وقفات تدبرية في سورة السجدة - (21، 22)

منذ 2015-06-06

مهما تنعم الكافر في هذه الدنيا وملذاتها النعيم الزائل، فلا شك ولا ريب سيتعرض لفتن وعذاب ومصائب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [1].

وَالله {لَنُذِيقَنَّهُمْ} ولنصبن عليهم في دار الابتلاء {مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى} الأنزل الأسهل مثل القحط والطاعون والوباء والقتل والسبي والزلزلة وأنواع المحن والبليات التي هي أسهل وأيسر بمراحل {دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ} عند عذاب الآخرة الذي هو في غاية الشدة ونهاية الألم والفظاعة. وإنما أخذناهم بما أخذناهم في النشأة الأولى {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مما هم عليه من الكفر والشقاق ويتفطنون عنها إلى كمال قدرتنا واقتدارنا على إضعافها وآلافها ومع ذلك لم يتفطنوا ولم يرجعوا عن غيهم وضلالهم بل قد أصروا واستكبروا عدوانا وظلما [2].

 

ومن هداية الآية:

فى التأويلات النجمية: يشير إلى أرباب الطلب وأصحاب السلوك إذا وقعت لأحدهم فى أثناء السلوك وقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة نفس، أو لحسبان وغرور قبول، أو وقعت له فترة بالتفاتة إلى شيء من الدنيا وزينتها وشهواتها فابتلاه الله إما ببلاء فى نفسه أو ماله أو بيته من أهاليه وأقربائه وأحبائه لعلهم بإذاقة عذاب البلاء والمحن انتبهوا من نوم الغفلة وتداركوا أيام العطلة قبل أن يذيقهم العذاب الأكبر بالخذلان والهجران وقسوة القلب كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [3].

في الآية إشارة إلى أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [4].

ما يصيب الكافر أو المسلم في الدنيا من بلاء فهو مظهر من مظاهر رحمة الله، حتى يعودوا ويتوبوا ويستيقظوا من غفلتهم. قال ابن عباس: "مصائب الدنيا وأسقامها وبلائها مما يبتلي به الله العباد حتى يتوبوا".

وهذا أيضا مما يولد اليقين في القلب ويكسر النفس ويوقظها من غفلتها. إذا أصيب الإنسان بمرض بوفاة قريب، يتيقن أن هذا أمر الله فيصبر ويرجع إلى الله.

مهما تنعم الكافر في هذه الدنيا وملذاتها النعيم الزائل، فلا شك ولا ريب سيتعرض لفتن وعذاب ومصائب، وهذا ما يبينه الفهم العميق الدقيق لقوله عليه الصلاة والسلام: «الدُّنيا سِجنُ المؤمنِ وجنةُ الكافرِ» [5].

من هداية الآية في قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أن تكون النصيحة لأجل الهداية والإصلاح والحرص على الخير للناس، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، لا أن تكون فضيحة وتنقُّص وتعالي ورياء، وتظاهر بالعلم والمعرفة والتقوى والصلاح، وإظهار الآخرين بالجهل والانحراف!

وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالتها ظاهرة، فإنه قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} أي: بعض وجزء منه، فدل على أن ثم عذابًا أدنى قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب النار[6].

ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا، قد لا يتصل بها الموت، فأخبر تعالى أنه يذيقهم ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [7].

في الدنيا لا بد وأن يعذب الله الكافر بما يبتليه من مصائب بحرمان، وعدم الاطمئنان وانعدام الراحة والركون إلى الله، لا يستريح مهما حصل من مال وبنين وفي قلبه عدم الراحة.

قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [8].

{وَمَنْ} للاستفهام الإنكاري، وكأن الله سبحانه يعرض علينا القضية في صورة السؤال التقريري. بعد أن بين ربنا سبحانه صنف الكفار وما يصيبهم من محن ولئواء وعذاب في الدنيا، مع ذلك يصرون على استكبارهم وعنادهم وعدم انتفاعهم من تلك المُخَوِّفات؛ أشار إلى أن هذا الصنف من أقبح الناس وأكثرهم جرمًا وظلمًا لعدم استجابتهم لآيات الله الكونية والشرعية.

ونحن مقبلون على شهر القرآن نكثر من تلاوته وتمر علينا آياته من القصص والعبر والمواعظ والحلال والحرام، فهل اتعظنا وتذكرنا؟!! أم أنها مرت دون أن تلقى حسن استماع وتدبر وتأمل ثم انتفاع وعمل!!

{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} أي: إنا من مقام قهرنا وقوتنا وجلالنا وعظمتنا وجبروتنا من المجرمين المصرين على كفرهم وظلمهم وجرائمهم وآثامهم؛ منتقمون منهم على أبلغ وجه وأشد الانتقام من عموم المجرمين الظالمين.

من هداية الآية:

أن سماع آيات الله وقيام الحجة على الخلق، ثم عنادهم واستكبارهم من أعظم الظلم وجريمة ما بعدها جريمة.

ينبغي لمن سمع التذكير والحجج والبراهين الاستجابة بسرعة أيا كان مصدر التذكير، بخلاف الكفار الذين قالوا تكبرا وهوى وعنادا {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [9].

الآية فيها مبالغة في التخويف من قوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} فالله سبحانه ينتقم من جميع المجرمين الظالمين، فكيف بمن هم أشد ظلمًا وجرمًا منهم؟!

الله سبحانه وتعالى سمى تارك الصلاة مجرم فقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ . إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ . فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ الْمُجْرِمِينَ . مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [10]، فلست أنا ولا الهيئة الفلانية أو المجمع الفقهي أو الإفتاء من أطلق هذا الوصف، بل غلام الغيوب، فهل من مدكر؟!

فكل من ذكر بآيات ربه ثم أعرض مستكبرًا ونسيها ولم يتدبرها أو يعمل بمقتضاها فهو مجرم بنص هذه الآية!

الظلم من أقبح الأمور لذلك حرمه الله على نفسه وجعله بيننا محرمًا، فينبغي للعاقل أن يتذكر أحوال الظالمين ومآلهم ومصيرهم حتى يكون له مانع من اقترافه!

{ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} فالقرآن أعظم مُذكِّر فهو نور مبين وهداية للعالمين، قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].

اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

-----------------------------

[1]السجدة:21.

[2]الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.

[3]روح البيان.

[4]الشورى:30.

[5]صحيح مسلم.

[6]السعدي.

[7]السعدي.

[8]السجدة:22.

[9]الزخرف: 31.

[10]المدثر: 38-43.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 5
  • 1
  • 8,237
المقال السابق
(18-19)
المقال التالي
(20)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً