صاحبنا الذي ودع الثقافة

منذ 2015-09-28

حينما يشع الفضلاء والتجار أموالا باذخة، يشع هو كنوزًا وجواهر فاخرة، تتقاصر أمثالها، ويندر أشباهها، نابغة نابه، ومتطلع شائق، يحب العلماء وطروحاتهم، والمثقفين ومقالاتهم، والشعراء وقصائدهم، لحنُه كتاب، ولحظه حِكم، ونسائمه فكر وإبداع.

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

حينما يشع الفضلاء والتجار أموالًا باذخة، يشع هو كنوزًا وجواهر فاخرة، تتقاصر أمثالها، ويندر أشباهها،
نابغة نابه، ومتطلع شائق، يحب العلماء وطروحاتهم، والمثقفين ومقالاتهم، والشعراء وقصائدهم، لحنُه كتاب، ولحظه حِكم، ونسائمه فكر وإبداع. يعبّر عما في مكنوناته بكل وعي وإطلاع. وفجأة تلحظ إنزواءه، وغيابه عن المشهد، لا تدري هل التفسير انشغال عائلي، أو طموح تجاري، أو مشكلة نفسية، أو هروب اجتماعي، أو شللية سالبة. نقبله ولا يقبلُ، ونسأل عنه ولا يسألُ. فلم يعد ذاك المُطالِع النهِم، أو الخليل الآسر بكلامه، أو المتحدث اللبِق، والفصيح السيال، أو الحاضر الذهن والمعلومة. وغاب عنا معنى:

أنا من بدل بالكتب الصحابا ** لم أجد وافيًا إلا الكتابا

آخر ندوة شهدها قبل عشر سنوات، وكتبه اعتراها العجاج المطبق، ومسامراته الثقافية تلاشت، وبات في وادٍ جديد، ومع شلة جديدة. والهاتف الذكي مُعَطَّل، وإن شغله، انتهى إلى رسائل طرائف وترفيه، أو فوائد محدودة مقصوصة، ويذكر أن آخر كتاب اقتناه كان من مدة طويلة، وآلت أمواله في زينة وبهارج، والله المستعان.

يتأسف المرء، أن ينتهي العقل النبيه إلى مرتع سقيم.

لهونا لعمر الله حتى تتابعت *** ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ

يُدعى فيعتذر، ويُخاطَب فيناور، ويُتَقَصَّد فيفر، أقيمت عليه الحجج من كل مكان، وبات في مأزق الدعوات المتوالية، ولكنه يُصِّر على هواه الجديد، ومسلكه المنزوي، فتركه زملاؤه لحاله التي يروم.

هون عليك ولا تبالِ بحادثٍ *** يشجيك فالأيامٌ سائرة بنا

وبعد مدة طويلة رؤيَ وقد تغير شكله، وضعف فكره، وتلاشت ثقافته، ولم يعد فلان الفلاني، المتحدث أو الشاعر والخطيب والمثقف. بيعت كل إمكاناته، وتلاشى غالب مواهبه، وأضحى شبيهاً بالعامة، لا رأي ولا فكر ولا عطاء.
تألمْت حينما قابلتُهُ في مناسبة، فتكلمنا فبان كلامه، وحصحص منطقه عن تغير شديد، وتحول رهيب، وجفوة ثقافية متلظية، ولا يُدرى ما الذي اكتوي به صاحبنا الخلوق، ورفيقنا الوقور.وكلما ازددت نظرًا له، تضاعف معي الألم، وخالطني الحزن، على التلاشي والضياع والانشغال.


ولذلك أحبابي، لا تضيعوا مواهبكم، أو تقتلوا إبداعكم، أو تنحطوا بفكركم، احرسوا تلك المواهب كحراستكم الأموال والطعام، واهتموا بها كحرصكم على الملاذ والحاجات. إذ ربما لا تعود، والحياة فرص كما يقال.

إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكونا

والفرص الثقافية تتوالد بالكتاب، وشهود الندوات، ومحبة الأمسيات، وتحفظ الماتع، ومصاحبة المفكرين وأرباب الأدب، والذائقة الطروب، والتي قد تنتهي إلى منتج ثقافي راقي، يفاخر به المجتمع، وإن لم يكن فلا أقل من صناعة وعي، أو تلذذ معرفي غير محدود.
النهم الثقافي بوابة إلى القراءة والوعي، وتدعيم المواهب، وحفز الطاقات، وهو مما يحفظ أوقات الشباب، ويصون من المجالس اللاهية والباهتة، وهي للكبار زيادة في الخبرة والوعي واستغراق إبداعي خصيب.

والسلام.

-----------

د.حمزة بن فايع الفتحي

  • 2
  • 0
  • 2,158

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً