تصالحوا، تصافحوا، تناصحوا

منذ 2015-09-28

أحسن إلى من أساء إليك، وتجاوز عمن تعدي عليك، واعف عمن ظلمك، وأعط من حرمك، وارحم من أغلظ عليك، واجعل عفوك على كرمك دليل، فقد قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر من الآية:85].

بسم الله الرحمن الرحيم 
وليعفوا وليصفحوا 
الحمد لله العفو الغفور، الحليم الرحيم، والصلاة والسلام على الرسول الكريم الذي لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح (صحيح سنن الترمذي [2/196] [1640]).

أما بعد: 

فإن العفو عن المعتدي، والصفح عن المؤذي، من أعظم الأعمال، وأكرم الخصال التي يؤجر عليها العبد المسلم الذي آثر آخرته على دنياه، وقدَّم ما يبقى من الأجور والثواب في يوم الحساب على ما يزول ويفنى من أخذ الحقوق واستيفاء ما للنفس من واجبات. 

قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ} [الشورى من الآية:40]. 

وإنها لكبيرة إلا على أولي العزم من الرجال ذوي العزائم العظام كالجبال! 

قال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43].

وما دام المرء مع غيره من الناس، فإنه لن يسلم من خصيم، ولن تصفو له الحياة من غير تكدير، ولن يعيش فيها من دون معارض أو مغرض، فإنها مطبوعة على الأكدر، ممزوجة بالمنغصات، مختلطة بالمشاكل والخلافات، فهي دار البلايا والرزايا، والسعيد فيها من خرج منها وليس لأحدٍ عليه مظلمة، أو في ذِمَّته مغرمة، وتلك رحى البلاء، ومضمار الاختبار! 

وهنا يبرز دور العفو عن المظالم، والصفح عن المخاصم، والتجاوز عن المعتدي، والسماح للمسيء، لتصفو القلوب، وتتجانس الأرواح، ويتحد الصف، ويلتم الشمل، وتسل سخائم النفوس. 

قال تعالى: {إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149].

وليست القوة في أخذ الحقِّ، بل في تركه بعد القدرة عليه، والمسامحة عنه خلف الوصول إليه، وليس لها سوى أهل السُّمو من الهمم، والعلو من العزائم، فالعفو عِزٌّ، والصفح كرامة، والسماحة مروءة. 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مالٍ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عِزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلاَّ رفعهُ اللهُ» (صحيح مسلم [4/1588] [2588]).

وما مِنَّا من أحدٍ إلا ويحب أن يُغفر له إذا أخطأ، ويُسامح إذا تجاوز، فلم لا يبذل المعروف لغيره، ويمنح العفو لسواه؟! 

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارحموا تُرحموا، واغفِرُوا يُغفَر لكُم» (رواه أحمد ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب [2/641] [2465]). 

وعن جرير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يَرحم لا يُرحم، ومن لا يغفِر لا يُغفر له، ومن لا يتب لا يُتب عليهِ» (أخرجه الطبراني في الكبير ، انظر: السلسلة الصحيحة ([1/792] [483]). 

ونفسك ميدانك الأول، فهب للناس ما ترجوه لنفسك، وسامح من يسيء إليك، واصفح عمّن تعدى عليك، فيوم الجزاء بين يديك، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجلٍ يُجرحُ في جسدهِ جِراحةً، فيتصدَّقُ بها، إلاَّ كفَّر الله عنه مثلَ ما تصدَّقَ بهِ» (أخرجه أحمد في المسند، انظر: السلسلة الصحيحة [5/343] [2273]). 

وعن رجلٍ من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أُصيبَ بشيءٍ في جسده، فتركَهُ لله عزَّ وجلَّ؛ كان كفَّارةً له» (رواه أحمد ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب [2/640] [2461]). 

وبين يديك سار الأبطال، فقدِّم لنفسك قبل خروج نفسك! 

* أُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة: "ما ترى؟" قال: إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم" (إحياء علوم الدين ـ الغزالي [3/196]). 

* عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأذن له، فقال له: "يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل". فغضب عمر رضي الله عنه حتى همَّ أن يُوقع به، فقال الحرُّ بن قيس: "يا أمير المؤمنين! إن الله عزَّ وجلَّ قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإنَّ هذا من الجاهلين". 

فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله تعالى (مختصر منهاج القاصدين ـ ابن قدامة ـ ص 187). 

* روي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما كان له عبد يقوم بخدمته، ويقرب إليه طهره فقرب إليه طهره ذات يومٍ كوزا، فلما فرغ الحسين من طهوره رفع العبد الكوز من بين يديه فأصاب فم الكوز رباعية الحسين، فكسرها، فنظر إليه الحسين، فقال الغلام: "{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}" قال: "قد كظمتُ غيظي" فقال: "{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}" قال "قد عفوتُ عنك"، قال: "{وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}" قال: "اذهب فأنت حرٌ لوجه الله تعالى" قال: "وما جائزة عتقي؟" قال: "السيف والدرقة فإني لا أعلمُ في البيتِ غيرهما" (دليل الفالحين ـ ابن علان الصديقي [1/197]). 

* جاء غلامٌ لأبي ذر رضي الله عنه وقد كسر رجلَ شاةٍ له، فقال له: "مَن كسَر رجل هذه؟" قال: "أنا فعلته عمداً لأغيظك، فتضربني، فتأثم". فقال: "لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقَه وعفى عنه" (مختصر منهاج القاصدين ـ ابن قدامة المقدسي ـ ص 190). 

فأحسن إلى من أساء إليك، وتجاوز عمن تعدي عليك، واعف عمن ظلمك، وأعط من حرمك، وارحم من أغلظ عليك، واجعل عفوك على كرمك دليل، فقد قال تعالى:  {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر من الآية:85].

عبد اللطيف بن هاجس الغامدي

مدير فرع لجنة العفو واصلاح ذات البين - بجدة .

  • 4
  • 0
  • 11,447

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً