وقفات شرعية مع الحجر العجيب

منذ 2015-07-01

فقد انتشر في هذه الأيام خبر حجر من الأحجار عليه بعض الرُسُومات والنُّحُوت التي تُوْحِي بأشكال ومسميات، وقد قام بعض الأفاضل بإخراجه للناس بقصد بيان عظمة الله فيه، ودعوتهم للتفكر في خلق الله وتعظيمه من خلال هذا الحجر، وهذا قصد حسن، لكن ليس كل قصد حسن يكون صاحبه مصيبًا.

الحمد لله الذي سنَّ الدين وقَوَّمه، وشرع الشَّرَع وأحكمه، وأكمل الدين وعظَّمه، ونهى عن الشرك وغلَّظه، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين من أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فَأَظْهَرَهُ، وأَيْدَهُ بالقرآن وسدده، فكان بالحق قائماً، وبالشهادة صارماً، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فقد انتشر في هذه الأيام خبر حجر من الأحجار عليه بعض الرُسُومات والنُّحُوت التي تُوْحِي بأشكال ومسميات، وقد قام بعض الأفاضل بإخراجه للناس بقصد بيان عظمة الله فيه، ودعوتهم للتفكر في خلق الله وتعظيمه من خلال هذا الحجر، وهذا قصد حسن، لكن ليس كل قصد حسن يكون صاحبه مصيبًا.

وحيث أنه انتشر خبر هذا الحجر وتناقلته وسائل الإعلام المرئية والمقروءة فكان لي مع هذا الحجر الذي لا ينفع ولا يضر بعض الوقفات:

الوقفة الأولى:

إن الله  عز وجل  قد أكمل الدين، وأتم النعمة، ودليله قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]. فالزيادة في الدين بعد تمامه نقص له كما أن النقص فيه نقص، ولذلك من أحدث في الدين بدعة فهي مردودة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» [متفق عليه].  وعليه فالأصل الاتباع لا الابتداع، والاقتداء لا الإعراض.

الوقفة الثانية:

إن مقام التوحيد أعظم المقامات وأرفعها، ولذلك كان شأنه عند الله عظيمًا، وكان الشرك أخطر الأمور وأعظمها، فهو الظلم العظيم، والذنب الذي لا يُغفر، فلما كان خطره عظيمًا، وجرمه شنيعًا كان التحذير منه في القرآن والسنة ظاهراً، ومخالفة أهله واجبة، ولذلك جاء التحذير منه في القرآن الكريم، وبيان خطره، فالقرآن من أوله إلى آخره يدور على محورين: الأول: بيان التوحيد والنهي عن ضده، والثاني: الولاء لأولياء الله، والبراءة من الشرك وأهله.

بل إن أساس دعوة الرسل  عليهم السلام هي الدعوة للتوحيد وتحذير الناس من الشرك، وقطع وسائله، وبتر أسبابه، وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد، فكان بيانه  صلى الله عليه وسلم للتوحيد أعظم بيان وأزكاه، ونهيه عن الشرك أعظم نهي وأشده، فهو أبان التوحيد وحمى جنابه، وأوضح الشرك وحذر منه، وسد ذريعته، وأغلق بابه.

الوقفة الثالثة:

جاءت الشريعة بالتحذير من الغلو في الدين، ولذلك يقول  صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (أخرجه أحمد [5/298]). وهو صحيح، فإن الغلو في الدين يؤدي بالعبد إلى الانحراف عن سبيل الله وصراطه المستقيم، ولذلك كان من أسباب الهلاك الغلو والتنطع في الدين؛ وعليه فقد نهى النبي  صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الغلو فيه، ورفعه فوق منزلته  صلى الله عليه وسلم  التي أنزله الله إياها، كل ذلك لأجل أن لا يُتعلق إلا بالله يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه  وهو على المنبر: سَمِعْتُ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (أخرجه البخاري [3445]). فنهى عن إطرائه والغلو فيه كل ذلك حماية لجناب التوحيد، وقطع أسباب الغلو.

الوقفة الرابعة:

جاءت الشريعة بسد كل باب وذريعة تفضي إلى الشرك بالله، والشواهد على ذلك كثيرة منها: ما جاء في النهي عن التعلق بالقبور والتبرك بها وتعظيمها التعظيم الذي يفضي إلى الشرك والاعتقاد فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد وهذا من أعظم الذرائع التي تفضي إلى الشرك الأكبر، كذا التعلق بالأولياء والصالحين والتبرك بهم واتخاذهم وسائط وشفعاء لأنه يؤدي إلى تعظيمهم من دون الله، والاعتقاد فيهم النفع والضر، وكذا النهي عن التصوير الذي فيه المضاهاة لخلق الله لأنه وسيلة للتعظيم ومن ثم الاعتقاد، ثم اتخاذهم أنداداً من دون الله كما حصل لقوم نوح عليه السلام وغير ذلك.

الوقفة الخامسة:

جاءت الشريعة بربط العباد بالله مسبب الأسباب، ونهت عن التعلق بالأسباب - وإن كان العمل بالأسباب واجباً، فالاعتماد عليها كلياً من دون الله شركًا - ومن ذلك الاعتقاد أن العلاج ينفع من دون الله، وكذا الذي يتعلق بمرتبه الشهري تعلقًا كاملاً مع الغفلة عن المسبب وهو الله فهذا نوع من الشرك، وهكذا.

الوقفة السادسة:

إن التفكر في خلق الله وآلائه مما أمرت به الشريعة، وحثت عليه، بل هو من أعظم الأسباب لزيادة الإيمان، والتعلق بالله الرحمن، لكن التفكر في مخلوقات الله لا يكون إلا فيما يجب أن يقود إلى تعظيم الله لا لتعظيم ذات المتفَكَر فيه وبه، فإذا تفكر العبد في الجبال وعَظِيْمِ خَلْقِهَا -مثلاً- فينبغي أن يقوده ذلك لتعظيم خَالِقِهَا لا لتعظيمها لذاتها، ولِعِظَمِ خَلْقِهَا، ولا يعتقد فيها النفع أو الضرر، وغير ذلك مما لا يكون إلا لله.

الوقفة السابعة:

جاءت الشريعة بالتفكر العام في الأجناس لا في الأعيان، فجاء الأمر بالتفكر في جنس خلق السموات والأرض، والجبال والأشجار، والإبل والدواب، ولا يُعلم دليل -فيما أعلم- خاص بالتفكر في شيء بعينه، بل لقد وقع في عهده  صلى الله عليه وسلم بعض المواقف التي لم يأمر الشارع بالوقوف عندها، ولا التأمل فيها، بل لو كانت في هذا الزمن لكانت أولى من ذلك الحجر، فكيف ولم يقف الشرع عندها!؟ ومن ذلك:

1- الجذع الذي كان يخطب عليه النبي  صلى الله عليه وسلم  فقد جاء من حديث ابن عمر  رضي الله عنه أنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ". (أخرجه البخاري [3583]). فهذا الجذع آية باهرة ومع هذا لم يُطلب من الصحابة التفكر والتأمل فيه.

2- الحجر الذي كان يُسلم على النبي  صلى الله عليه وسلم  قبل البعثة، يقول  صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ» (أخرجه مسلم [2277]).  فهذا الحجر آية ظاهرة، ومع هذا لم يأمر النبي  صلى الله عليه وسلم  بالذهاب إليه، أو التأمل فيه، بل لم يثبت أن احدًا من الصحابة الكرام سأل عن مكانه، أو بحث عنه، أو دل عليه.

3- الطعام الذي كان يسبح بين يدي النبي  صلى الله عليه وسلم والصحابة، يقول ابن مسعود  رضي الله عنه : "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ:«اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ» فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ:«حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ» فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ" (أخرجه البخاري [3579]). فهذا الطعام يسبح وهم يأكلونه، ولم يأمر الشارع بتركه والتأمل فيه؛ وغير هذه المواقف كثير.

الوقفة الثامنة:

إن الشريعة جاءت بتعظيم مواضع من الأرض وبينت بركتها، فتُلْتَمَسُ بركتها بالطرق الشرعية، أما ما لم يرد دليل في تعظيمها خاصة، أو بيان بركتها، فلا تُقصد بذاتها، وليس فيها ما يدعو للتأمل، ومن ذلك: البقعة المباركة من الشجرة، وجبل الطور، وشجرة بيعة الرضوان، بل إن هذه الشجرة لما علم عمر  رضي الله عنه  بأن بعض الناس يقصد الجلوس تحتها أمر بقطعها، قطعاً لأسباب الشرك؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية  رحمه الله تعالى: "فمن قصد بقعةً يرجو الخيرَ بقصدها، ولم تستحِب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشدُّ من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء، أو قناة جارية أو جبلاً أو مغارة، وسواء قصدها ليُصليَ عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسَّك عندها، بحيث يخصُّ تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يُشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينًا ولا نوعًا" (اقتضاء الصراط المستقيم: [2/157]).

الوقفة التاسعة:

إن عرض مثل هذه الأحجار التي لا تنفع ولا تضر، وبيانها للناس في صورة تشعر بأهميتها فيها من المحاذير ما يلي:

1- إن في ذلك فتح لباب الفتنة لبعض الجهلة، فيحمله إعجابه بهذا الحجر الغريب إلى تعظيمه، والرغبة في النظر والتأمل فيه لذاته، والرغبة في مَسِّهِ والتعلق به، بل وقد يعتقد فيه البركة، ومنه النفع والضر.

2- إن عرض مثل هذا الحجر على النَّاس في الإعلام مع ما فيهم من جهل ذريع في باب الاعتقاد فهذا خطر على عقائدهم.

3- قد يخرج علينا بعض أهل البدع والضلال بأحجار وأوراق شجرٍ، وأغصانٍ وأعواد ينحتون عليها بِدَعَهُم وضلالاتهم ثم يفتنون الناس بها بحجة أن هذه الأشجار والأحجار لها شأن بما كان فيها، أو بما نحت عليها، فيكون ذلك باب فتنة للناس وتلبيس عليهم، وضلالٍ وإضلال لهم في دينهم.

4- سيفتح بابًا للنظر في كل حجر وشجر، وعظم وجلد للبحث عن الغرائب بحجة أن في هذا الخلق تعظيمًا لله عز وجل.

5- سيجعل من بعض العاطلين باحثًا عن مثل هذه الأحجار ليتحايل بها على الناس لأكل أموالهم بالباطل.

6- إشغال النَّاس بما لا طائل تحته، فما الفائدة من عرض مثل هذه الأحجار، وهم يرون آيات الله الباهرات في كل مكان، فتعليق الناس بشيء بعينه حجرًا كان أم شجرًا يفضي إلى تعظيمه، وتعظيمه يفضي إلى الاعتقاد فيه.

الوقفة الأخيرة:

إن الأصل في دعوة الناس دعوتهم بالكتاب والسنة، ووعظهم بهما لأنهما هما الأصل، والحذر من كل وسيلة فيها تلبيس عليهم، أو تفتح عليهم باب فتنة، يقول الله تعالى:{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ *يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16].

هذا ما يسر الله طرحه من وقفات شرعية حول هذا الحجر الذي لا ينفع ولا يضر، ويعلم الله أن الهدف منها هو قول الحق ونصرة التوحيد، والخوف من فتح باب فتنة وشر على الناس، وقد عافاهم الله عن مثل هذه المحدثات.

أسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، والإعانة والتسديد، والعافية والسلامة من كل بدعة وضلالة، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر: موقع د. ظافر بن حسن آل جَبْعَان
  • 0
  • 0
  • 4,762

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً