جرعات دواء القلوب - (6) قوة التحمل

منذ 2015-09-06

الفارق بين الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، وقوة تحمل كلّ منّا، مع جرعة دوائه.

إنها قوة الصبر لكن؛ ما هو الصبر؟!

قال أبو قدامة: " فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابل باعث الشهوات؛ فإن ثَبُت حتى قَهَر الشهوة؛ التحق بالصابرين؛ وإن ضَعُف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها؛ التحق بأتباع الشياطين. وإذا ثبت أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة الهوى، فهذه المقاومة من خاصية الآدميين"‏.‏

وحديثنا القادم يتناول نوعين: الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي.

بين الطاعة والبلاء:
الصبر على الطاعة أعلى مقاماً من الصبر على البلاء؛ لأن الصبر على الطاعة صبر اختيار، والصبر على البلاء صبر اضطرار؛ لذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم -أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسبَّبا عن فعله، وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله -أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف.

وسبب آخر لكون الصبر على الطاعة أكمل من الصبر على البلاء؛ وهو أن من علامات كمال الصبر على البلاء وأمارات قبوله عند الله: فعل الطاعة بعده؛ ولذلك قال تعالى في معرض الحديث عن غزوة أحد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، ولم يقل وسيجزي الصابرين، مع أن المقام مقام صبر؛ بل قال:  {الشَّاكِرِينَ} أي الطائعين -الذين استمروا على طاعتهم عقب البلاء- أعظم بلاء، وهل أعظم من مقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكأن المطلوب منك يا صاحب القلب الحيّ أن تخرج من مصيبتك بمزيد الطاعة والقرب من ربك والحرص على رضوانه، وإلا رُدَّ صبرك عليك ولم يُقبل.

وأصحاب القلوب الحية لا يزيدهم البلاء إلا طاعة لله، لذا حكى الله موقف الصحابة بعد غزوة أحد؛ حيث البلاء الشديد، والجراح الغائرة، واستجابتهم لأمر الله ورسوله، وخروجهم -وهم المثخنون بالجراح الغارقون في الأوجاع والأحزان- إلى غزوة حمراء الأسد بعد أقل من خمس عشرة ساعة من نهاية غزوة أحد، فقال عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174]؛ بل قد لا تكون المصيبة سوى طريقاً لجذب العبد إلى الطاعة وتقريبه منها، كما قال ابن عطاء في حكمة تحذيرية: "من لم يُقبِل على الله بملاطفات الإحسان، قِيْد إليه بسلاسل الامتحان".

والصابرون على الطاعات المداومون عليها دوماً قلة قليلة بين الناس؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]. ولأنهم قلة وسط كثرة مفرِّطة؛ فقد وعدهم الله بأثمن المكافآت وأغلى الجوائز؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. فهل علمتم ثوابكم يا أهل الصبر على طاعته؟ ولو لم يكن لكم من جزاء غير هذا لكفى.

والصديقون هم السابقون في تصديقهم، المبالغين في الصدق، وهم أفضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخواصهم المقربين. والشهداء هم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته. والصالحون هم الصارفون أعمارهم في طاعته، وأموالهم في مرضاته؛ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، وما أروعها من صحبة! والصابر على الطاعات -هؤلاء غداً- هم أصحابه، وجيرانه، وأحبابه، وخلَّانه. إنه أسمى نعيم الجنة، وهل أحلى من صحبة الأنبياء وأشباه الأنبياء وأصفياء الله من خلقه ومن صنعهم على عينه؟!

بين الطاعة والمعصية:
والصبر على الطاعة أكمل كذلك، وأعلى من الصبر عن المعصية؛ لأن عدم ملء الوقت بالطاعة كان سبب وقوع المعصية، وعدم سدِّ الفراغ بالطاعة مهَّد الطريق لاقتحام المعصية؛ فكلما حُجِب الإنسان عن طاعة وقع في معصية؛ بل وكانت الطاعة مكافأة كل صبر عن معصية. ومن هنا كان الصبر على الطاعة أعلى درجات الصبر؛ بل وكان ترك الصبر على الطاعة أبغض عند الله من عدم الصبر عن المعصية، قال سهل بن عبد الله: "ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهى؛ لأن آدم نهى عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمِر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه".

ثم شرع ابن القيم في ذكر ثلاثة وعشرين وجهًا، بيَّن من خلالها صحة القاعدة السابقة؛ ثم قال بعد ذلك: "سِرُّ هذه الوجوه أن المأمور محبوبه والمنهى مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه".

لكن الصبر على الطاعة مع ذلك أصعب أنواع الصبر؛ ولذا جاءت صيغة الأمر بالصبر على الطاعة مغايرة لغيرها فقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]؛ فاستخدام صيغة الافتعال تدل على المبالغة في الفعل، إذ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمقصود بالإصطبار: شدة الصبر على الأمر الشاق؛ لأن صيغة الإفتعال تَرِد لإفادة قوة الفعل، وما ذاك إلا لصعوبة هذا النوع من الصبر على النفس، لما فيه من القيام بحق العبودية في كل الأحوال.

قال الزمخشري: "لأن العبادة جُعِلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب (اصطبر لقرنك) أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته".

أ - الصبر على طاعة الله:

وهو أوضح ما يكون في قصة إبراهيم وإسماعيل التي خلَّد الله ذكرها في كتابه، فمن أيهما تعجب؟ من الأب الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه فلبَّى؟! أم من الإبن الذي استسلم لأمر الله طواعية واختياراً؟! لقد كان الإبن وحيد إبراهيم، ولم يُرزَق إلا على كِبَر، فما ظنك بتعلق أب كهذا بابنه؟! لكن إبراهيم حطَّم كل نداءات الأرض لما جاءه أمر السماء، وضرب لنا أروع مثل على الإطلاق في الصبر على طاعة ربه، ولقد كان باستطاعته أن يتأول الرؤيا لصالحه بدافع من غريزة الأبوة؛ لكنه امتثل الأمر على وجه عجيب، وفاتح ابنه في ما رأى، ولم يكن الإبن صغيراً لا يفهم ما سيُفعل به؛ بل بلغ مع أبيه السعي فأصبح فتى مفتول العضلات، قويّ الساعد، مما زاد من شغف الأب بابنه وتعلق الابن بأبيه. وجاءت إجابة الإبن محيِّرة حقا! فقد حسم الموقف بجملتين فاصلتين ممتلئين بالرضا -فضلا عن الصبر- قالهما لأبيه وخلَّدهما التاريخ له: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِريْنَ} [الصافات:102].

وبعد أن شَهِد إسماعيل لنفسه بالصبر، شَهِد الله -جل جلاله- له بالصبر، ودوَّن اسمه في سجل الصابرين، وأين؟! على صفحات القرآن: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85]؛ ثم هو مع ذلك لم ينس أن يستمد العون من الله الذي لا يكون الصبر إلا بمشيئته، فهو لا يعتمد على قوته وشدة جلده؛ بل يعتمد على ربه، وصَدَّقا، وأسلم الوالد ولده، وتَلَّهُ للجَبين، وتهيأ للذبح، وعندها فحسب؛ جاءته البشرى والنجاة.

أنواع خمسة من الصبر على الطاعة:

- الصبر على التعلُّم والمُعلِّم؛ وهذا صبر على مكافحة الجهل، وصبر على ما يمكن أن يكون من شدة المعلِّم، وصبر على الخجل من طلب العلم -وخاصة إذا كنت كبير السن وأستاذك أصغر منك-، ولا شك أن ذلك صعب على النفس؛ لذا كان مما يورث الأجر العظيم، واذكروا ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران»، وهذا الصبر سبق وواجهه موسى؛ حين رحل إلى الرجل الصالح ليُعلِّمه مما علمه الله، فأبرم موسى معه العهد بالصبر قائلاً: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف:69].

- الصبر على تصحيح النية، وتخليص الضمائر من شوائب الرياء، أو الصبر على حفظ الطاعة بعد انتهائها، وعدم إفشائها والتباهي بها، أو العُجب والاغترار، لئلا تتحوَّل سيئة: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} [محمد:33]. ولعل هذا هو سِر تقديم الصبر على العمل الصالح في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11]، وهي معركة من معارك العبد مع الشيطان، يقص علينا وقائعها وتفاصيلها سفيان الثوري في قوله: "بلغني أن العبد يعمل العمل سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه، فيُكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يُحِبَّ أن يُحمد عليه، فيُنسخ من العلانية فيثبُت في الرياء".

- الصبر على المداومة على الطاعة وعدم الملل منها ومن ثم الانقطاع عنها، ولا شك أن المداومة على أي عمل ولو كان سهلا على مدار الأيام والأعوام مما يشق على أي نفس، وفي مقابل هذه المشقة ينال المرء أعظم الأجر كما أخبر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ».

- الصبر على وَحشة التفرد، وقلة سالكي طريق الحق، وكثرة المعرضين عنه؛ إذا كنتَ الوحيد الذي يغض بصره عن النساء في عملك، وكنتَ الوحيد الذي يصوم تطوعا في يوم حار، وكنتَ الوحيد الذي يطهِّر لسانه من الغيبة وسط صحبة العمل أو الدراسة، وكنتِ الوحيدة التي تحافظ على الحجاب الصحيح شكلاً وسلوكاً؛ إذا كنتَ أو كنتِ من هؤلاء فهنيئا لك.

- الصبر على تَبِعات التزام طريق الحق والثبات عليه؛ وهي الرسالة الأولى التي تلقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مهد الدعوة؛ حين انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل -ابن عم خديجة-، وكان شيخا كبيراً قد عمي؛ فقالت له خديجة: "يا ابن عم... اسمع من ابن أخيك"، فقال له ورقة: "يا ابن أخي ماذا ترى؟" فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -ليتني أكون حيا- إذ يُخرجك قومك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجيَّ هم؟!" فقال: "نعم؛ لم يأتِ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك؛ أنصرك نصراً مؤزَّراً".

ب - الصبر عن معصية الله:

وأبرز الأمثلة وأشدها وضوحاً صبر يوسف عليه السلام على مراودة امرأة العزيز له؛ ولقد كان الصبر ظهير يوسف في محنته التي ابتُلي بها اضطراراً واختياراً، وكشف عن هذا السر حين عثر إخوته عليه، فقال: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]. قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- يقول: "كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها -أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر؛ وأما صبره عن المعصية، فصبر اختيار، ورضا ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعزباً؛ ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريباً؛ والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكا؛ والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحُرّ. والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته؛ وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص؛ ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها؛ صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجُبّ على ما ليس من كسبه".

ولكن ما الدافع إلى الصبر عن معصية الله؟!

والجواب: إما الخوف وإما الحياء.

أما الخوف؛ فهو من سوء عواقب المعصية وقبح أثرها، أي خوف المرء مما يصيبه من جرائها في الدنيا والآخرة. والخوف أيضا قسمان: خوف الدنيا، وخوف الآخرة. أما خوف الدنيا؛ فهو ما ذكره الإمام ابن القيِّم: "الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجِبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هَمَّاً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تُنسِي علماً ذِكْره ألذَّ من نيل الشهوة، وإما أن تُشْمِت عدواً وتُحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تُحدِث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فان الأعمال تورث الصفات والأخلاق".

وأما خوف الآخرة -وهو مما يلقى العاصي من العقوبة النارية، والتقلب بين الأطباق الجهنمية- فهي العقوبة؛ إن عصى علناً فيكون مجاهراً بذنبه داعيا إليه، وهي العقوبة إن عصى سِرًّا ليكون هاتكاً ستر الله عليه، مُظهراً غير ما يبطن.

أما الدافع الثاني الذي يدفع إلى الصبر عن المعصية هو الحياء؛ لكن ما الحياء؟!

قال الجنيد: "الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير؛ فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، وحقيقته خُلُق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق".

وهب ربك عفا عنك فأين الحياء مما جنيت يا رجل؟! إن

وسؤال أخير: أيهما أعلى مقاماً وأكثر أجراً : الخوف أم الحياء؟!

فَصَّل ابن القيِّم بين الخصمين، فقال في كلام ألفاظه أنوار ومعانيه ثمار: "ولما كان الحياء من شِيَم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية؛ كان صاحبه أحسن حالاً من أهل الخوف. ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه، ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف. فمَن وازعه الخوف؛ قلبه حاضر مع العقوبة، ومن وازعه الحياء؛ قلبه حاضر مع الله. والخائف مُراعٍ جانب نفسه وحمايتها، والمستحي مُراعٍ جانب ربه وملاحظ عظمته، وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان؛ غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به، إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله، فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها".

ولابد مع الخوف والحياء -لكي يُحدِثا أعظم الأثر- من صفتين متلازمتين؛ وهما العلم واليقين. فبغيابهما يغيب الخوف والحياء، وبقوتهما يقويان.

فكل مَن عَلِم أن الذي ينام عن الصلاة المكتوبة يكسر الحجر رأسه في قبره، ثم أيقن بذلك؛ كيف ينام عن صلاة الفجر؟! وكل من علِم أن ناشر الكذب ومروِّج الإشاعة يُشقُّ من رأسه ومنخره وعينه إلى قفاه، ثم أيقن بذلك؛ قل لي بعدها كيف يكذب؟! وكل من علِم أن الزاني يُحرق بنار أسفل منه وهو عريان ليُفتضح في العلن، كما كان يأتي الفاحشة في السر، ثم أيقن بذلك؛ فكيف يزني؟! وكل من علِم أن أكل الربا يورث السباحة في نهر الدم والتقام الحجارة، ثم أيقن بذلك فكيف يرابي؟! وكل من علِم أن الوقوع في أعراض الناس يُعاقب فاعله بخمش وجهه وصدره بأظفار من نحاس، ثم أيقن بذلك؛ فكيف يُعقل أن يغتاب؟! وهكذا مع كل معصية وعقوبتها.

زاد الصابرين:

1. تلَّمح لذة العاقبة:

مرارة الصبر شفاء، لأن الصبر على مرارة الدواء في البداية يورث حلاوة الشفاء في النهاية. ما أشبه حال المبتلى بذنب بحال المدمن؛ عافت نفسه الطيِّب، ولا صبر له عن الخبيث، فإن تجرَّع جرعة صبر، وتحمَّل المشقة حيناً، وأكل من الحلال، وداوم عليه؛ إذن لزال أثر السمّ بالكلية، ورجعت نفسه تعافَ كل كريه كانت تحبه، وكل معصية كان يلتذذ بها؛ فالصبر الصبر، والتفكر في حلاوة العاقبة، والاعتبار بسوء مصير الهالكين.

قال الأشعث بن قيس: "دخلتُ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوجدته قد أثر فيه صبره على العبادة الشديدة ليلاً ونهاراً، فقل: "يا أمير المؤمنين!! إلى كم تصبر على مكابدة هذه الشدة؟" فما زادني إلا أن قال:

اصبر على مضضِ الإدلاج في السَّحَر *** وفي الرَواح إلى الطاعات في البِكر

إني رأيت وفي الأيام تجربة *** للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلَّ من جدَّ في أمر يؤمِّله *** واستصحب الصبر إلا فاز بالظَّفَر

فحفظتها منه وألزمتُ نفسي الصبر في الأمور، فوجدت بركة ذلك".

وتعرَّف إلى أسرار العبادات، وأثر الجرعات، وفضائل القربات، واغرق في أنوارها، وراجع ما ورد من أحاديثها، وعندها؛ تطيع أمر الله، وتستسلم له -ولو كان شاقاً- وسترى العجب كما سبقه ورآه خليل الرحمن لما صبر. قال ابن القيِّم: "وأُنبِّهك على خصلة واحدة مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده، فإن الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولده لأمر الله؛ بأن بارك في نسله، وكثرّه، حتى ملأ السهل والجبل؛ فإن الله تبارك وتعالى لا يَتكرَّم عليه أحد، وهو أكرم الاكرمين، فمن ترك لوجهه أمراً أو فعله لوجهه؛ بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافاً مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافاً مضاعفة. فلما أمر إبراهيم بذبح ولده؛ فبادر لأمر الله، ووافق عليه الولد أباه رضاءاً منهما وتسليماً، وعلِم الله منهما الصدق والوفاء، فداه بذبح عظيم، وأعطاهما ما أعطاهما من فضله، وكان من بعض عطاياه أن بارك في ذريتهما حتى ملؤا الأرض، وجعل النبوّة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمدا".

من كالخليل يُرينا خيرَ تضحية *** جلَّت مواقفها عن كل تبيين

صحا مع الفجر صوت الوحي يُفزِعه *** قم يا بني فصوت الله يدعوني

إني بذبحك قد أُلهمتُ يا ولدي أمرُ السماء *** فهل تعصي وتُخزيني

فشمَّر الطفل إيماناً بلا جزعٍ *** جمِّع قواك أبي خُذْ تلك سكيني

2. الاستعانة بالله:

قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، والمأمور به في الآية: الاستعانة بالله، ورؤية أنه هو المُصبِّر وحده، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، وبمشيئة الله ومعونته لا بمشيئته هو وقوته؛ فهو لا يرى لنفسه صبراً ولا قوةً ولا فضلاً ولا عزماً؛ بل كل ذلك من الله وبفضل الله، وعندها يعلم حقيقة قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن لم يصبِّرك هو فليس إلا الجزع والهلاك؛ بل لو لم يصبِّر الله خير خلقه وصفوة رسله محمد صلى الله عليه وسلم ما كان ثبت؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]. ولذا روى حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر صلَّى؛ ليستمد من القوة التي لا تُغلب، والطاقة التي لا تُحدُّ، والإله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

3. صبر أعدائك يُعدي:

أعداء دينك لا ينامون؛ بل يصبرون ويحتملون في سبيل الباطل ما لا تحتمله أنت في سبيل الحق. والله إن المرء ليستحي أن يكسل في جنب الله، حين يسمع عن بطل رياضي يعاني الأعوام الطوال، ويُتعِب نفسه منذ نعومة أظفاره ليفوز في النهاية بميدالية الذهب، وتُسلَّط عليه الأضواء، وتُغدق عليه الأموال؛ مع أنه سيكبر يوماً وينصرف الناس عنه؛ بل ويموت وينساه كل من كان محتفياً به بالأمس، ويترك كل ما جمع ويرحل تحت التراب؛ فكيف لا تصبر أنت يا طالب ذهب الآخرة؟! ألا تريد أن تُسلَّط عليك الأضواء هناك وأنت متكئ على أريكة لك في الفردوس؟! ألا تطمع أن تُغدق عليك اللذات وأنت مستلقٍ في قصر من قصورك في جنات عدن؟! ألا تتعب قليلاً لتستريح طويلاً.. هناك في خُلد لا تذوق فيه الموت؛ بل لا تسمع حتى مرادفات أو مشتقات كلمة (موت)؟! واعجباً مِن خاطِبِ دنيا يتعب، وطالب آخرة ينام!، واحسرتاه على طالب رضا البشر، وغافل عن رضا ربِّ البشر!.

عن عمر بن عثمان المكي قال: "لقد وبَّخ الله التاركين للصبر على دينهم بما أخبر عن الكفار أنهم قالوا: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، فهذا توبيخ لمن ترك الصبر من المؤمنين على دينه".

إن مقارنة المريض -لصبره على الطاعات- بصبر غيره -من موتى القلوب على الباطل- يبعث في القلب الحياة، وانظروا إلى خَلَف بن أيوب، وكان لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة، فقيل له: "كيف تصبر؟!" فقال: "بلغني أن الفُسَّاق يتصبَّرون تحت السياط ليقال فلان صبور، وأنا بين يديّ ربي؛ أفلا أصبر على ذباب يقع عليَّ؟!".

بل واسمعوا صبر أهل الدنيا يا أصحاب الآخرة واقرؤوا خبر أبي الهيثم خالد الحدَّاد -وكان يُضرَب المثل بصبره- قال له المُتوكِّل يوماً: "ما بلغ من جَلَدِك؟" قال: "املأ لي جرابي عقارب، ثم أُدخِل يدي فيه، وإنه ليؤلمني ما يؤلمك، وأجد لآخر سوط من الألم ما أجد لأول سوط، ولو وُضِعت في فمي خِرقة وأنا أُضرب؛ لاحترقَت من حرارة ما يخرج من جوفي، ولكنني وطَّنت نفسي على الصبر"، فقال له الفتح: "ويحك!! مع هذا اللسان والعقل ما يدعوك إلى ما أنت عليه من الباطل"، فقال: "أُحب الرياسة".

ولماذا أمثلة؟ الماضي والحاضر بين أيدينا ينطق ويشهد، وأهل اللهو في لهوهم -من أهل الغناء والفن الهدّام- يفتخرون أنهم يصِلون الليل والنهار، ويهجرون الراحة، ويعانقون التعب في أوقات كثيرة؛ ليجنوا حصاد أعمالهم: سيئات تلطِّخ الصحائف، وتورث اللعنات وتُصليهم جهنم وبئس المهاد، فلماذا لا نَصِل نحن -أهل الحق- الليل بالنهار ونهجر الراحة، ونعانق التعب؛ لنجني حصائد أعمالنا: حسنات تُشرِق على صحائفنا، وتثقِّل موازيننا، وتورثنا اللذة الأبدية والنعيم الذي لا يبيد؟!.

4. جهاد النفس:

إن النفس البشرية بطبيعتها تحب الراحة والكسل والدّعة، وتنفر من البذل والاجتهاد والعطاء؛ فهي الآمرة بالسوء، الناهية عن الخير، وهي الحقيقة التي قرَّرها رب العزة والجلال؛ بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]. لذا كانت مخالفتها نوعًا من أنواع الموت الدامي؛ قال حاتم الأصمّ: "الموت الأحمر: مخالفة النفس".

لذا عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المخالفة بأقوى الألفاظ وأشدها وهو لفظ الجهاد؛ فقال: «والمجاهد: من جاهد نفسه في الله»، وقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]. قال ابن المبارك في تفسيرها: "هو جهاد النفس والهوى". أما أن تطيع نفسك في كل ما تأمرك به، وتنتهي عن كل خير تنهاك عنه، فليس هذا من الجهاد فضلاً عن الرجولة في شيء.

نعم الأمر صعب وشاق، ليس في هذا شك؛ لكن في المقابل تؤنسك بشرى الله لك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]؛ فالخطوة الأولى عليك، ثم يأتيك المدد الإلهي عميماً من حيث لا تحتسب. والهداية طريق طويل طويل؛ لكن أول وأهم خطوة فيها: المجاهدة.

والبشارة الثانية من راشد، هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي قال وكأنه يهوِّن عليك مشقة العمل الصالح ويروِّح عليك بمراوح الرجاء:  "أحب الأعمال إلي الله ما أُكرهت عليه النفوس".

والبشارة الثالثة أن النفوس اليوم قد تغيَّرت، والزمان الحاضر ليس كالماضي في صلاحه وتقواه، ومن ثَمَّ كان الثواب اليوم أعظم والأجر أوفى؛ ولقد جاء ذلك في قول الإمام عبد الله بن المبارك: "إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تُواتينا إلا على كُرْه ينبغي لنا أن نكرهها".

فليت شعري لو أدرك ابن المبارك زماننا هذا ماذا سيقول؟!!

تجربة جهادية:

يقول ابن الجوزي: "تأملتُ جهاد النفس فرأيتُه أعظم الجهاد، وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل؛ يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، و يذوِّب في المرارة قليلاً من الحلاوة، و يتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب، ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعمٍ ربما جرَّ جوعاً، ومن لقمة ربما حَرَمت لقمات؛ فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها؛ بل يُرخي لها في وقت والطول بيده، فإذا رآها مالت ردَّها باللطف، فإن ونَت وأبت فبالعنف، ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبنى عقلها على الضعف والقلة، فهي تُدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب، وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم، هذه مجاهده من حيث العمل. فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق، وتتعرض للدنيء من الأخلاق؛ أن يُعرِّفها تعظيم خالقها لها فيقول: "ألستِ التي قال فيكِ: خلقتكِ بيديّ، وأسجدتُ لكِ ملائكتي؛ وارتضاكِ للخلافة في أرضه، وراسلكِ، واقترض منكِ، واشترى!"؛ فإن رآها تتكبر، قال لها: "هل أنتِ إلا قطرة من ماء مهين، تقتلكِ شرقة، وتؤلمكِ بقَّة؟!"، وإن رأى تقصيرها عرَّفها حق الموالي على العبيد، وإن ونَتْ في العمل حدَّثها بجزيل الأجر، وإن مالت إلى الهوى، خوَّفها عظيم الوزر، ثم يُحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ}، والمعنوية كقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الذين يَتَكَبَّروْنَ فيْ الأَرْضَ بِغَيْرِ الحَقِّ}، فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل".

أخي .. هل لك أن تأخذ خطوة عملية على الطريق؟! عوِّد نفسك مثلا بالنسبة للطعام أن تقوم عن المائدة ولا زلت تشتهيه، وبالنسبة للكلام جرِّب يوماً من الأيام أن تُوثِق لسانك؛ فلا تتكلم بكلام إلا إذا أدركت مغزاه وفائدته، وبالنسبة للمنام جرِّب يوماً في الأسبوع أن تهجر الفراش الناعم وتنام على الأرض مخالفة للنفس، والمران على ذلك يورث الانتصار على النفس الشرود وسهولة قيادتها.

جهاد النفس وجهاد العدو:

إن هذا الجهاد هو المقدمة الطبيعية والتمهيد الذي لابد منه لجهاد أكبر؛ وهو جهاد الأعداء والانتصار على اليهود، ويشهد لهذا قول عبدالله بن عمر لِمَن سأله عن الجهاد: "ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزُها".

يا من يجاهد غازياً أعداء ديــن الله يرجو أن يُعان ويُنصرا

هلَّا غشيت النفس غزواً إنها أعدى عدوِّك كي تفوز وتظفرا

مهما عُنيتَ جهادها وعنادها فلقد تعاطيتَ الجهاد الأكبرا

قال ابن القيِّم شارحاً قول ابن عمر: "ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد؛ من جاهد نفسه في طاعة الله»، كان جهاد النفس مُقدَّماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً -لِتفعل ما أُمِرت به، وتترك ما نُهيت عنه، ويحاربها في الله- لم يُمكنه جهاد عدوه في الخارج؛ فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه؟! وعدوه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله؛ بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يُجاهد نفسه على الخروج".

بل إن جهاد النفس -في رأي ابن القيم- أصعب من جهاد العدو. قال وهو يحاول أن يقنعنا بصحة مذهبه وصواب رأيه: "اعلم أنه إنما كان جهاد النفس أكبر من جهاد الأعداء؛ لأن النفس محبوبة وما تدعو إليه محبوب، لأنها لا تدعو إلا إلى ما تشتهي، وموافقة المحبوب في المكروه محبوبة، فكيف إذا دعا إلى محبوب؟! فإذ عُكِست الحال وخُولِف المحبوب فيما يدعو إليه من المحبوب؛ اشتدَّ الجهاد، وصَعُب الأمر، بخلاف جهاد الكفار فإنَّ الطباع تُحْمَل على خصومة الأعداء".

مضاعفات القوة:

1- الصبر الدائم:

النفس مَلولة، والمواظبة على الأعمال الصالحة يحتاج منها إلى قوة وصبر؛ ولهذا ربطت كثير من الأحاديث بين المواظبة على الأعمال ودخول الجنة، فمثلاً: «خصلتان، أو خِلَّتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يُسبِّح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبِّره عشراً؛ وذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان. ويكبِّر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويسبِّح ثلاثاً وثلاثين؛ فذلك مائة باللسان وألف في الميزان».

ثمن الجنة إذن ليس برخيص؛ بل هو في المحافظة الدائمة. وليس بمجرد عمل يوم أو يومين أو شهر أو شهرين، فالصبر على العمل والمواظبة عليه يقابلها الله بأعظم الجزاء لصعوبتها على النفس وانقطاع أكثر الناس عنها.

2- صبر التميُّز والانفراد:

وهذه نماذج للصبر الذي أعنيه:

يعمل بين أناس لا يُصلون، ويصلي وحده.

يتعفَّفُ عن مال فيه شبهة بين رهط لا يتورعون عن المال الحرام.

يصوم تطوعاً بين قوم لا يصومون، وإن صاموا لا يحفظون صيامهم مما يفسده.

يذكر الله في رفقة غافلة.

يغض بصره في من يجرحون بأبصارهم ويخدشون الحياء بأفعالهم.

يدعو من حوله إلى النجاة، وهم يدعونه إلى النار.

فالصبر على هذا وعدم الإنجرار مع التيار المضاد، يضمن لصاحبه أعظم الثواب عند الله؛ ولذا وردت الآثار بفضل ذكر الله في الغافلين، وأكَّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: «عبادة في الهرج والفتنة، كهجرة إليَّ».

والهرج هو وقت الفتن واختلاط الأمور حيث يخف أمر الدين ويقلُّ الاعتناء به ولا يبقى لأحد اعتناء الا بأمر معاشه ودنياه، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة وكثر ثوابها حتى ساوى ثواب الهجرة بعنائها ومشاقها.

3- صبر الزمن الصعب:

فلا شك أن الصبر على الطاعات والصبر عن الشهوات في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الفتن -يعتبر أكثر ثواباً وأعلى مقاماً، حيث تعرض الفاحشة نفسها جهاراً نهاراً، ولم تعد تتوارى حياءاً ولا خوفاً؛ مما ينزع كراهية الحرام من القلب، ويغرس حب الحرام بدلاً منه.

أضف إلى هذا قلة الأعوان على الخير، ثم تواري العلماء والمصلحين خوفا أو ورعا، ثم غياب التقوى في من يحيط بك وجرأتهم على السوء والعصيان، ومن هنا عظم أجر المهتدي ونال غاية الثواب.

4- صبر الشباب:

فالصبر في هذه المرحلة العمرية التي تشتد فيها قوة النفس الأمَّارة بالسوء، وتشتعل الشهوة الجَموح، وتنفتح أبواب الإغراءات على مصراعيها، وتتنوع المُلهيات، وتعرض نفسها على الراغبين كل ساعة فوق طبق من ذهب؛ وأين هذا من صبر الشيخ الذي نامت شهوته وسكن هواه؟

وليس معنى كلامي أن المطلوب من الشباب اليوم أن يُطَلِّق شهوته وينسى غريزته؛ بل المطلوب أن يكظم النفس عنها رجاء ما هو أحلى في الجنة، أو يصبر عنها حراماً حتى ييسِّرها الله له حلالاً، وذلك في مقابل الأجر العظيم والجزاء الذي لا يوصف، لأن لكل شيء مقابل، والمقابل عند الله لا حدود له ولا نهاية لفضله.

سُئل عمر بن الخطاب عن قوم يشتهون المعصية ولا يعملون بها، فأجاب بقول القرآن: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].

ومن الأجر العظيم أن تكون في ظل العرش يوم القيامة، ومن هنا استحق السبعة المذكورون في الحديث الصحيح أن يظلَّهم الله في ظل عرشه؛ وذلك لكمال صبرهم ومشقته؛ فالإمام العادل: صبر في حكمه حالة رضاه وغضبه، والشاب الذي نشأ في طاعة الله: صبر على العبادة في ظل مغريات العصر ومخالفة هواه، والرجل الذي قلبه معلَّق بالمساجد: صبر على ملازمته والمكوث فيه، والمتصدِّق بيمينه حتى أخفاها عن شماله: صبر على الرياء وحب محمدة الناس، والمتحابين في الله في اجتماعهما وافتراقهما: صبرا على طاعة الله، والباكي من خشية الله: صبر على كتمان ذلك وعدم إظهاره للناس.

5- الصبر على ما تم اعتياده:

قال ابن القيِّم: "فإن للعادة طبيعة خاصة؛ فاذا انضافت الشهوة إلى العادة تظاهر جندان من جند الشيطان، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما".

ويكون للصبر هنا أعظم الدور في علاج الإدمان بكل أنواعه: إدمان سماع الغناء، أو إدمان مشاهدة المواقع الإباحية، أو أكل الرشوة، أو ترك الصلاة، أو الوقوع في أعراض الخلق؛ فإن كل هذه سيئات، من اعتادها مع مرور الأيام صَعُب عليه التحوُّل عنها، ومن فارقها وصبر على مفارقتها بعد أن اعتادها كان له عند الله الجزاء الأوفى؛ على ما لقيه من عناء، وقاساه من بلاء.

ويضرب ابن القيِّم مثلاً حياً لذلك، حين يتناول معاصي الفرج واللسان بقوله: "الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما؛ فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان؛ كالنميمة، والغيبة، والكذب، والمراء، والثناء على النفس -تعريضا وتصريحا-، وحكاية كلام الناس، والطعن على من يبغضه، ومدح من يحبه، ونحو ذلك... فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر، ولا سيما إذا صارت المعاصي اللسانية معتادة للعبد؛ فإنه يعِزُّ عليه الصبر عنها، ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورَّع عن استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكُّه في أعراض الخلق".

6- أشق الصبر:

قال ابن القيم: "مشقَّة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد؛ فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر، وإن فُقِدا معاً سهل الصبر عنه، وإن وُجِد أحدهما وفُقِد الآخر سهل الصبر من وجه وصعب من وجه؛ فمن لا داعي له إلى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هو سهل عليه فصبره عنه من أيسر شيء عليه وأسهله، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيء عليه. ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشباب عن الفاحشة، وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكان".

فمن أشق الصبر الذي يحتسب به العبد أعظم الأجر: رجل فقير في شدة الاحتياج إلى المال تُعرض عليه الرشوة فيأبى، وشاب في عنفوان الشباب يعيش في الغربة وتُعرض عليه الفاحشة فيأبى، وامرأة كثيرة الكلام دخلت في خصومة مع جارة لها ثم جلست مع من يقع في جارتها فتصون لسانها وتأبى.

7- الصبر عند مواسم الجزر:

الشيطان يتَحيَّن لحظات الفتور عند العبد، ولن يجرؤ على مواجهة جيش قلبك عند اشتداد هجمة الإيمان عليه؛ بل يتربص حتى تحِين استراحة مقاتل، وعند إخلادك إلى الراحة يبدأ الانقضاض عليك. ومن صبر عند مواسم الفتور ونوبات ضعف الإيمان عن شهوة مُحرَّمة، أو عن ذنب خلوة، أو عن صحبة سوء، أو عن لقمة شهوة؛ كان أجر صبره هو الأعلى وإيمانه الأقوى، وكان في ذلك دلالة على قوة قلبه ولو في لحظات ضعفه، ومجاهدته لنفسه حتى عند أوقات فتوره.

8- قوة الصبر الثلاثية:

من الناس من يشقُّ عليه الصبر على الطاعة، وبعضهم بالعكس؛ تسهل الطاعة عليه، لكن ترك المعصية عليه شاق، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية؛ لكنه ضعيف الصبر عند المصائب فيجزع. وأعظم الصابرين من عرف الأنواع الثلاثة: ذاق الطاعة فواظب عليها، وذاق المعصية فعافها، ونزل به البلاء فاستقبله استقبال الأبطال.

9- الصبر على ما بعد الصبر:

قد يصبر الإنسان على العمل الصالح حتى يؤديه، لكنه يُعجَب بعمله، ويُتبِعه بالمنِّ؛ فيكون هذا أضرّ عليه من كثير من المعاصي. فمن الصبر عدم إبداء الصبر، كما أن من الإخلاص إخفاء الإخلاص؛ فمن صبر عن الحرام وجعل ذلك سراً بينه وبين ربه -لم يُفشِه- أوتي أجره مرتين: ثواب الصبر، وثواب الإخلاص؛ وقد حقق هذين الأجرين كثير من الصالحين ولا يزالون، فعَن أبي عبدة العبدري: "لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الغنائم؛ أقبل رجلٌ بحَقٍّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض -بيت المال-، فقال الذين معه: "ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه"، فقالوا له: "هل أخذت منه شيئا؟!" فقال: "أما والله لولا الله ما أتيتكم به"؛ فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا: "من أنت؟!" فقال: "لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليُقرِّظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه"، فأتبعوه رجلاً، حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه؛ فإذا هو عامر بن عبد قيس ".

المصدر: كتاب جرعات الدواء

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 28
  • 4
  • 80,207
المقال السابق
(5) استراحة القلب
المقال التالي
(7) فرق الإنقاذ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً