أيام الله

منذ 2015-08-11

إن الإنسان يتحرك دائمًا في دائرة قدر الله، ولكن هذا القدر ذاته هو الذي وسع له دائرة التصرف، فتتقرر للإنسان فاعليته، وتتقرر له مسئوليته عن أفعاله، وفي كل ذلك لا يخرج عن قدر الله، ويعيش في أيامه وفق مشيئته.

إن المراد بالأيام هنا الأحداث الزمنية الكبرى والوقائع التاريخية العظمى، وهي الأيام التي تختصر تواريخ الأمم، وترسم ملامحها، وتوجه مساراتها، ويكون فيها عبرة لمن يعتبر. فالتاريخ في جملته، وفي جوهره إنما هو أيام وعبر، وإن شئت قل: هو أيام فيها عبر.

والمهم في هذا السياق أن معرفة أيام الله، والاعتبار بها، هو جزء من الدين، وجزء من رسالة الأنبياء.

إن عامة الناس لا يستغنون عن معرفة شيء من أحداثه ومحطاته الكبرى، والوقائع التي تُذَكِّر الناس، وتُبصِّرهم بحِكَمِ الله، ونعمه، وسُنَنه في خلقه، بحُلْوها ومُرِّها، وسَرَّائها وضَرَّائها.

ورغم هذا فقد أهمل كثير من العلماء والدعاة التاريخ، وزهدوا في قيمته ونفائسه، الدفاع عن التاريخ، وبيان فوائده ومقاصده، والرد على المستخِفِّين به.

إن التاريخ بأحداثه ووقائعه هو قدر الله علي الأرض، والإنسان هو العنصر الأساسي لحركة التاريخ، والتاريخ البشري هو تحقيق المشيئة الربانية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في الأرض بقدر من الله.

ويقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله في كتابه (حول التفسير الإسلامي للتاريخ):
"إن كل محاولة لتفسير التاريخ تُسقط من حسابها قدر الله ومشيئته، وتفسره من زاوية العقل البشري بعيدًا عن الوحي لا تفسر الحقيقة.

وتفسير التاريخ وفق العقيدة الإسلامية يقوم بميزان يتبين به الصواب والخطأ، والاستقامة والانحراف في مسيرة الإنسان على الأرض، فلا يبرر الأحداث بموجب الأمر الواقع.

فالتاريخ لا يدرس الوجود الإنساني في الأرض في الحقيقة مجردًا عن القدر الذي يحكم ذلك الوجود، فهناك دائمًا معادلة ما بين الإنسان ومشيئة الإله جل شأنه الذي خلق الكون والحياة والإنسان.

والإنسان يتحرك وفق قدر الله، محكومًا به في الصغيرة والكبيرة، ولكن الله سبحانه وتعالي في قدره لا يريد شقاء الإنسان وتعذيبه، ولكنه يريد أن يكون الإنسان في مقامه الحقيقي معه، مقام العبودية لمقام الألوهية، وعندئذ له (أي للإنسان) كل رفعة وتكريم، وله التمكين في الأرض في الحياة الدنيا، وجنة النعيم في الآخرة".

ويستكمل قائلًا: "إن التفسير المادي للتاريخ يرسم الإنسان في صراع دائم مع قدر الله، والتفسير الليبرالي يصور قدر الله خصمًا دائمًا للإنسان، وهؤلاء الذين يتبنون تلك التفسيرات يعلنون تمردهم على قدر الله، ويغترون بإمهال الله للذين ظلموا، ولو تدبروا لوجدوا الانتقام والتدمير عاقبة هؤلاء في النهاية.

إن قدر الله هو الذي خلق الإنسان ابتداء، وهو الذي قدر له مهمته التي يقوم بها في الأرض، والذي ركبه على هذه الصورة التي هو عليها، والتي ينشأ منها التدافع في الأرض، والذي ينشئ بدوره حركة التاريخ.

ولكن قدر الله الذي أنشأ الإنسان على هذه الصورة، قد كرّمه وفضّله فجعل له إرادة يواجه الضغوط الواقعة عليه سواء أكانت شبهات أو شهوات، ومن حصيلة هذه الضغوط، والإرادة التي يتصرف بها إزاءها، فيتحدد سلوك الإنسان في الأرض." انتهى كلامه.

إن الإنسان يتحرك دائمًا في دائرة قدر الله، ولكن هذا القدر ذاته هو الذي وسع له دائرة التصرف، فتتقرر للإنسان فاعليته، وتتقرر له مسئوليته عن أفعاله، وفي كل ذلك لا يخرج عن قدر الله، ويعيش في أيامه وفق مشيئته.

وأرجو أن يكون هذا المقال دعوة لإعادة تفسير التاريخ البشري برؤية إسلامية تزيل التناقض القائم اليوم بين العقيدة وبين دراسة التاريخ.


خالد فاروق

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 1,490

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً