ما كان لله بقى.. الإخلاص في التأليف

منذ 2009-03-15

وروي أنه لما ألف مالك موطئه قيل له: "ما الفائدة في تصنيفك؟"، فقال: "ما كان لله بقي"، ذكر ذلك السيوطي في (تدريب الراوي).

نقل ابن عبد البر في التمهيد قصة تأليف مالك لموطأه فقال: "قال المفضل بن حرب: أول من عمل الموطأ عبد العزيز بن الماجشون: عمله كلاماً بغير حديث، فلما رآه مالك قال: "ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا لبدأت بالآثار ثم شددت بالكلام"، ثم عزم على تصنيف الموطأ فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت فقيل لمالك: "شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله؟"، فقال: "ايتوني به فنظر فيه ثم نبذه"، وقال: "لتعلمن ما أريد به وجه الله تعالى". قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار" (1) ا.هـ

وقال ابن عبد البر أيضاً: "وبلغني عن مطرف بن عبد الله النيسابوري الأصم صاحب مالك أنه قال: "قال لي مالك: ما يقول الناس في موطئي؟"، فقلت له: "الناس رجلان محب مطرٍ وحاسدٍ مفتر"، فقال لي مالك: "إن مد بك العمر فسترى ما يراد الله به"" (2) ا.هـ.

وروي أنه لما ألف مالك موطئه قيل له: "ما الفائدة في تصنيفك؟"، فقال: "ما كان لله بقي"، ذكر ذلك السيوطي في (تدريب الراوي).

وحال مالك: كما قال ابن المبارك:
إني وزنت الذي يبقى ليعدله
ما ليس يبقى فلا والله ما أتزنا


قلت: سبحان الله اندثرت تلك الموطآت ولم يبق إلا موطأ مالك، ومع أنه بقي طول هذه المدة إلا أن العلماء وقَّعوا على الكتاب وشهدوا على جلالته، واعتنوا به اعتناء منقطع النظير، فيقول الإمام عبد الرحمن بن مهدي: "ما نعرف كتاباً في الإسلام بعد كتاب الله عز وجل أصح من موطأ مالك" (3)، والشافعي يقول: "ما كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك رحمه الله" (4).

قال ابن خلدون في (مقدمته): "وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها ومن لدن صنف(5) إلى هلم(6)، وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه ولم يختلف في ذلك اثنان..." (7).

وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء): "وإن للموطأ لوقعا في النفوس، ومهابة في القلوب لا يوازنها شيء..." (8)، وقال في موضع آخر: "وما زال العلماء قديما وحديثا لهم أتم اعتناء برواية "الموطأ" ومعرفته، وتحصيله" (9).

قلت: وقد صنفت موطئات كثيرة في زمن مالك، ولم تكن في الحجم والكبر دون موطأ مالك، ولكن لم يكتب الله لها الدوام والاستمرار كما كتب لموطأ مالك، ومنها موطأ ابن أبي ذئب، قال الدار قطني: "كان ابن أبي ذئب صنف موطأ فلم يخرج" (10)، ومنها موطأ ابن وهب تلميذ مالك: قال الذهبي: "قلت: موطأ ابن وهب كبير لم أره" (11).

قلت: وإن الله تعالى كتب لعبارة مالك تلك: "ما كان لله بقي"، البقاء كما كتب لكتابه الموطأ، فصارت مثلاً، كما كان موطئه جبلا.

ولقد كانت تلك العبارة تشدني كثيراً، وتلوح لي عند كتابة أي حرف على قرطاس، وكم استوقَفَتْ نفسي لتتصارع معها فيما يخطه المداد، هل سيذهب أدراج الرياح، أم سينفع الله به، وهي هموم تجول في خواطر أولي النهى على ما اعتادته النفوس البشرية وهو أمر طبعي، لكن النفوس المريضة التي تبحث عن الشهرة- لا جعلنا الله منهم- تجول في خواطرها كم عدد القراء؟، وماذا يكون رد فعل الجمهور؟، وتتطلع إلى ثناء الناس ومديحهم، قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر): "ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته؛ لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له، ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك... فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً؛ لأنه غير مقبول عند الخالق ولا عند الخلق؛ لأن قلوبهم قد ألفتت عنه، فقد ضاع العمل، وذهب العمر" (12).

وأما أولي الخفاء والإخلاص فإنهم يقذفون بالحق بإخلاص غير مبالين بما يقوله الأنام، فينفع الله فيه، ويدمغ به الباطل بقدر إخلاصهم ويقينهم حين تصنيف الكتاب.

ولقد أوضح الإمام مالك رحمه الله لكل مؤلف ومصنف بعده منهجاً كان مرسوماً ممن قبله، يقوم على أن أي كتاب يراد له البقاء على مر العصور فلا بد أن يكون القصد فيه لله دون قصد الثناء أو الاعتلاء على أكتاف الآخرين، والله عليم بذات الصدور، ولما صدق مالك مع الله في كتابه هذا أبقاه الله، وبقدر إيمان العبد وإخلاصه في التأليف يقع به النفع، ويكون البقاء، فإن عظم إخلاصه كثر ذكر كتابه وتردده على الألسن، وكلما ضعف الإخلاص ضعف تأثير الكتاب في الناس، وقل ذكر الألسن له.

والإخلاص كما يقول أهل السلوك درجات بعضه فوق بعض، وليس على مرتبة واحدة، وما كان للشيطان فليس له دوام، ولكنه زبد يذهب جفاء: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ...} [سورة الرعد: 17]، قال الجاحظ واصفاً بعض الكتاب: "فتأمَّل الكتَّاب... إن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنبْتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون" (13).

كما أوضح لنا الإمام مالك في مقولته تلك أن من أخلص عمله لله وقصد بكتابه وجه الله لم يلتفت إلى كلام المثبطين، ولم يخش لوم اللائمين، ولا نقد الفارغين؛ لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيراً مما كان لله فيه رضا، وكان خوفهم فوق خوف ملامة الله، وهذا ما عمله الإمام مالك حيث لم يلتفت إلى كثرة الموطآت في المدينة، ولم يعر للنقد بالاً، ولم يقعده التثبيط عن تصنيف موطئه.

ولا يعني بحال أننا نجزم أن كل كتاب نفع الله به ظاهراً أن صاحبه كان به مخلصاً، ولا أي كتاب اندثر ولم يبق، أن في إخلاص مصنفه شيئاً؛ لأن أعمال القلوب علمها عند علام الغيوب، فقد يكتب الله البقاء الدائم لكتاب أراد مؤلفه منه الشر أو الحياة الدنيا أو ضعف إخلاصه فيه، ويُقيّض الله له من يعتني به ابتلاء وامتحاناً لمؤلفه أو لآخرين، وقد يكتب الله لكتاب آخر الفناء والانقطاع السرمدي ابتلاء وامتحاناً، أو رحمة لمؤلفه، وليس لضعف في إخلاصهم، وهذا الظن في السلف وكتبهم التي لم يكتب لها البقاء مثل موطأ ابن أبي ذئب وابن وهب وغيرهم.

وقد يكون هناك من الأسباب النظرية التي تجعل الكتاب ينتشر ويشتهر دون غيره إضافة إلى أمر الإخلاص، وهو عناية التلاميذ، وكثرة الأصحاب والأتباع، وفي عصرنا الحاضر الدعاية الإعلامية، وحسن الطباعة والإخراج وغير ذلك من الأمور الظاهرية التي في الحقيقة وحدها ليست بشيء إذا انعدم معها الإخلاص، بل لا أبالغ إذا قلت إن وجود الإخلاص وحده كاف في إشهار الكتاب وبقاءه على مدار التاريخ، ولو بدون دعاية أو حسن طباعة، بل ربما تصير أقوال العالم كتباً على مدار التاريخ لم يسطرها بيده، ولكن سطرها الإخلاص لله، والصدق معه، والجهاد باللسان، فيقيض الله لكلامهم من يدونه فيكون كتاباً ينفع الله به المسلمين أجمع، وقد حفظ لنا التاريخ شيئاً كثيراً من ذلك، وتراثاً ضخماً من أقوالهم.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس إخلاصاً في دعوته، وأعظمهم إيماناً، وأخشاهم لله؛ حفظ الله للأمة أقواله بل وأفعاله وتقريراته، وسيرته وغزواته، وكل صغيرة وجليلة من حياته، صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يدون كلامه صلى الله عليه وسلم في كتاب، ولا أمر به، بل نهى عنه حتى لا يختلط بالقرآن، فقيض الله لإمام المخلصين صلى الله عليه وسلم من يحفظ له أقواله وسنته، وقيض له من يحميها من التحريف والكذب من أئمة الجرح والتعديل، ومن يدونها في الكتب في عهد القرون الأولى، حتى بقيت إلى يومنا هذا، بقاء القرآن الكريم.

ولما سار الصحابة على نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإخلاص والدعوة والخشية لله أبقى الله لنا كثيراً من أقوالهم وأفعالهم بقدر إخلاصهم، فحفظت لنا كتب الآثار والمصنفات الكثير من أقوال أبي بكر وأفعاله؛ لأنه يأتي بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإخلاص واليقين، وهكذا عمر ثم عثمان ثم علي، وهكذا بقية الصحابة تزخر كتب المصنفات والآثار بتاريخهم وسيرهم وأحوالهم، يزيد بعضهم على بعض في الإخلاص وينقص، حتى صارت أقوالهم موضع قدوة واحتجاج واقتداء، وكذلك تلقى التابعون وأصحاب القرون المفضلة الثلاثة من الصحابة الإخلاص لله تعالى، فدون التاريخ مآثر وأقوال ثلة كبيرة من الصالحين والمخلصين منهم، فأضحت أقوالهم منارات تنير الطريق، وحكماً تزيد في الإيمان لم يجعلوها في كتب ولا مصنفات، ولا في دواوين ولا مؤلفات، حفظها عنهم التلاميذ والأصحاب فخلدها التاريخ لصدقهم وإخلاصهم، أمثال الحسن البصري وسعيد بن المسيب والسفيانين وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والنماذج من أقوالهم ومآثرهم التي خُلِّدت كثيرة جداً لا تكاد تحصى، ولكن أشير إلى بعض المواقف التي تدلنا على مدى إخلاصهم في أقوالهم وكتاباتهم، فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس يتكلم في تفسير القرآن وبيان معانيه أمام حشد من المتلقين، ولم يدونه في كتاب له، بل لم يكن التأليف عندهم معهوداً، فيقضي الله تعالى أن تدون أقوال هذا الحبر في كتب التفسير ثم تفرد في كتاب مستقل بعد قرون يحمل اسم (تفسير ابن عباس رضي الله عنه).

وموقف آخر يرويه ابن عساكر عن أبي سعيد رضي الله عنه، فقد روى عن عكرمة قال قال لي ابن عباس ولعلي ابنه انطلقا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه، فأتيناه وهو في حائط له، فلما رآنا قام إلينا، فقال مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنشأ يحدثنا، فلما رآنا نكتب قال لا تكتبوا واحفظوه كما كنا نحفظ... (14)، ومع هذا النهي منه رضي الله عنه فقد حفظت لنا السنة أحاديثه التي رواها، وتولى الله إبقاءها.

وموقف ثالث من تلميذ نبيه لابن عباس وهو مجاهد كان يقول لأصحابه: "لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به، وإنما يكتب الحديث، ولعل كل شيء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غداً" (15)، ويريد الله تعالى أن يبقي لهذا العالم أقواله وآراءه، مع نهيه عن الكتابة عنه، ولم يؤثر هذا النهي في نقل علمه.

وموقف رابع من أحد أتباع التابعين وهو الإمام مالك فقد أبقى الله لنا موطئه كما علمنا، كما أبقى لنا فقهه وعلمه وأقواله وأجوبته ظاهرة جلية في (المدونة) التي دونها تلاميذه وأشهرهم سحنون، ولم يكتبها في مصنف، وفي آخر جزء من المدونة لسحنون التعليق التالي: "كتبه ناسخ هذا الجزء: سمعت الكتاب، وكتبته بيدي، وسوف تبلى يدي ويبقى الكتاب" أهـ، وسبحان الله بليت اليد، وبقي الكتاب، هذا الكتاب الذي يبقى لصاحبه.

ذكر يسار به في البدو والحضر

تَعَلَّمَنْ أنَّ الدواةَ والقلَمْ *** تَبقى ويُفْنِي حادثُ الدَّهر الغَنَمْ

وموقف خامس من الإمام الشافعي تلميذ مالك رواه ابن عساكر في تاريخه عن البويطي قال: قلت للشافعي: "إنك تتعبنا في تأليف الكتب وتصنيفها والناس لا يلتفتون إليك ولا إلى تصنيفك"، فقال لي: "إن هذا هو الحق والحق لا يضيع" (16).

وقال الشافعي: "ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [سورة النساء: 82]، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب أو السنة فقد رجعت عنه" (17).

وقال الربيع: دخلت عليه وهو مريض فذكر ما وضع من كتبه، فقال: "لوددت أن الخلق تعلموا هذه الكتب ولم ينسب إلي منها شيء أبداً" (18)، وقال مرة: "وددت أن كل علم تعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني"، وهذه العبارات التي سطرها التاريخ تدلنا على المرتبة التي وصل إليها أولئك الأخفياء من الإخلاص حيث بلغوا منه المراتب العليا، حين تجردوا من حظوظ النفس ومبتغاها، فاستحقوا بعدها من عند الله ثمرة الذكر الحسن، والبقاء لكتبهم وأقوالهم بل ومذاهبهم وسيرهم، وهذه كتب الإمام الشافعي التي دونها بنفسه، أو دونها عنه تلاميذه باقية على مر العصور، وما كتابا الأم والرسالة عنا ببعيدين.

وموقف سادس من الإمام أحمد رحمه الله تلميذ الشافعي فقد كان يرفض مبدأ التصنيف والتأليف في الفقه تقديراً للكتاب والسنة، وكان يعتبر ذلك بدعة، وواضعها مبتدع (19)، ونهى أصحابه عن كتابة فتاويه، ويقول لهم: "خذوا من حيث أخذت"، ولم يؤثر عنه تأليف خاص من قوله إلا رسالة (الصلاة) ألفها لإمام مسجد رأى منه تقصيراً في الصلاة (20)، قال ابن القيم: "ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك"، ولم يكن لنهيه رحمه الله تأثير على حفظ مذهبه وأقواله وأجوبته، فشرع أصحابه بتدوين المسائل التي أفتى بها، فهناك مسائل الإمام أحمد لأبي داود، وأخرى لابن أبي هانئ، وأخرى لابنه صالح، وأخرى لابنه عبد الله... وأخرى، حتى نهيه عن الكتابة عنه حفظوه وبقي، فنفع الله بعلمه -الذي دونه أصحابه- الإسلام والمسلمين، وصارت أقواله مذهباً يذهب إليه طائفة كبيرة من العلماء، أبقاها الله تعالى لنا لإخلاص هذا الرجل وجهاده في ذات الله، وحاله في عجز البيت التالي:
إن تكتبوا نكتب وإن لا تكتبوا***تأتيكم بمكانكم كتبي

بل لم يكتف التاريخ بتسطير أقواله، ولكن تُوج التاريخ بسيرته العطرة المليئة بالكفاح والجهاد بالحجة والبيان، والمليئة بالابتلاء والامتحان، بل وسطر التاريخ مشهد جنازته العظيمة التي صَدَقَ فيها مقولته الشهيرة، والتي أبقاها الله تعالى لنا على مدار التاريخ كما بقي علمه ومذهبه، وصارت مثلاً للعلماء لا ولن ينسى وهي: "بيننا وبينكم يوم الجنائز" (21)؛ لعلمه أنه على الحق، ولصدقه مع ربه، وثقته به، وإخلاصه له، فحقق الله له مناه، وخلد ذكره، ونصر به السنة، واستحق لقباً لم يسبقه عليه أحد: (إمام أهل السنة).

قال ابن كثير معلقاً على مقولته تلك: "وقد صدق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يتلفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان..." (22).

يا قائلاً قصُرَت في العلم نُهْيَتُهُ *** أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِبُ
إنَّ الأوائل قد بانوا بعلمهم *** خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهبوا
ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لنا أدباً *** نكون منه إذا ما مات نَكتِسبُ


وهكذا بقية القرون التالية لم تخل من أولئك العلماء الأخفياء يدل على درجة إخلاصهم، شهرة كتبهم، وكثرة طباعتها، وقبول العالمين لها، أينما تتجه إلى بلد أو مكان تجد الكتاب، فهذا البخاري يصنف صحيحه الذي زاحم موطأ مالك ليبقى ذكره ليس بين العلماء فحسب بل بين العوام والصغار، ولا يزال العلماء من بعده يلهجون باسمه أو صحيحه في كتبهم، ودروسهم، ومحاضراتهم، وخطبهم، واجتماعاتهم، لا يكاد يخلو شيء منها من لفظة: (رواه البخاري في صحيحه، أو أخرجه البخاري، أو صححه البخاري، أو ضعفه البخاري...)، ولذا لما علم رحمه الله أثر الإخلاص وصلاح النية في بقاء الكتاب وقبوله لدى الناس صدر كتابه بحديث (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...) فكان هذا الحديث أول حديث في كتابه مع غرابة إسناده كما هو مقرر في علم المصطلح، قال ابن بطال: "قال لي أبو القاسم المهلب بن أبي صفرة: وإنما قدم البخاري، رحمه الله، حديث "الأعمال بالنيات" في أول كتابه، ليعلم أنه قصد في تأليفه وجه الله، عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخاري في تأليفه" (23).

قلت: ولعل هذا الملحظ انتبه له العالم المحقق أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) فصدر كتابه بهذا الحديث كصنيع البخاري، فانطبع إخلاصه في التأليف على الكتاب حتى رأينا من شأنه عجباً يندر له النظير، ليبقى هذا الكتاب شامخاً بين العلماء والعوام على حد سواء، بل لو قيل إن أشهر كتاب بين العوام اليوم هو رياض الصالحين لم يكن ذلك بعيداً، ولا يكاد يخلو مسجد من المساجد إلا وفيه "رياض الصالحين" تجده شامخاً في أحد الرفوف بجانب القرآن الكريم، وما من إمام مسجد إلا وقرأ على جماعته هذا الكتاب كله أو بعضه، وقد طبع آلاف الطبعات، حتى قيل: "ما من دار نشر إسلامية إلا وطبعت هذا الكتاب".

وتستمر سلسلة عجائب الإخلاص في التأليف والكتابة بعد أولئك الأخفياء ليرينا التاريخ أعاجيب أخرى فجر فيها الإخلاص كل القيود ووسائل الحصار والتضييق على التأليف، فهذا أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله يسجن ويمنع من نشر علمه الغزير بين العالمين، ويمنع عنه في سجنه المداد والكاغد.

ويشاء الله أن يخرج علم ذلك الجبل من خلف كل تلك السدود، ليحفل الإسلام والمسلمين ببحور من العلم في فتاويه التي كتبها في سجنه، لتجمع بعده في قرون ويطلق عليها: (مجموع فتاوى ابن تيمية) ما من عالم أو طالب علم إلا وفي مكتبته نسخة منه، وصار مجموعه مورداً عذباً للفقهاء والأصوليين والمحدثين وعلماء العقيدة... وكل الباحثين، والدعاة والمربين، قد ضرب في كل فن وعلم وباب بسهام كثيرة..

وأصبحت آراؤه وتقريراته وتحقيقتها هي المعتمدة عند كثير من العلماء من بعده حتى إنه ما من عالم أو طالب أو باحث إلا ويحرص أن يضمن رأيه أو مقاله أو بحثه أو فتواه بشيء مما سطره ابن تيمية في فتاويه المجموعة، ومن حقنا أن نضمن هذا المقال بشيء مما قاله في هذا المجال، حيث كان من مقوله المتكرر في خمسة مواضع من مجموع الفتاوى وبعض كتبه: "ما لا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم" (24)، وقال في درء تعارض العقل والنقل نحوه: "وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه، فما لا يكون به لا يكون فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لايصلح ولا ينفع ولا يدوم" (25)، وهي قريبة من عبارة مالك والشافعي رحمهم الله تعالى، وقد شاء الله تعالى لفتاويه وأقواله- وهي من أعماله- أن ينتفع بها العباد في سائر العلوم، وتصلح وتدوم، كما بقيت ودامت كتب وأقوال من سبقه بإذن الحي القيوم.

وعلى هذا النهج سار تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية فصار لا يُذكر ابن تيمية إلا ويذكر بعده، فابن القيم معطوف، وشيخه معطوف عليه، وبينهما حرف عطف، نفع الله بعلومهما وكتبهما، واشتركا في كثير من العلوم والمعاني كما اشتركا في العطف والخفض والنصب والرفع والجزم، ومن بعد فلا عجب أن تجدهما يتفقان في بعض المعاني بل والعبارات والألفاظ، ومنها العبارة السابقة الذكر حيث يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا صلاح له - أي العمل- إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه: هو الله وحده، كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه، فوجوده بالله وحده وكماله أن يكون لله وحده، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم". كما قال شيخه رحمه الله، ولا أدري هل نقل العبارة منه، أو هو من توارد الأفكار وهو غير بعيد، ووارد عند كثير من العلماء.

وتسير قافلة الكتب المخلصة تمخر عباب بحر الشبهات والشهوات لتقف في كل قرن وتحمل معها نتاج علم العلماء شاءوا أم أبوا ممن أراد الله بقاء علمهم وكتبهم، وفي القرن الثاني عشر تقف القافلة لتحمل معها كتيباً صغير الحجم، عظيم القدر، كتب الله فيه النفع العظيم، وشاء له البقاء، وشاء لغيره مما خالفه الزوال والفناء، كيف لا يبقى وقد اجتمعت فيه عوامل البقاء ظاهرة من إخلاص لله تعالى في الهدف والمنهج والتأليف والدعوة، والحرص على نفع العباد وتصحيح عقيدة التوحيد، وتصفيتها عما يشوبها من الشرك والتنديد، كيف لا يبقى ولا ينتفع به والحاجة الماسة لمثله في وقته قائمة على أشدها، كيف لا يبقى وقد بناه على الكتاب والسنة، والحرص على نصح الأمة، ولم يبنه على قواعد المنطق ومصطلحات المتكلمين التي خطؤها أكثر من صوابها، إنه (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ألَّفه في بيان توحيد الألوهية الذي هو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، والبراءة من ذلك، وبيان ما يناقضه من الشرك الأكبر، أو ينقص كماله الواجب أو المستحب من الشرك الأصغر، وقسم الكتيب إلى أبواب، وأورد في كل باب ما يشهد له من الآيات والأحاديث، فهو مبني على الكتاب والسنة: قال الله، قال رسوله، كما قال الشاعر:
العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين النصوص وبين رأي فقيه


ولم يورد الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب إلاَّ ما صح من الأحاديث، أو كان حسن الإسناد، أو هو ضعيف الإسناد، وله شواهد تقوّيه أو هو داخل تحت أصل عام يشهد له الكتاب والسنة، مما ترجم له الشيخ في أبواب الكتاب (26).

ثم إن الشيخ رحمه الله ذكر في آخر كل باب ما يستفاد من الآيات والأحاديث التي أوردها فيه من مسائل العقيدة؛ مما يعتبر فقهاً لنصوص الباب، بحيث يخرج القارئ بحصيلة علمية جيدة من كل باب، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد) الذي هو شرح لكتاب التوحيد: "قد جاء- أي كتاب التوحيد- بديعاً في معناه من بيان التوحيد ببراهينه، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه، فصار علماً للموحدين، وحجة على الملحدين، فانتفع به الخلق الكثير، والجم الغفير، فإن هذا الإمام -رحمه الله- في مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين، الذي بعث الله به المرسلين: من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين، فأعلى الله همته، وقوى عزيمته..." (27) الخ، وقال الشيخ ابن قاسم في حاشيته على كتاب التوحيد: "وهذا الكتاب في التوحيد وما يجب من حق الله على العبيد، الذي لم يعلم له نظير في الوجود، قال فيه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
قد ألف الشيخ في التوحيد مختصرا***يكفي أخا اللب إيضاحاً وتبيانا
فيه البيان لتوحيد الإله بما***قد يفعل العبد للطاعات إيمانا
حباً وخوفاً وتعظيماً له ورجا***وخشيةً منه للرحمن إذعانا

وغير ذلك مما كان يفعله***لله من طاعة سراً وإعلانا
وفيه توحيدنا رب العباد بما***قد يفعل الله إحكاما وإتقانا
وفيه توحيدنا الرحمن أن له***صفات مجد وأسماء لمولانا

وفيه تبيان إشراك يناقضه***بل ما ينافيه من كفران من خانا
أو كان يقدح في التوحيد من بدع***شنعاء أحدثها من كان فتانا
أو المعاصي التي تزري بفاعلها***مما ينقص توحيداً وإيمانا

فساق أنواع توحيد الإله كما***قد كان يعرفه من كان يقظانا
وساق فيه الذي قد كان ينقصه***لتعرف الحق بالأضداد إمعانا
مضمناً كل باب من تراجمه***من النصوص أحاديثاً وقرآنا

الشيخ ضمنه ما يطمئن له***قلب الموحد إيضاحاً وتبيانا
فاشدد يديك بهذا الأصل معتصماً***يورثك فيما سواه الله عرفانا
وانظر بقلبك في مبنى تراجمه***تلقى هنالك للتحقيق عنوانا

وللمسائل فانظر تلقها حكماً***يزداد منهن أهل العلم إتقانا
وقل جزى الله شيخ المسلمين كما***قد شاد للملة السمحاء أركانا


وقال الشيخ أحمد بن مشرف رحمه الله تعالى:
وألف في التوحيد أوجز نبذة***بها قد هدى الرحمن للحق من هُدِي
نصوصاً من القرآن تشفي من العمى***وكل حديث للأئمة مسندِ


ومن استقرأه علم ذلك" (28) أ.هـ

وقد تصدى العلماء وطلاب العلم من بعده لشرحه، وصار طلاب العلم يحفظونه، بل وتقام المسابقات للصغار والكبار على حفظه، ورصدت لذلك الجوائز.

قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في كتابه (إعانة المستفيد) الذي هو أيضاً من شروح كتاب التوحيد: "وأما (كتاب التّوحيد) فهو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب... ولقد نفع الله بهذا الكتاب، وصار الطلاب يحفظونه، والعلماء يشرحونه ويوضحونه... نسأل الله أن يكتب الاستمرار لنفع هذا الكتاب في الأجيال اللاحقة، كما انتفعت به الأجيال السابقة"( 29)، ولأجل ذلك تسابقت الكثير من دور النشر على طباعته، وتسابق أهل الخير والجود بتحمل نفقات طباعته ونشره، وتسابقت الجمعيات الخيرية على توزيعه على الناس في مواسم الحج، فطبعت منه آلاف بل ملايين النسخ، وماكان لله بقي ونفع الله به.

وسار أبناء الشيخ وأئمة الدعوة بعده على هذا النهج، ونفع الله بهم وبفتاويهم ورسائلهم التي دونت وجمعت بعدهم لم تكن لتبقى لولا إرادة الواحد الأحد.

ويلمع منهم ذلك الحفيد الشيخ محمد بن إبراهيم وسلك نهج أجداده في الدعوة إلى التوحيد، والنصح الأمة رغم تقلده وتحمله لعشرات الوظائف العظيمة الثقيلة في الدولة، من الإفتاء، والقضاء، والتعليم العالي (جامعة الإمام والجامعة الإسلامية)، وتعليم البنات، وغيرها من الوظائف التي قسمت الآن على أكثر من رجل بمرتبة وزير، فقيّض الله له من طلابه البررة من جمع له فتاويه ورسائله في مجموع بلغ 13 مجلدا، وسميت: (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم) وسارت به الركبان، وطارت شهرته بخوافي النسور وقوادم العقبان، وهي فتاوى ورسائل مباركة انتفع به العلماء والقضاة وطلاب العلم إلى هذا اليوم، وله شروح وحواشي على عدد من الكتب.

وتستمر القافلة في المسير لنشاهدها في زماننا هذا تُركب معها نتاج ثلة من علمائنا المخلصين أمثال الشيخ العلامة الزاهد عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي أنار درب السائلين، في برنامج: "نور على الدرب" لتجمع تلك الأنوار فتضيء لنا فتاويه وأقواله المجموعة الطريق، ولم يكن ليسطرها بيده مع كف بصره، ولكن بفضل الإخلاص لله تعالى، وبذل العلم والوقت للمسلمين، والحرص على هداية العالمين يقيض الله له من يدونها عنه ويراجعها ويحققها، ويخرج أحاديثها ويدققها.

وغير بعيد عنه صنوه وتلميذه الفقيه الذي أمتع الأمة والفقهاء بفقهه وعلمه، يلقي الدرس، وجل همه تعليم طلابه العلم وتفهيمهم بكل تجرد وإخلاص، فتكون دروسه المسجلة بعد سنين، كتباً ينهل منها كل طلاب العلم الراغبين، وما كتابه (الشرح الممتع على زاد المستقنع) الذي أثنى عليه كبار أهل العلم إلا أثراً من آثار الإخلاص لله تعالى، وأصبح علم هذين العلمين "ابن باز وابن عثيمين" وآرائهما موضع راحة واطمئنان للعامة والخاصة كما غدت أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله على الجميع.

وإن نَسِيت القافلة أن تقل أحداً على مر التاريخ فلن ولم تنس الإمام المحدث خادم السنة وناصرها، محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه الذي قدم مشروعاً للأمة منقطع النظير، حين أقبل على كتب السنة يحققها، ويبين الصحيح من العليل، في (سلسلة)، فيروي بعدها الغليل، في (إرواء الغليل)، ويدون التحقيق والتصحيح والتضعيف في كتبه لتبقى بعده تنطق باسمه، ويلهج طلاب العلم برأيه"صححه الألباني، وحسنه الألباني، وضعفه الألباني...) كما نطقوا باسم البخاري وغيره من قبل، ولله في خلقه شؤون.

تلك بعض نماذج من كتب أهل العلم وأقوالهم العلمية، والتي حملتها القافلة وأبقاها لنا التاريخ، ونفع الله بها الأمة، لم نرم من ورءاها الحصر، ولم نقصد القصر، وإلا فالتاريخ الماضي والحاضر مليء بالنماذج الجديرة بالذكر، ولكن شهرة تلك النماذج وقبولها لدى الناس تستوقف المتأمل، وتثير العجب، ومن رام لعلمه البقاء فليكن لله، وأجدها فرصة أن ألخص أبرز عوامل ذلك البقاء، نستوحيها من أقوال أولئك الأخفياء، ووجود كتبهم إلى يومنا هذا، ومنها:

أولاً: الإخلاص لله في التأليف والفتوى، فإنما الأعمال بالنيات، وفيما سبق من التقرير، كفاية عن التكرار، ومن روائع تعليقات وتوقيعات ابن القيم في إعلام الموقعين ما سطره بعد نقله لكلام الإمام أحمد رحمه الله حين قال: "قال -أي الإمام أحمد- لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، الخامسة: معرفة الناس. وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه"، ثم بين بعد ذلك منزلة النية من الفتوى فقال: "فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، فكم بين مريد الفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته وما يناله منه تخويفاً أو طمعاً، فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب، هذا يفتي لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار إليه، وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما فالله المستعان، وقد جرت عادة الله التي لا تُبدل، وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويُلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبِغضة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء..." (30) إلخ.

ثانياً: أن يكون التأليف فيما الناس بحاجة ماسة إليه، تُحل فيه بعض الإشكالات، أو تبين من خلاله الأخطاء والضلالات، أو تقرر فيه ما يخشى اندراسه من أولى المهمات، كتقرير التوحيد وتصحيح العقيدة، وهذا من أهم عوامل قبول الناس لـ(كتاب التوحيد)، علاوة على الإخلاص.

ثالثاً: بناء المؤُلَّف على الكتاب والسنة، بمفهوم سلف الأمة، وعلى حسب ما يقرره أهل التحقيق من أهل العلم، وكل كتاب أو فتوى لا تُضَمّن فيهما الكتاب والسنة، ولا يبنى على القواعد الشرعية، والأصول المرعية فهو خل وبقل (31).

قال ابن تيمية رحمه الله: "فدين المسلمين مبني على إتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون" (32) أ.هـ، ونقل ابن تيمية عن الجنيد: "علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن".

هذا هو الإخلاص وأثره على بقاء الذكر، وظهور ثمرة علم العالم، وهو مطلوب شرعاً في كل عمل وليس في التأليف والفتوى وطلب العلم فحسب، وإنما خصصت الحديث عن الإخلاص في التأليف والفتوى والدعوة وطلب العلم حثاً لطلاب العلم والعلماء عليه، ولتذكير كل مؤلِّف به إن رام لمؤلفه وعلمه النفع والبقاء، وهو عنوان هذا المقال؛ إذ هم من أحوج الناس إليه، ولم نقصد بالمقال تتبع أثر الإخلاص في كل عمل صالح سوى التأليف، فإن هذا مما يعجز الحال والوقت من استيعابه، والنماذج فيه قد لا تنحصر، وله وقفة خاصة مستقلة.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
================================
(1) التمهيد لا بن عبد البر (1/86).

(2) التمهيد لا بن عبد البر (1/85).

(3) سير أعلام النبلاء (9/205).

(4) التمهيد (1/77).

(5) قال في معجم البلدان: صنْفٌ : بالفتح ثم السكون، موضع في بلاد الهند أو الصين ينسب إليه العُودُ الصنفيُ الذي يتبخر به وهو من أردء العود لا فرق بينه وبين الخشب إلا فرقاَ يسيراً.

(6) يبدو أنها بلدة قديمة كانت في المغرب العربي، ولم أجد لها ذكر في معاجم البلدان.

(7) مقدمة ابن خلدون (7/684).

(8) سير أعلام النبلاء (18/203).

(9) سير أعلام النبلاء (8/85).

(10) العلل الواردة في الأحاديث النبوية (12/246).

(11) سير أعلام النبلاء (9/225).

(12) صيد الخاطر ص 122

(13) الرسائل ص 127

(14) تاريخ مدينة دمشق (43/46).

(15) قواعد التحديث ص52.

(16) تاريخ مدينة دمشق (51/365).

(17) تاريخ مدينة دمشق (51/365)، وتاريخ بغداد (14/254).

(18) تاريخ مدينة دمشق (51/365).

(19) سرد ابن القيم في الطرق الحكمية روايات الإمام أحمد الواردة في ذلك، ثم وجه رأي الإمام أحمد، وفصل القول في المسألة، فليراجع ص401.

(20) أنكر الذهبي أن تكون هذه الرسالة من تأليف الإمام أحمد، والصواب عكس ذلك، كما هو مسند عنه في الطبقات لابن أبي يعلى، وقد أشار لذلك الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل.

(21) تهذيب الكمال(1/467)، والبداية والنهاية (10/342)، وسير أعلام النبلاء (11/340).

(22) البداية والنهاية (10/342)، ولشيخ الإسلام تعليق على عبارة أحمد يرجع إليها في مجموع الفتاوى(4/11).

(23) شرح صحيح البخاري لابن بطال(1/31) وقد تكلم الشراح في سبب تصدير البخاري صحيحه بهذا الحديث مع أنه يخالف الترجمة ظاهراً "باب كيف كان بدء الوحي" فراجع شروح صحيح البخاري، ومنها فتح الباري لابن حجر وعمدة القاري للعيني، وغيرهما.

(24) مجموع الفتاوى(3/124)، (8/329)، (5/515)، (8/76)، (8/379).

(25) درء تعارض العقل والنقل (4/15).

(26) ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ص14

(27) فتح المجيد ص5

(28) حاشية كتاب التوحيد ص3

(29) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ص13-15

(30) إعلام الموقعين (4/199-200).

(31) أصل هذه العبارة لشعبة قالها في كل حديث يروى بدون سند رواها الخطيب في الكفاية عن أنه كان يقول: «كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل».

(32) مجموع الفتاوى (20/164).

عبدالمجيد المنصور



المصدر: الدرر السنية
  • 3
  • 1
  • 13,971

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً