فوارق - بين البشر والجمادات ذات القوالب الثابتة و(الإصطمبات) الجاهزة

منذ 2015-09-06

ما بالك تظن أن بإمكانك قولبة الجميع وتحويل البشر إلى مجرد (روبوتات) آلية تنتجها إصطمباتك الجاهزة

هل قابلتك يومًا مشكلة في جهاز الكمبيوتر الخاص بك أو في هاتفك المحمول أو سيارتك؟!

أكيد طبعًا، وهل يخلو جهاز من خلل ما يطرأ عليه يومًا؟ وهل تخلو سيارة من صوت مزعج يظهر من مكان ما آجلا أو عاجلا؟!

لا شك أن أول ما يتبادر إلى ذهنك لما جهازك (يهنج) أو حين يظهر هذا الصوت المزعج في سيارتك هو التساؤل عن سبب هذا العطل ومصدر هذا الصوت.

بداية محاولاتك لمعرفة هذا السبب تكون غالبًا بمحاولة إدراك النمط أو‫ ‏الإصطمبة. وجود اصطمبة واضحة وثابتة يسهل المهمة دائمًا! يعني مثلا: هذا الصوت المزعج يصدر من السيارة حين تستدير عجلة القيادة إلى اليمين بشكل حاد أو مفاجئ، جهاز الكمبيوتر (بيهنج) بعد مدة محددة من استعماله، الهاتف الجوال يغلق وحده حينما أقوم بتشغيل أكثر من تطبيق... وهكذا.

لكي تستطيع ضبط الشكوى تحاول الوصول لفهم نسق المشكلة ابتداء وتسعى لقولبتها في إصطمبة ثابتة وواضحة ليسهل عليك بعد ذلك حلها. تفعل ذلك أيضًا مع بدنك إذا اشتكى منه عضو:

- عيني (تزغلل) بعد ساعة من القراءة.

- أشعر بدوار عند الاستيقاظ من النوم.

- الطعام المتبل والحار يسبب لي اضطرابات في الهضم.

- المياه المثلجة تؤلم أسناني.

هكذا تحاول باستمرار إيجاد النسق الثابت الذي يسهل مهمة الطبيب ولا يجعل شكواك عشوائية هلامية، والأمر لا يقتصر على المشكلات وحسب؛ إن إدارة الحياة تحتاج أحيانًا إلى إصطمبات.

في الصناعة مثلا تشكل فكرة الإصطمبة جزءًا أصيلًا من العديد من الصناعات. بل تعود تلك التسميه أصلا إلى قوالب تشكيل المعادن وسك العملة واسمها اللاتيني Stamping. ذلك المصطلح الذي كان يطلق فيما مضی علی ختم المعادن في قوالب حيث كان يستخدم في سك العملة وسباكة المعادن ذات درجات الانصهار المنخفضة في قوالب.

ولكن بجانب هذا المعنى كان هناك مفهوم مصاحب للمعنى وهو إنتاج منتجات متماثلة تمامًا من حيث الشكل والوزن والحجم. ونظرًا لمفهوم الإنتاج الكمي السريع الذي ظهر الاحتياج إليه بشدة في الحرب العالمية الأولي والثانية ظهرت أنواع عديدة من الإصطمبات لتخدم الإنتاج الكمي في مجالات الصناعة المختلفة الثقيلة منها والخفيفة. وإلى اليوم يسعى كثير من أصحاب الحرف لتسهيل مهمتهم من خلال تثبيت إصطمبات لصنعتهم.

وكذلك يسعى الإنسان المنظم لشيء شبيه يصلح لإدارة حياته بصورة أسهل من خلال تثبيت أنساق وأوراد محددة تناسبه وتيسر من إنجازه لما هو مطلوب منه. كل هذا ليس فيه أي مشكلة؛ المشكلة الحقيقية تكمن في أولئك الذين قرروا تعميم نظرية الإصطمبة على البشر جميعا، سواء في ذلك من وافقوهم فقرروا قولبتهم في نفس صورهم وجعلهم نسخًا متطابقة ومطابقة لهم ولأفكارهم ولأحلامهم وطموحاتهم، وأيضًا في التعامل مع من خالفوهم فقرروا المسارعة إلى تشخيص خلافاتهم ومشاكلهم معهم بإلصاقها وإلصاقهم بأقرب قالب جاهز ومعيوب في نظرهم متجاهلين بذلك حقيقة مهمة للغاية.

حقيقة مفادها أن الإنسان أعقد كثيرًا من الجمادات، الإنسان ليس قطعة أثاث يسهل استنساخها ولا هو جهاز بارد يسهل تنميط عيوبه وقولبة مشاكله بشكل بسيط وسطحي وكأن البشر جميعًا ينبغي أن يكونوا (إصطمبة) واحدة ليس فيها تفاوت نسبي أو اختلافات وتفاصيل لا تعد ولا تحصى والشيطان يكمن في التفاصيل.

فكرة إما مثلي أو مثل ما أريده وإما هو شيطان فاسد أو خائن متآمر هي النتاج الطبيعي لتلك المصيبة الفكرية التي طغت علينا؛ مصيبة استسهال التنميط وسرعة القولبة؛ عقلية الاصطمبات الجاهزة. إنها عقلية لا تسمح ولا تفهم ولا تقبل أن الله خلق الخلق مختلفين، طبائع ونفسيات وأفكار مختلفة، تفاصيل ودقائق وصفات يندر بل يستحيل أن تتطابق بنسبة مائة بالمائة.

لقد حرص نبينا على إبراز ذلك التنوع والتفاصيل في عشرات المواضع وبيَّن‫ ‏الفوارق بين الناس حتى الكافرين منهم والمنافقين ففرق بين أبي طالب في حاله ومآله، وأبي جهل والوليد بن المغيرة. وفرّق بين التعامل مع الكافر الحربي وبين التعامل مع المعاهد، وفرّق بين أشياء حدثت في الجاهلية وتم وضعها واستبدالها وبين أشياء أقرها كحلف الفضول مثلا، وهكذا في الكثير من الأمثلة التي حوتها حياته الحافلة صلى الله عليه وسلم ولا يتسع المقام لذكرها.

إنه منهج القرآن الناصع الذي يظهر ساطعًا في قوله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاءً} [آل عمران:113]، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]. ربك خلقهم هكذا: مختلفين؛ جعل لكل منهم شخصيته المستقلة، وخصائصه المتفردة، وتفاصيله التي ينبغي أن تراعى عند معاملته أو تقييمه.

فما بالك أيها المقولب تصر على عكس ذلك؟! ما بالك تظن أن بإمكانك قولبة الجميع وتحويل البشر إلى مجرد (روبوتات) آلية تنتجها إصطمباتك الجاهزة لا لشيء إلا لتسهل على نفسك المهمة وتنسى أو تتناسى أن تلك الإصطمبات قد لا تليق بهم؛ لأنهم ببساطة بشر.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 1,539
المقال السابق
‏فارق‬ بين كون الشيء صعبا وبين أن نظنه كذلك
المقال التالي
بين ما كان يعتقده المرء آنفًا، وبين ما صار يعتقده بعدها بساعات!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً