القلب القاسي - (8) كثرة الضحك

منذ 2015-07-29

قال صلى الله عليه وسلم: «وإياكَ وكثرةَ الضَّحِكِ؛ فإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ فسادُ القلبِ».

وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لنا حيث قال ناصحًا أبا هريرة: «ولا تُكثرِ الضَّحِكَ، فإنَّ كثرةَ الضَّحِكِ تميتُ القلبَ» (صحيح الترمذي؛ برقم: [2305]).

قال المناوي: "أي تصيره مغمورًا في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها شيئًا من مكروه، وحياته وإشراقه مادة كل خير، وموته وظلمته مادة كل شر، وبحياته تكون قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه".

وموت القلب هو أصل فساده، لذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «وإياكَ وكثرةَ الضَّحِكِ؛ فإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ فسادُ القلبِ» (صحيح الجامع؛ برقم: [7833]).

أي أن كثرة الضحك تورث قسوة القلب، لأن الإفراط فيه يورث الانغماس في اللهو والغفلة عن الآخرة، وإذا كان الإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء ولو كان في العبادة؛ فكيف باللهو والمرح؟!

هزل الأطباء!

والبعد عن الإفراط في المزاح أوجب للدعاة، فهم القدوات والصور التي يتأمل الناس حسنها ثم يقلِّدونها، وهم الأصل الذي يستنسخ منه الناس نسخًا من أعمالهم الزكية، فإذا كان الأصل مهتزًا فكيف بالصورة؟!

والبحر الذي يغسل الأدران إذا كان غير نظيف فكيف يُطهِّر؟! وكيف تقسو قلوب من مهمتهم أن تلين بهم قلوب الناس؟! وكيف يموت قلب مطلوب منه أن يحيي قلوب الآخرين؟!

ولذا كان من الوصايا العشر للإمام البنا وصيتان مرتبطتان بهذا الأمر؛ الأولى: "لا تمزح فإن الأمّة المجاهدة لا تعرف إلا الجد"، والثانية: "لا تكثر الضحك فإن القلب المتصل بالله ساكن وقور".

ويبيِّن ذلك جليًا ويحذِّر منه بشدة بعد أن رصده بدقة في تقريره الميداني المفصَّل الأستاذ الراشد فيقول: "وقضايا الإسلام أوفر جدًا وأثقل هموما من أن تدع عصبة من الدعاة تطيل الضحك، وتستجيز المزاح، وتتخذ لها من صاحب خير فيها محور تندُّر وتروي قصصه وغرائبه، والابتسامة علامة المؤمن ولسنا نُنْكرها، والنكتة في ساعتها سائغة، والأريحية أصل في سلوكنا والألفة والبشاشة، ليس العبوسة، والقهقهة الأولى لك، والثانية نهبها لك أيضًا، فإنا كرماء، ولكن الثالثة عليك، وتشفع حسناتك لها عندنا، وأما الرابعة فيلزمها حد لا شفاعة فيه، وشعار (الضحك للضحك) باطل، والهزل الهزيل مرفوض في أوساط العمل الإسلامي، وإنما الداعية مُفوَّض بالجد والتجديد".

بقي لك أربعة حتى تستكمل آداب المزاح وتحيط بها علمًا؛ هاك ما يلي من شروط المزاح المباح:

أولها: ألا يكون كذبًا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ للذي يُحَدِّثُ فيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ به القومَ، وَيْلٌ له، وَيْلٌ له»  (سنن أبي داود؛ برقم: [4990]).

قال المناوي: "كرَّره إيذانًا بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم، وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة؛ كان أقبح القبائح".

وغالبًا ما يؤدي بصاحبه إلى الكذب، لأن غرضه أن يُضحك الناس كيفما كان، فيسحبه الشيطان رويدًا رويدًا دون أن يشعر حتى يكذب ليُضحك غيره.

ثانيًا: ألا يشتمل على تحقير أو استهزاء أو سخرية من أحد: «بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ» (صحيح مسلم؛ برقم: [2564]).

ثالثًا: ألا يؤدي إلى ترويع مسلم، فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فخفق رجل على راحلته، فأخذ رجل سهمًا من كنانته، فانتبه الرجل ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحِلُّ لِمُسلِمٍ أنْ يُروِّعَ مُسلِمًا» (سنن أبي داود؛ برقم: [5004]).

والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمزح، وقد ورد في الحديث: «لا يأخُذَنَّ أحدُكُمْ متاعَ صاحِبِهِ لاعِبًا ولَا جادًّا، وإِنْ أخذَ عصا صاحِبِهِ فلْيَرُدَّهَا علَيْهِ» (صحيح الجامع؛ برقم:  [7578]).

رابعًا: ألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل مقام مقال، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب.

وأقبح المزاح ما كان في لحظة خشوع أو عقيب طاعة، فإنه يذهب بأثرها ويضيع مفعولها في الحال، وبعد أن كان القلب خاشعًا وجلًا خائفًا رطبًا؛ إذا به يتحوَّل، وليس قلب المازح وحده بل قلوب كل من سمعوا مزاحه وتأثَّروا به.

وقد عاب الله تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم البكاء، فقال عز وجل:{ أَفَمِنْ هَـٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59-61].

اعتراض!

قال أبو حامد الغزالي متقمِّصًا كلًا من شخصية المعارض والمؤيد: "فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف يُنهى عنه؟! فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو: أن تمزح ولا تقول إلا حقًا، ولا تؤذي قلبًا، ولا تُفرِّط فيه، وتقتصر عليه أحيانًا على الندور، فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه، ويُفرِّط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم؛ ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد، وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار، ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار، فلا ينبغي أن يُغفل عن هذا".

  • 76
  • 14
  • 195,811
المقال السابق
(7) كثرة الذنوب
المقال التالي
(9)أكل الحرام

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً