فوارق - ‏فارق‬ بين كون الشيء صعبا وبين أن نظنه كذلك

منذ 2015-09-06

و ‫‏فارق‬ بين كون الشيء صعبا أو بعيد المنال وبين أن نظنه كذلك ونوهم أنفسنا باستحالته وتتعاظم في أعيننا مشقته
كثير من الأشياء التي نستصعبها في حياتنا ونظن أنها أحيانا مستحيلة وغير ممكنة أو حتى بعيدة المنال وتستلزم مشقة رهيبة لأجل الوصول إليها هي في حقيقتها غير ذلك
كثيرا ما تكون تلك الأشياء الصعبة أو المستحيلة هي كذلك في أنظارنا نحن وحسب
نحن من نقرر أو نسمح للظروف المحيطة بنا أن تتحكم في نظرتنا لبعد الأشياء وقربها أو سهولتها وصعوبتها
ذهبت قريبا إلى مكان لم أره منذ الصبا
مرت أعوام طويلة منذ آخر مرة كنت هناك، عند ناصية الطريق وجدت تلك العلامة البارزة التي كنت قديما أميز بها هذا المكان
إنه تمثال ضخم يميز تلك المدينة الساحلية الجميلة
ها هو يبدو من بعيد قد بدت معالمه واضحة في الأُفق
لكن لحظة..
عن أي أُفقٍ أتحدث؟!
ومابال التمثال قد صار قريبا هكذا؟!
وما بال هذا الطريق قد تقلص وانكمش إلى هذه الدرجة؟!
لم تمض لحظات إلا وقد وجدت نفسي قد وصلت وبلغت ذلك التمثال العتيق!
إن ما رسخ في ذاكرتي منذ الصبا أن هذا الشارع كان طويلا جدا
ما كنت أتصور في تلك الأيام الغابرة أن أقطع هذا الشارع إلا راكبا وتظل مع ذلك المسافة بعيدة ويظل الطريق طويلا مملا رغم الركوب
هذه المرة فوجئت أنها في الحقيقة مسافة لا تذكر!
تُرى هل كان الطريق دوما قصيرا هكذا ولم تضخمه حينها إلا نظرات الصبا ومبالغات المراهقة وعجلة الشباب واستعجاله؟!
أم هل تراها الخطوة قد تسارعت اليوم ولم يعد المرء يملك وقتا يضيعه في مشي غير حثيث وقد صار كل شيء حوله يتسارع ويمضي كالريح؟!
أم هي النظرة التي اختلفت بعد أن طافت بين المسافات البعيدة وسعى صاحبها بين البلدان وجاب الأماكن وسلك الدروب الطويلة فصار هذا الطريق قصيرا سهلا بالمقارنة بما رأى؟!
أم تراه العمر قد طال بالمرء ولم يعد متبقيا منه مثلما ذهب؟!
ربما كان كل ذلك..
وربما غيره
المهم أن الحقيقة كانت بخلاف ما ترسخ في ذهني قديما
اختلاف الرؤية عن الحقيقة وارد متكرر
"إنهم يرونه بعيدا . ونراه قريبا"
لكن يبقى السؤال الأهم:
كم من طريق ظننته يوما طويلا وحسبت سلوكه عسيرا بينما كانت حقيقته غير ذلك ولم تكن ثمة مشكلة إلا في نظرٍ قاصر وفهمٍ سقيم استسلمنا له طويلا وقررنا أن نتركه يتحكم في تصوراتنا للأشياء واستصعابنا لها
كنت دوما منذ صغري أتمنى تعلم السباحة!
كنت أنظر لمن يجيدون السباحة نظرة تقدير وإعجاب وأحيانا انبهار!
كيف توفرت لديهم تلك الشجاعة حتى جرأوا على ألا تلمس أقدامهم الأرض بينما يثقون لهذه الدرجة أن أجسادهم الثقيلة ستطفو ولن تغرق كأي صخرة صماء تحترم نفسها
نعم أعرف قوانين الطفو جيدا وأدرك خصائص المياه التي حباها بها الله الذي من آياته الجوار في البحر كالأعلام والذي إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره..
لكن التنفيذ شيء آخر!
لطالما ظننت أن مثلي لن يستطيع تعلم السباحة أبدا وأن الأمر صعب للغاية
ثم تعلمتها..
والعجيب أن الأمر لم يستغرق إلا دقائق معدودات!!
جملة واحدة قالها لي صديق بعد إقناع طويل كي أقبل المحاول
جملة ربما كنت أعرف فحواها لكنني لم أفكر يوما أن المعرفة النظرية لن تكفي وأنه لابد من شيء آخر مهم للغاية
الثقة…
ولقد كنت أثق في هذا الشخص وأعرف أنه لن يخدعني
- سيب نفسك بس ووالله المَيَّه هتشيلك
هكذا أكد جازما
ولقد صدقته
وبالفعل تركت بدني دون تشنج ونبذت شعور الغرق الذي كنت أتصوره
وطفوت
ثم سبحت
وبعد دقائق كنت أسابق غيري
صحيح أنني هُزمت في السباق بحكم السن وقلة الخبرة
لكنني قطعت المسافة دون أن تمس قدمي الأرض
وفي النهاية وصلت
هكذا ببساطة..
فقط حين صدَّقت
وهل كنت مكذبا قبل ذلك؟!
الجواب لا..
ولكنه الفارق بين التصديق العملي والنظري وبين الحقائق العملية والتصورات التي نسمح لها أن تتحكم فينا
وكم من أمور مبلغ تصديقنا لها هي تلك المعرفة النظرية الجافة وحسب
كم من أمور نستطيعها لكننا فقط لا نوقن ولا نصدق تصديقا عمليا أننا نستطيعها
كم من أشياء ثُبطنا عنها لافتراض الصعوبة المسبقة فقررنا ألا نجربها أصلا
وحين نصدِّق وثق أن الأمر ممكن وأننا نستطيع..
حينئذ فقط سنفاجأ بأن كثيرا من الأشياء كانت متاحة وسهلة وممكنة لكن المشكلة كانت في أنفسنا وتصوراتنا المفترضة وقلة أو انعدام ثقتنا ويقيننا
وحسب..
 

  • 1
  • 0
  • 1,036
المقال السابق
بين الهجر الشرعي لغاية الإصلاح وبين نبذ المخطىء
المقال التالي
يتعاملون مع أخطاء الناس بنفسية المحقق

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً