الجانب الحسن في أحداث غزة

منذ 2015-09-30

الجهاد حكم شرعي، فيُرْجَع فيه لأهل الخبرة، وأعْلَم النَّاس في حكم جهاد أهل غزَّة هم أهل غزَّة، فهم مَن يَصطلي بهذا الواقع، فهُم أخبر النَّاس بهذا الواقع في تقْدير المصالح والمفاسد، فيُتْرَك الحكم لأهل غزَّة في توقيت الجهاد، فالأمر راجعٌ إلى القيادات الشَّرعيَّة والعسكريَّة والسياسيَّة في: "متى ينازل العدو؟ ومتى يُصبر عليه؟".

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضلَّ له ومَن يُضْلِل الله فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].

أمَّا بعد:
سنَّة الله في الصراع بين الحقِّ والباطل أنَّ الباطل قد يُدال على الحقِّ أحيانًا، لكنَّ العاقبة للرسل ولأتْباعهم، وعلى قدْر متابعة هذه الأمَّة لنبيِّها على قدر تَمكينهم ونصرهم على عدوِّهم، وقد أدرك هذه السنَّة هرقل النَّصراني؛ ففي حديث أبي سفيان في قصَّة سؤال هرقل له: «هل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالُكم إيَّاه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيْننا وبيْنه سجالاً، يُصيب منَّا ونُصيب منْه، فقال هرقل: وكذلك الرسُل تُبْتَلى ثمَّ تكون لهم العاقبة» (رواه البخاري[7])، (وصحيح مسلم [1773]).

والنفوس قد تملُّ وقد تكلُّ عن مواصلة الطَّريق حينما يدلهمُّ الخطب وتتوالى المِحَن، حتَّى معَ مَن كمل إيمانه، فربَّما أصاب النُّفوس الصَّادقة شيءٌ من الضَّعف وفترت حينما ترى قوَّة الباطل وصولتَه على أهل الحقِّ، فتطلَّعت النُّفوس الصَّادقة إلى نصر الله واستعْجَلَتْه، لكنَّ سنَّة الله في نصْر أوليائِه لا تأْتي إلاَّ بعد تمحيصٍ لِحِكَم يعلمها أحكمُ الحاكمين، منها: ليعلم الصَّادق ويظهر صدقُه، ويتبيَّن المدَّعي ويظهر المنافق الَّذي طالما تدثَّر بسِرْبال النِّفاق، فحينما يرى ضعْفَ أهْلِ الحقِّ، يظنُّ أنَّه لن تقوم لهم قائمة، فيظهر ما كان يبطنه؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

فكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حال استضعاف المسلمين يحثُّهم على الصَّبر، ويبشرهم بالنَّصر القادم، لكن مع عدم إغفال سنَّة الله في نصر أوليائه وأنَّ النَّصر لا يكون إلاَّ مع الصبر؛ فعن خبَّاب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا! ألا تدعو الله لنا! قال: «كان الرَّجُل فيمَن قبلكم يُحْفَر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسِه، فيشقُّ باثنتَين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمِه من عظْمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينِه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاَّ الله أو الذئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون» ( صحيح البخاري [3612)].

ومن أعظم ما كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَجعله له ذخرًا في جهاد الكفَّار: الدعاء بعد أخْذ العدَّة والاستِعداد على قدر الوسْع، فكان يلحُّ على ربِّه بالدُّعاء يستمطِر به النَّصر على الأعداء؛ فعن عمر بن الخطاب قال: «لمَّا كان يوم بدر نظَر رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم إلى المشركين وهُم ألفٌ وأصحابه ثلاثُمائة وتسعةَ عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلَّى الله عليْه وسلَّم القِبلةَ ثمَّ مدَّ يديْه، فجعل يهتف بربِّه: اللهم أنْجِز لي ما وعدتَني، اللهُمَّ آتِ ما وعدتَني، اللَّهم إن تُهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةَ من أهل الإسلام لا تُعْبد في الأرض، فما زال يهتِف بربِّه مادًّا يديْه مستقبل القِبلة حتَّى سقط رداؤُه عن منكبيْه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه فألقاه على منكبيْه، ثمَّ التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشدتك ربَّك فإنَّه سينجز لك ما وعدَك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فأمدَّه الله بالملائكة» (صحيح مسلم [1763]).

فالتعلُّق بالله في كلِّ وقت، وفي أوقات الشَّدائد خصوصًا، وعدم الرُّكون إلى قوَّة الشَّخص وما عنده من أسباب مادِّيَّة، فنحنُ في كلِّ صلاة فرض شرع لنا أن نتذكَّر هذه الحقيقة، فإذا قال المؤذِّن: "حيَّ على الصَّلاة حيَّ على الفلاح" أجبناه بقولنا: لا حوْل ولا قوَّة إلاَّ بالله، فنتبرَّأ من قوَّتنا ونطلب الله الإعانة على القِيام بما افترضَه عليْنا من أداء الصَّلاة الحاضرة، فلا ذلَّ مَن أخذ بالأسباب الشَّرعية واستعان بربِّه فيما لا يقدر عليْه.

الخطبة الثانية

ومع هذه الآلام ومع هذه المصائِب التي حلَّت، ينبغي أن لا يكون الهمُّ تعْداد الخسائر والوقوف عندها، بل ننظُر إلى المصالح الَّتي حصلتْ بسبب هذا العدوان، ومُحاولة معرفة الحِكَم مِن وراء هذا التَّسلُّط على الأموال والأنفس، فالمكاره لا تَخلو من خير عاجل أو آجل؛ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فسبحان أحْكمِ الحاكمين! لكن حِكمه قد تظهر كلُّها أو بعضُها للبعض، وقد لا تظهر.

فمثلاً: بسبَب هذه المحنة بدأ يدبُّ في نُفوس المسلمين -عربُهم وعجَمُهم- استِشْعار الأخوَّة الإسلاميَّة، وواجب النُّصرة على قدْر وسعهم.

وهذه الأحْداث وما قبلها أكدَّت للجميع تَخاذُل المنظَّمات الأمميَّة عن نصرة المظْلوم، والوقوف موقف المحايِد، بعد أن كانت هذه الحقيقة تُناقَش في أماكن النَّاس الخاصَّة وعبر بعض وسائل الإعلام، بدأ يصرِّح بها السَّاسة العرب وتحت قبَّة هذه المنظَّمات، فأنظِمتها سُنَّت لتخْدم طائفة معيَّنة من البشَر، بالطَّبع ليْسوا المسلمين، فحينما يبْدر خطأٌ من المسلمين -على التَّسليم أنَّه خطأ- يوصفون بأنَّهم خارِجون على الشَّرعيَّة الدَّوليَّة، ويُعاقب الشَّعب ويُفْرَض عليه الحصار حتَّى تتمَّ الاستِجابة لمطالب هذه المنظَّمات.

هذه الأحداث بدأت تدفع بالجِهاد إلى الواجِهة، بعد فترة من الزَّمن حاول الغرب النَّصراني والمنافقون أن يقْرِنوا الجهاد بالإرهاب، وأنَّ مَن يتكلم عن الجهاد ويدْعو له يصنَّف ضمن قائمة الجماعات الإرهابيَّة.

هذه الأحداث أماطتِ اللِّثام عن أكذوبة حقوق الإنسان التي يتشدَّق بها الغرب، وإنَّما يستغلُّ هذه الشعارات لترْويج الانحلال الخلقي والفكري والردَّة في بلاد المسلمين. 

في هذه الأحداث المؤْلِمة قام أغلب حكَّام الدول العربيَّة ومنهم ولاة أمر هذه البلاد وحكَّام البلاد الإسلاميَّة بما يستطيعونَه، عبر القنوات الدبلوماسيَّة، لكنَّ القويَّ هو الذي يفرض ما يريد، فأسأل الله أن يوفِّق حكَّام المسلمين لإعداد القوَّة لمثل هذه المواقف، بتحْكيم الشَّريعة في سائر شؤون الحياة، وبإعْداد القوَّة المعنويَّة والاستِغْناء في قطاع السِّلاح عن أعدائِهم، وما ذلك على الله بعزيز.

إضافةً إلى المصالح الخاصَّة لِمن أُصيب، من تكْفير السيِّئات ورفع الدرجات، والحصول على مرتبة الشَّهادة، بل حتَّى عامَّة المسلمين في مشارق الأرْض ومغاربها مأجورون حينما يستوْلِي عليْهم الحزن حينما يروْن ما يحلُّ بإخوانهم في الدين، ولا يستطيعون مساعدتَهم بكلِّ ما يتمنَّون.

معاشر الإخوة:
نسمع من البعض أنَّ أهل غزَّة أخطؤوا في التسبُّب في هذه الأزمة وأنَّ الواجب الصَّبر وعدم الرَّدّ على استفزازات اليهود، وعلى فرض أنهم هم الذين بدؤوا القتال مع اليهود: هل هم مخطِئون أم لا؟

قبل أن أجيب على هذا السؤال، أرجع بإخوتي إلى الوراء، ونستذكر مراحل تشْريع الجهاد، فكما هو ليس بخافٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد بعْثته لم يقاتِل الكفَّار في مكَّة، فقد توالت عليه صنوف الأذى، من الأذى المعنوي من اتِّهامه بالجنون والسِّحْر وطلبه للحكم، وغير ذلك من التهم، وكذلك أُوذي أذى معنويًّا ووُطئ على رقبته الشَّريفة، ووضع سلا الجزور عليه، وعذِّب ضعفاء أصحابه، وماتت سميَّة تحت التَّعذيب، ولم ينتصر لهم ولم يجيِّش مَن أسلم في مكَّة للتصدِّي لصناديد الكفر، إنَّما كان يأمرهم بالصَّبر، ويُخبرهم بما أعدَّه الله لهم وهو صابر كافٌّ يدَه عن المقاتلة، فقِتال الكفَّار في مكَّة كان محرَّمًا؛ لأنَّ مفسدته أعظم من مصلحته، ثمَّ في بداية العصْر المدني أُبيح القتال في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، ثمَّ بعد استِقْرار النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المدينة وبعد الاستِعْداد وأخذ أسباب القوَّة، فرض الجهاد في سبيل الله.

فالجهاد حكم شرعي، فيُرْجَع فيه لأهل الخبرة، وأعْلَم النَّاس في حكم جهاد أهل غزَّة هم أهل غزَّة، فهم مَن يَصطلي بهذا الواقع، فهُم أخبر النَّاس بهذا الواقع في تقْدير المصالح والمفاسد، فيُتْرَك الحكم لأهل غزَّة في توقيت الجهاد، فالأمر راجعٌ إلى القيادات الشَّرعيَّة والعسكريَّة والسياسيَّة في: "متى ينازل العدو؟ ومتى يُصبر عليه؟".
أثنِّي بما ذكرتُه قبل قليل: هذا على افتراض أنَّهم هم الذين بدؤوا بقتال اليهود.



الشيخ أحمد الزومان

  • 0
  • 0
  • 2,432

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً