وإلا فستدركه ذنوبه

منذ 2015-09-22

من عزّ على الله تعالى عصمه، ومن هان عليه خلّاه ونفسه فعصاه؛ فاشترى قليلا بكثير، وباع غاليا برخيص، واستأمن دقائق ليفزع كثيرا يوم اللقاء.

كثير من الناس يرى المصائب منفردة عن عمله، غير مسببّة عن أعماله، ولا علاقة لها به. ويحلو لفريق من الشباب المفتقد لليقين في حكمة الله ورحمته، والمفتقد لتعظيم ربه تعالى، أن يلحد أو ينفي وجود ربه ويتعدى على قدسيته تعالى، استنادا لمجريات أحداث الخلق معترضا ومتبرما.

هو لا يفتقد لدليل على وجود الله تعالى، بل هو وقح في التعامل مع ربه تعالى خالٍ من تعظيمه ومحبته.. وكم ممن أجرموا من أمثاله قد حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ووجدوا ما وعدهم ربهم حقا يوم لا ينفع اليقين الناتج عن الرؤية ولا العمل الصالح بعد المعاينة.

*  *  *

بينما قليلٌ من يرى للمصائب علاقة بعمله؛ فالمؤمن يربط المصيبة بعمله كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]؛ مع رؤية حِلم الله تعالى؛ إذ أنه تعالى لا يعاقب بكل الذنوب {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].

وقليل من القليل من يرى حقيقة المصيبة واتساع مدلولها؛ ويعلم ما هو أوْلى بهذه التسمية؛ فالمصاب في الرزق والبدن {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: من الآية 177] مصاب.. وكذا المصاب في الولد والأهل، وكذا الهَمّ والحزن والوصب والنصب.

لكن المصيبة الأعظم هي المصيبة في الدين والقلب؛ لكن الشأن كل الشأن في الشعور بها؛ ولهذا حذر تعالى من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأنذر بأعظم مصاب وهي الفتنة: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، وقال تعالى عن من تولى يوم أُحد: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، وقال تعالى فيمن صرفهم عن دينه ورفضوا حكمه الناسخ والشرعة الخاتمة: {فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49]، وقال صلى الله عليه وسلم في فوات صلاة العصر: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ» (متفق عليه)؛ يعني فقدهما وأُصيب فيهما.

إن وحشة القلب وضعف اليقين، ونسيان الآخرة، والانصراف عن قضايا المسلمين مصاب فادح؛ مصاب أعظم من فوات الأهل والولد. وإن غلظة القلوب ونسيان العلم وضعف الخشية من الله والجرأة على المحرمات مصاب فادح ومهلِك.

*  *  *

وبغضّ النظر عن الشُبه والجدال وغيره؛ فإن وقوف ملتحٍ ينتسب الى السلف حاملا لافتة مكتوب عليها بكل أدب وأخلاق رفيعة "السيسي في القلب يا اولاد الكلب"! هذا الموقف المهين والمُهان هو نتاج أعمال سلفت..

موقف إلا لأنهم ـ كما قالوا "عجزوا عن المواجهة ولا يستطيعون أن يخبطوا راسهم في الحيطة"ـ فساعدوا وشايوموقف الآخر يحمل ويلصق صور من جاء يؤكد العلمانية ويبدل الشرائع ويرسخ للإباحية ويطمس الهوية ويوالي الصهاينة، وهم يشتكون أنهم لم يقفوا هذا العوا ورضوا ودعوا الناس الى الباطل. هذا الموقف مصاب أعظم من لو أنه خسر الدنيا بأكملها..

وإن جلوس لحية متدلية يقول صاحبها مفتخرا "أنا أول من دافع عن الفنانة الفلانية" وهي مشتهرة بالتعري والإجرام، وهو نفس الشخص الذي سكت عن، أو برّر وسهّل، أو برّأ المجرمين، من هتْك عرض تلك الفتاة ـ في رابعة والميادين ـ التي تلبس خمارها، وتصوم النهار وتقوم الليل ممسكة مصحفها، ترتله، ختمته مرات ومرات، ترفع يديها باكيةً داعيةً ضارعةً لمولاها أن يفرّج كرب أمّتها ويمكّن لمن يقيم الدين!

فهتكوا عرضها أو قنصوها في قلبها الزكي، أو أشعلوا النار في جثتها! فلم تتحرك فيهم قطرة دم..بل قالوا غرّها من أخرجها؛ وعلى هذا فقد غرّ المرابطات بالأقصى من أخرجهن، بل يسري الأمر على صحابة وصحابيات رسول الله اللاتي خرجن معه.

وقوف هذا الموقف ليس مفاجأة إنما هو نتاج أعمال سلفت سقط صاحبها من عين الله تعالى فأوقفه هذا الموقف؛ لم يتوبواولم يضرعوا، بل لا يزالون يلجّون في عتو ونفور.

أهانهم الله فكانوا هناك؛ وقفوا حيث لم يتوقعوا هم أنفسهم أن يقفوا بعد أن كانوا يهتفون على المنابر "اتقوا الله حق التقوى فإن أجسادكم على النار لا تَقوى".

*  *  *

المصيبة أن الناس قد لا ترى هذه المصيبة، بينما هي أعظم من فقد الولد أو البصر أو المال بما لا يقارن؛ يقول الإمام البيضاوي في تفسيره لسورة غافر: "أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذّتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذّتها وألمها" وقيامة النفوس هي الموت.

أظنك قد تفهم الآن معنى «...ولا تجعل مصيبتنا في ديننا» (رواه الترمذي).
جاء رجل بالعراق إلى أبي موسى الأشعري تائبا من الحرابة، فأخذ بيده وقال للناس: هذا فلان قد جاء تائبا من الحرابة قبل أن نقدر عليه فلا سبيل لأحد عليه، فإن كان صادقا فهو سبيله، وإلا فستدركه ذنوبه.
قال الراوي فلم يمض قليلٌ حتى وجدناه مقتولا في خرِبة، فعلمنا أنه قد أدركته ذنوبه؛ يعني لم يكن صادقا في توبته.
من عزّ على الله تعالى عصمه، ومن هان عليه خلّاه ونفسه فعصاه؛ فاشترى قليلا بكثير، وباع غاليا برخيص، واستأمن دقائق ليفزع كثيرا يوم اللقاء.

إلجأ لربك كثيرا، واضرع مليّا، وتب مرارا وتكرارا؛ وابْك على خطيئتك، وكُن من ذنوبك أشد فزعا من أفعى تحت الثياب؛ واسأل الله تعالى ألّا تدركك ذنوبك.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 4
  • 0
  • 7,216

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً