(14) مصارف الزكاة
المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية.
- التصنيفات: فقه الزكاة -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية، بيَّنها الله تعالى بيانًا شافيًا، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة، وأنه مبني على العلم والحكمة، فقال جل ذكره: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. فهؤلاء ثمانية أصناف هم أهل الزكاة الذين تدفع إليهم.
الأول والثاني: للفقراء، والمساكين، وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم، والفرق بين الفقراء والمساكين: أن الفقراء أشد حاجة، لا يجد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة، والمساكين أعلى حالًا من الفقراء؛ لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية، وهؤلاء يعطون لحاجتهم.
ولكن كيف نقدر الحاجة ؟
قال العلماء: يعطون لحاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة. لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال، فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة، فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة. وهذا قول حسن جيد، أي أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل، سواء أعطيناه أعيانًا من أطعمة وألبسة، أو أعطيناه نقودًا يشتري بها هو ما يناسبه، أو أعطيناه صنعة أي آلة يصنع بها إذا كان يحسن الصنعة: كخياط، أو نجار، أو حداد ونحوه. المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة.
الثالث: العاملون عليها: أي الذين لهم ولاية عليها من قبل أولي الأمر، ولهذا قال: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] ولم يقل: العاملون فيها. إشارة أن لهم نوع ولاية، وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها، وكتابها ونحوهم، وهؤلاء عاملون عليها يعطون من الزكاة.
ولكن كم يعطون منها ؟
العاملون على الزكاة مستحقون بوصف العمالة، ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف، وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة، فإن قدر أن العاملين عليها فقراء، فإنهم يعطون بالعمالة، ويعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم. لأنهم يستحقون الزكاة بوصفين العمالة عليها والفقر، فيعطون لكل من الوصفين، ولكن إذا أعطيناهم للعمالة ولم تسد حاجتهم لمدة سنة، فنكمل لهم المؤونة لمدة سنة، مثال ذلك: إذا قدرنا أنه يكفيهم لمدة سنة عشرة آلاف ريال، وأننا إذا أعطيناهم لفقرهم أخذوا عشرة آلاف ريال، وأن نصيبهم من العمالة ألفا ريال، فعلى هذا نعطيهم ألفي ريال للعمالة، ونعطيهم ثمانية آلاف ريال للفقر.
الرابع: المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يعطون لتأليفهم على الإسلام: إما كافر يرجى إسلامه، وإما مسلم نعطيه لتقوية الإيمان في قلبه، وإما شرير نعطيه لدفع شره عن المسلمين، أو نحو ذلك ممن يكون في تأليفه مصلحة للمسلمين.
ولكن هل يشترط في ذلك أن يكون سيدًا مطاعًا في قومه حتى يكون في تأليفه مصلحة عامة، أو يجوز أن يعطى لتأليفه ولو لمصلحته الشخصية: كرجل دخل في الإسلام حديثًا، يحتاج إلى تأليفه وقوة إيمانه بإعطائه؟
هذه محل خلاف بين العلماء، والراجح عندي: أنه لا بأس أن يعطى لتأليفه على الإسلام بتقوية إيمانه، وإن كان يعطى بصفة شخصية وليس سيدًا في قومه، لعموم قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، ولأنه إذا جاز أن نعطي الفقير لحاجته البدنية والجسمية فإعطاؤنا هذا الضعيف الإيمان لتقوية إيمانه من باب أولى؛ لأن تقوية الإيمان بالنسبة للشخص أهم من غذاء الجسد.
هؤلاء أربعة يعطون الزكاة على سبيل التمليك، ويملكونها ملكًا تامًّا حتى لو زال الوصف عنهم في أثناء الحول لم يلزمهم رد الزكاة، بل تبقى حلالًا لهم، لأن الله عبر لاستحقاقهم إياها باللام فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، فأتى باللام، وفائدة ذلك: أن الفقير لو استغنى في أثناء الحول فإنه لا يلزمه رد الزكاة: مثل لو أعطيناه عشرة آلاف لفقره وهي تكفيه لمدة سنة، ثم إن الله تعالى أغناه في أثناء الحول باكتساب مال، أو موت قريب له يرثه أو ما شابه ذلك، فإنه لا يلزمه رد ما بقي من المال الذي أخذه من الزكاة ؛ لأنه ملكه.
الخامس من أصناف أهل الزكاة: الرقاب، لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}، والرقاب فسرها العلماء بثلاثة أشياء:
الأول: مكاتب اشترى نفسه من سيده بدراهم مؤجلة في ذمته، فيعطى ما يوفي به سيده.
والثاني: رقيق مملوك اشْتُرِيَ من الزكاة ليعتق.
الثالث: أسير مسلم أسره الكفار فيعطى الكفار من الزكاة لفكهم هذا الأسير، وأيضًا: الاختطاف، فلو اختطف كافر أو مسلم أحد من المسلمين فلا بأس أن يفدى هذا المختطف بشيء من الزكاة، لأن العلة واحدة، وهي فكاك المسلم من الأسر، وهذا إذا لم يمكننا أن نرغم المختطف على فكاكه بدون بذل المال إذا كان المختطف من المسلمين.
السادس: الغارمين. والغرم هو الدين، وقسم العلماء رحمهم الله الغرم إلى قسمين: غرم لإصلاح ذات البين، وغرم لسداد الحاجة، أما الغرم لإصلاح ذات البين، فمثلوا له بأن يقع بين قبيلتين تشاحن وتشاجر أو حروب، فأتى رجل من أهل الخير والجاه والشرف والسؤدد، وأصلح بين هاتين القبيلتين بدراهم يتحملها في ذمته، فإنا نعطي هذا الرجل المصلح الدراهم التي تحملها من الزكاة، جزاء له على هذا العمل الجليل الذي قام به، الذي فيه إزالة الشحناء والعداوة بين المؤمنين وحقن دماء الناس، وهذا يعطى سواء كان غنيًّا أم فقيرًا، لأننا لسنا نعطيه لسد حاجته، ولكننا نعطيه لما قام به من المصلحة العامة.
أما الثاني: فهو الغارم لنفسه، الذي استدان لنفسه ليدفعه في حاجته، أو بشراء شيء يحتاجه يشتريه في ذمته، وليس عنده مال، فهذا يوفى دينه من الزكاة بشرط أن لا يكون عنده مال يوفي به الدَّين.
وهنا مسألة: هل الأفضل أن نعطي هذا المدين من الزكاة ليوفي دينه أو نذهب نحن إلى دائنه ونوفي عنه ؟
هذا يختلف، فإن كان هذا الرجل المدين حريصًا على وفاء دينه، وإبراء ذمته، وهو أمين فيما يعطى لوفاء الدين فإنا نعطيه هو بنفسه يقضي دينه، لأن هذا أستر له وأبعد عن تخجيله أمام الناس الذين يطلبونه.
أما إذا كان المدين رجلًا مبذرًا يفسد الأموال، ولو أعطيناه مالًا ليقضي دينه ذهب يشتري أشياء لا ضرورة لها فإننا لا نعطيه، وإنما نذهب نحن إلى دائنه ونقول له: ما دين فلان لك؟ ثم نعطيه هذا الدين، أو بعضه حسب ما يتيسر.
السابع: في سبيل الله. وسبيل الله هنا المراد به الجهاد في سبيل الله لا غير، ولا يصح أن يراد به جميع سبل الخير؛ لأنه لو كان المراد به جميع سبل الخير لم يكن للحصر فائدة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. إذ يكون الحصر عديم التأثير، فالمراد في سبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فيطعى المقاتل في سبيل الله، الذين يظهر من حالهم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، يعطون من الزكاة ما يحتاجون إليه من النفقات والأسلحة وغير ذلك، ويجوز أن تشترى الأسلحة لهم من الزكاة ليقاتلوا بها، ولكن لابد أن يكون القتال في سبيل الله.
والقتال في سبيل الله بَيَّنَه الرسولُ صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} والذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
»، فالرجل المقاتل حمية لوطنه وغير ذلك من أنواع الحميات ليس يقاتل في سبيل الله فلا يستحق ما يستحقه المقاتل في سبيل الله، لا من الأمور المادية الدنيوية، ولا من أمور الاۤخرة، والرجل الذي يقاتل شجاعة أي أنه يحب القتال لكونه شجاعًا ـوالمتصف بصفة غالبًا يحب أن يقوم بها على أي حال كانت ـ هو أيضًا ليس يقاتل في سبيل الله، والمقاتل ليرى مكانه، يقاتل رياء وسمعة ليس يقاتل في سبيل الله، وكل من لا يقاتل في سبيل الله فإنه لا يستحق من الزكاة ؛ لأن الله تعالى يقول: {قال أهل العلم: ومن سبيل الله: الرجل يتفرغ لطلب العلم الشرعي، فيعطى من الزكاة ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة وطعام وشراب ومسكن وكتب علم يحتاجها، لأن العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: "العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته"، فالعلم هو أصل الشرع كله، فلا شرع إلا بعلم، والله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، ويتعلموا أحكام شريعتهم، وما يلزم من عقيدة وقول وفعل.
أما الجهاد في سبيل الله فنعم هو من أشرف الأعمال، بل هو ذروة سنام الإسلام، ولا شك في فضله، لكن العلم له شأن كبير في الإسلام، فدخوله في الجهاد في سبيل الله دخول واضح لا إشكال فيه.
الثامن: ابن السبيل. وهو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته، فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله لبلده، وإن كان في بلده غنيًّا؛ لأنه محتاج، ولا نقول له في هذه الحال: يلزمك أن تستقرض وتوفي لأننا في هذه الحال نلزمه أن يلزم ذمته دينًا، ولكن لو اختار هو أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة فالأمر إليه، فإذا وجدنا شخصًا مسافرًا من مكة إلى المدينة، وفي أثناء السفر ضاعت نفقته ولم يكن معه شيء وهو غني في المدينة، فإننا نعطيه ما يوصله إلى المدينة فقط، لأن هذه هي حاجته ولا نعطيه أكثر.
وإذا كنا قد عرفنا أصناف أهل الزكاة الذين تدفع لهم فإن ما سوى ذلك من المصالح العامة أو الخاصة لا تدفع فيه الزكاة، وعلى هذا لا تدفع الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المكاتب وشبه ذلك، لأن الله عز وجل لما ذكر أصناف أهل الزكاة قال: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي أن هذا التقسيم جاء فريضة من الله عز وجل {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
ثم نقول: هل هؤلاء المستحقون يجب أن يعطى كل صنف منهم ؛ لأن الواو تقتضي الجمع؟
فالجواب: أن ذلك لا يجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: « » فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صنفًا واحدًا، وهذا يدل على أن الآية يبين الله تعالى فيها جهة الاستحقاق، وليس المراد أنه يجب أن تعمم هذه الأصناف.
فإن قيل: أيها أولى أن تصرف فيه الزكاة من هذه الأصناف الثمانية؟
قلنا: إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد؛ لأن كل هؤلاء استحقوا الوصف، فمن كان أشد إلحاحًا وحاجة فهو أولى، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين، ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60].
والله تعالى أعلى وأعلم.
(مجموع فتاوى ابن عثيمين [18/331]- [339])