بركته وبره،يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلاَ إِنْسٍ وَلاَ طَائِرٍ إِلاَّ آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه البخاري في التاريخ الكبير:1/331، وابن خزيمة:1292 في صحيحه بسند صحيح).

2- توفير المضخات لتنقية المياه لتكون صالحة للشرب بدلاً من شرب المياه الآسنة كما في بعض الدول الفقيرة.

3- وضع الماء في المساجد؛ أو الأسواق أو الطرق وتعاهده، بل وعند البيوت، ولها أثر في حفظ البيت من السرقة لبركة الصدقة، ولكثرة الشاربين؛ جاء في (الترغيب والترهيب:964): أن الإمام الحاكم أصابته قرحة في وجهه قريبًا من السنة، فتصدق على المسلمين بوضع سقاية على باب داره، فشرب منها النَّاس، فما مر عليه أُسبوع إلا وظهر الشفاء، وعاد وجهه أحسن ما كان، وبرء بإذن الله.

4- حمل الماء في السيارة وتوزيعه على من يحتاجه؛ «فلَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ» كما روي عنه صلى الله عليه وسلم كما عند البيهقي في الشعب(5/67) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

5- وضع البرادات في الأماكن العامة وتعاهدها بالماء الصالح.

6- استغلال تجمعات الناس سواء في الحج أو العمرة، أو في اللقاءات التي يحتاجون فيها إلى الماء فيسابق للسقاية.

7- وضع ماء في إناء للهوام والدواب، وللطير والكلاب، فـ«فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» .

أخيرًا، فإن أعمال الخير، وأبواب البر ميسورة، وليس على العبد إلا أن يُبادرَ للإحسان، ويسابق لبذل المعروف، وفعل الخيرات.

أسأل الله أن يجعلنا من أهل الإحسان، وأهل البر والتقوى والعفاف، وأن يجنبنا الفتن والآثام إنه سميع مجيب.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182].

المصدر: الموقع الرسمي للشيخ