الهجرة النبوية أبعادها وآثارها على المجتمع الناشئ

منذ 2015-10-05

الهجرة النبوية محطة عظيمة من محطات الأسوة والقدوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فيها من الدروس والأبعاد ما يعدُّ أساسًا لكلّ بناء وتغيير حضاري في مستقبل الإسلام، وقد كان لها أعظم الأثر على المجتمع الناشئ، حيث انتقل من صورة التجمع الجاهلي على مجرد النسب والتراب والصيد إلى التجمع على إعلاء عقيدة وحمل رسالة ونصرة أعظم قضية في الأرض.

السيرة النبوية تضع بين أيدينا منهجا فذًّا في التغيير والبناء الحضاري:

إن الله تبارك وتعالى وَضَعَ للبشريّة على مَرّ التّاريخ نماذِجَ دعوية خاصة تجسد فيها منهج بناء الوعي ومواجهة التحديات والبناء الحضاري للأمم، هم الأنبياء عليهم السلام، وقد أرشدنا ربنا سبحانه إلى الاقتداء بهم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:6]، وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4].

وبحكم كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وكون دعوته عالمية للناس أجمعين فقد جاءت رسالته وسيرته مستوعبة لكل ما كان ذا صبغة سُننية مُطَّردة في الخلق، مما أعطاه صفة المرجعية والمعايرة. قال ربنا سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

ولذلك كان فهم النبي صلى الله عليه وسلم لوحي الله تعالى وتمثله له ودعوته إليه وعمله من أجل تجسيده في واقع حياة اجتماعي وحضاري نموذجي، ومواجهته للتحديات التي تعيق ذلك مرجعا ومعيارًا للاقتداء والتأسي الموضوعي، ونحن نستفيدُ منه في جهاتٍ متعدّدة على رأسِها: تحقيق الفهم الأمثل للإسلام (وهذا التجديد في جانب الوعي والإدراك)، ومحاولة استثمار السنن النبوية في تغيير الواقع الإنساني (وهذا التجديد في جانب البناء والعمل).

و في ضوء هذه الاستفادة يمكننا طرح أسئلةٍ منهجيةٍ لاستثمار الموضوع:

- لماذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وتغرّب؟ ولماذا لم يبن مجدَهُ في مكة موطن السيادة والعراقة في العرب؟

- هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته مسيَّرًا منقادًا للوحي والتدبير الإلهي، أم كان يخطّطُ ويجتهدُ كما يفعلُ كلُّ مغيّر في التاريخ، أم أنه اجتمع له الاجتهادُ البشريُّ والتأييد الرباني حتى تحقق له ما تحقق؟

- ما السر في تحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للهجرة وفراق الأهل والمال والوطن؟

- ما هي أبعادُ الهجرة النبوية، وكيف يمكن أن نجعل منها مرجعًا ومعيارًا للاقتداء والتأسي الموضوعي؟

- ما هي آثارُ الهجرة النبوية على المجتمع المسلم الناشئ في المدينة، وكيف نستثمر تلك الآثار في واقعنا الاجتماعي المعيش؟

أسئلةٌ نُحاولُ الإجابة عنها بإذن الله تعالى في هذا المقال:

أبعاد الهجرة النبوية وأثرها على المجتمع المسلم الناشئ

فنسألُ اللهَ تعالى التوفيقَ إلى ما يحبُّ ويرضى.

طريق الهجرة النبوية وكرونولوجيا الأحداث:

لم تكنْ الهجرةُ النبوية إلى المدينة سياحةً ومتعة أو استكشافًا لعالمٍ جديد، فلقد كانتْ خياراً لا مفرّ منه، وحلًا أخيرًا بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت، وتغيرَ عليهم الناس، لقد كانت الهجرة مغادرةً للأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن جميع ذلك من أجل العقيدة والإسلام.

وحتَّى نفهم الهجرة النبوية وأبعادَها في إطارها الصحيح علينا أن نرجع قليلًا إلى الوراء، لنتعرَّف على الطريق الذي هاجرَ عبرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون:

جرائم قريش في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم والتصدي للدعوة:

السخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب: كما قص الله علينا: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29-32].

بداية الاضطهاد:

ثم إن قريشا تداعوا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب.

أمثلة:

- عمار وأمه ووالده ياسر: كان بنو مخزوم يخرجونهم إلى الأبطح يعذبونهم إذا حميت الرمضاء، فيمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنة» (فقة السيرة[103]).

- بلال بن رباح: كان مملوكا لأمية بن خلف وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وتعبد اللات والعزى. وقد كانوا يعطونه الولدان يجرونه ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

- وأما خبَّاب بن الأرت: فقد كان مولى لأم أنمار الخزاعية، فقد عذبه المشركون عذابًا شديدًا إذ كانوا يجرونه من شعره، ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالحجارة المحماة ويلوون رأسه. روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: "يا رسول الله؛ ألا تدعو لنا؟"، فقعد وهو محمر الوجه، فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاَّ الله» [3852].

هجرة الضعفاء إلى الحبشة: في شهر رجب سنة خمس من البعثة فلما اشتد البلاء بالمؤمنين؛ أذن الله سبحانه وتعالى لهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملِكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» (السلسة الصحيحة[7/577]).

المقاطعة العامة: ثلاث سنوات من سنة سبع إلى سنة عشر:

تعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب؛ أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وقد بقوا محبوسين ومحصورين مضيقًا عليهم جدًا، مقطوعًا عنهم الغذاء والمؤونة، نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد، وسُمِعَت أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، حتى إنهم كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر.

اشتداد الأذى وتراكم الأحزان على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد وفاة خديجة وأبي طالب: حتى إن أحدهم نثر فوق رأسه ترابًا، فدخل بيته وعلى رأسه التراب، فقامت إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها:  «لا تبك يا بنية؛ فإن الله مانع أباك» (دفاع عن الحديث[19]).

محاولات النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج بالدعوة خارج مكة:

الخروج إلى الطائف: في شوال سنة عشر من البعثة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف -وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا- سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهابا، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وكان على ثلاثة أميال من الطائف، وقد وقفوا له سِمَاطَيْن(أي صفين) وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصيب بشجاج في رأسه. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة كئيبًا محزونًا، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق عليهم الأخشبين، وقد روى البخاري تفصيل القصة.

المستقبل مع أولئك الشباب:

في موسم الحج من السنة الحادية عشر من البعثة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى الحج والعمرة طالبًا نصرتهم لدين الله تعالى، وإذا برهط من الخزرج من شباب يثرب عند العقبة-موضع بين منى ومكة منها ترمى جمرة العقبة- يتكلمون، فلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله: لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنتم؟، قالوا: نفر من الخزرج. قال: "من موالي اليهود؟ "قالوا: نعم. قال: " أفلا تجلسون أكلمكم؟ "، قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لبعض: يا قوم؛ تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدتكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلام فيها حتى لم تبق دار إلا ودخلها الإسلام».

بيعة العقبة الأولى: موسم الحج من السنة الثانية عشر من البعثة:

فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الماضي، ومعهم سبعة سواهم: روى البخاري عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة له، من أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه» (صحيح البخاري[3892]).

بيعة العقبة الثانية: موسم الحج السنة الثالثة عشر من البعثة:

حيث وافى الموسم هذا العام جمع كبير من مسلمي المدينة؛ ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، خرجوا مستخفين مع حجاج قومهم المشركين. فلما كانت ليلة العقبة في الثلث الأول منه؛ تسللوا إلى الشعب سرا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءهم ومعه عمه العباس وهو يومئذ كافر لم يؤمن، وإنما حضر ليستوثق لابن أخيه. فتكلم القوم وقالوا: خذ لنفسك ولربك ما أحببت يا رسول الله، فتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا لله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة» (صحيح دلائل النبوة[76]).

جاءت بعد كل هذا: الهجرة النبوية: ليلة 27صفر السنة الأولى للهجرة، شهران ونصف بعد بيعة العقبة الثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له من العمر ثلاث وخمسون سنة.

قراءةٌ في أبعاد الهجرة النبوية:

إنَّ في أخبار الهجرة وذكرياتها مِن الدّروس والعبَر ما لا يكاد يحِيط به الحصر أو يستوعِبه بَيان، وخليقٌ بنا أَن نأخذَ من ذكرياتِ الهجرةِ وأحداثها المددَ والمَعينَ والزَّاد، فنختطَّ لأنفسنا مناهج سير ومعالمَ هداية لإعلاء كلمة الله تعالى في الحياة.

ونكتفي بالإشارة إلى الأبعاد الكبرى:

1- الهجرة النبوية درسٌ في الصبر على البناء والتحضير والتدرج:

إن هذا العمل العظيم وما يترتب عليه من نقلة نوعيَّة في تاريخ الإسلام والمسلمين احتاجَ إلى الصبر والتدرج في البناء والإعداد، ولذلك فقد سبقَ الهجرةَ إعدادٌ في اتّجاهين بارزين:

أ- تدرُّج في إعداد المهاجرين: فإن ترك الأهل والولد والمال والأرض وأسباب الرزق ليس بالأمر السهل الهيّن على النفس، ولذلك سبقهُ إعدادٌ إيمانيٌّ طويل عميق، وتجربةٌ عمليَّة: فقد تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، كما قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت السورة عن الفتية الذين آمنوا بربهم، وعن هجرتهم من بلدهم من أجل العقيدة، ثم تلا ذلك آياتٌ صريحةٌ تتحدَّثُ عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41:42]، ثم تأكيدٌ آخرُ في نهاية السورة بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110]. وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريبًا عمليًّا على ترك الأهل والوطن وأسباب الرزق في سبيل الله تعالى.

ب- تدرُّجٌ في إعداد الأنصار: فلم تكن الهجرةُ قفزةً مُحطّمة، ولا عملاً حماسيًّا عاطفيًّا بل سبقها بناءٌ وتمحيصٌ وتربيةٌ للفئة المستقبلة استكمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إعدادها فيما بعد( أخّر الهجرة لأكثر من عامين): فقد بدأ الجهدُ بدعوة ستَّة من الأنصار، ثم حركة أولئك الستة في الدعوة إلى الله تعالى: ففي الحديث: " ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلام فيها حتى لم تبق دار إلا ودخلها الإسلام"، ثم بإرسال مصعب بن عميرضي الله عنه معلّمًا ومربّيًا في المدينة، ثم بالبيعة الأولى وكانت بيعةَ تكوين وتربية، ثم جاءت البيعةُ الثانية وهي بيعةُ النصرة والتأييد التي أظهرت استعدادهم لحما هم الدين واستقبال المهاجرين وما يترتب على ذلك من تبعات، بل استمر هذا الإعداد حتى في المدينة نفسها، حيث نقرأ في صحيح مسلم حين اشتد بهم الجهدُ في المدينة وتغيَّر عليهم الحال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحدٌ رغبةً عنها إلا أبدل اللهُ فيها من هو خيرٌ منه، ولا يثبتُ احدٌ على لأوائها وجَهدها إلا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة» (صحيح مسلم[1363]).

2- الهجرة النبوية درسٌ وعبرةٌ في بيان قيمة الرجال:

إنها سُنَّةُ اللهِ تعالى في النَّهضةِ والتغيير: الحق في حاجة ماسة إلى الرجال والنساء قبل المواقف والأعمال: روى الحاكم بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لأصحابه يوما: تمنَّوا..!،أراد رضي الله عنه أن يمتحنَ همم َ أصحابه وأقربيه. فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهبا أنفقه في سبيل الله وأتصدَّق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا وجوهرا فأنفقه في سبيل الله وأتصدَّق!، فلما سمع ذلك عمر -رضي الله عنه- أراد أن يسمع أكثر.. فقال: تمنوا..! فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين!، فقال عمر: "أتمنى لو أنها مملوءةٌ رجالاً مثل أبي عبيدةَ بنِ الجرَّاح، ومعاذِ بن جبل، وسالم مولى أبي حُذَيْفَة، وحُذَيْفَةَ بنِ اليمان فأستعملهم في طاعة الله عز وجل "

وهذه الحقيقة أكدتها شواهد كثيرة:

- النبي صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته في مكة بتكوين الرجال في بيت الأرقم بن أبي الأرقم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع الرجال الذين عرفوا في التاريخ الإسلامي باسم: "السابقين".

- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن الرجال في الأسواق والمواسم والمناسبات السنوية، وعرض نفسه على قبائل كثيرة فأبت.

- ثم وجد صلى الله عليه وسلم  ستة من رجال يثرب، صاروا اثنا عشر في البيعة الأولى، ثم سبعين في البيعة الثانية.

- لما هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالرِّجالِ الضعفاءِ والمساكين، صادرت مكََّةُ أموالهم وديارهم من بعدهم، وظنَّت أنَّه قد رَبِحَ البيع، فخاب ظنُّها، إذ هاجرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالرِّجال الأبطال، وكان مع الرِّجالِ قلوبُهم وعقولهم وكلماتهم، فما هي إلاَّ سنوات حتَّى عادَ الرِّجال إلى ديارهم وأموالهم!

- وهذا صهيبٌ رضي الله عنه لما أراد الهجرةَ إلى المدينة قال له أهلُ مكَّةَ: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فتغيَّرَ حالُك!، فقال رضي الله عنه: أرأيتُم إن تركتُ مالي، أمُخَلُّونَ أنتم سبيلي؟، قالوا: نعم! فخلعَ لهم مالهُ، فلمَّا وصلَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبلغَهُ ما حصَل قال صلى الله عليه وسلم : «ربحَ البيعُ أبا يحيَ.. ربحَ البيعُ أبا يحيَ»، وتلا عليه قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] (إتحاف الخيرة المهرة[5/81])

3- قراءةٌ في جوانب الحذر والحماية والأخذ بالأسباب:

فإنَّ الإعدادَ والترتيب والأخذ بالأسباب الكونية أعمالٌ صاحبت حركة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، حتى أنه لم تكن المعجزات التأييدية إلاَّ تكريمًا وتتويجًا للجهد البشري حين تنقطع به الأسباب، وقد تمثل الأخذ بقانون السببيّة في مواقف كثيرة:

- خروجه إلى أبي بكر في وقت القائلة.

- إعداد الزاد والراحلتين.

- الخروج جنوبًا وهو يريدُ الشمال.

- ترك عليًّا ينامُ مكانه.

- الاختباء في الغار.

- الغنم تروح وتغدو تمحو آثار الأقدام قرب الغار.

- الاستعلامُ عمًّا يدور في قريش من أخبار.

- ترتيبُ أمر الطعام والتموين الغذائي.

- الاستعانة بعبد الله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق.

4- البعد التأييدي الإلهي (المعجزات والمؤيدات):

الحفظ في الغار، حادثة سراقة بن مالك، خيمة أم معبد كلها معجزات أيدت وكرمت جهد النبي صلى الله عليه وسلم.

5- البعد الإيماني في الهجرة النبوية:

وخاصة في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار: فهو مثال من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة.

6- تجرد الداعية للرسالة وتخلصه من الطمع:

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الراحلة من أبي بكر حتى أخذها منه بالثمن، واستقر الثمن دينًا في ذمته. فحملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالةً على أحد لأنهم مصدر العطاء في كل شيء، الدعاة إلى الله تعالى إذا زهدوا فيما في أيدي الناس أحبهم الله تعالى وأحبهم الناس، وإذا طمعوا في الناس وما في أيديهم زهد فيهم الناس ونفروا مما معهم من الحق.

7- التنبيه على عظم دور المرأة في الأعمال الجليلة:

ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة، فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به:

- فقد جاء المشركون إلى بيت أبي بكر، وطرقوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده فلطمها لطمة طرح منها قرطها.

- وعن أسماء رضي الله عنها قالت: "لما خرج رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: قلت؛ كلا يا أبت، إنه ترك لنا خيرا كثيرًا، قالت: فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت التي كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إذا ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك".

8- الهجرة النبوية درسٌ في الولاء والبراء واجتماع كل طاقات الأمة في سبيل الله تعالى:

فبغيرِ الإسلام تصبحُ الأوطانُ مجردَ أتربةٍ وحجارة، وبغير الإيمان يصبحُ المال والمتاعُ حجَّةً على العبد ووسيلةً إلى الضلال، وقد قال ربنا سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56:57]. فمتى تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها أملاً في إيجادِ أرضيةٍ صالحةٍ للعيش بالعقيدة والإسلام، وللتمكن من عرضِ العقيدةِ بصفائِها ونقائِها على الناس، وفي الهجرة تجد الشاب والكهل، الرجل والمرأة، السيد والخادم، الأب والابن، جميعهم في الهجرة بالدعوة والحق من أرض إلى أرض، ومن وسيلة إلى وسيلة، ومن أسلوب على أسلوب، إلى حيث يكون العز والنصر والتمكين.

آثار الهجرة النبوية على المجتمع المسلم الناشئ:

لقد كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولإدراك آثار الهجرة النبوية على المجتمع الناشئ يكفي الباحث أن ينظرَ في كيفية استقبال المجتمع الناشئ للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول ما قاله للمجتمع المدني الجديد وأول ما فعله فيه:

كيفية الاستقبال: فقد زحفت المدينة كلها للاستقبال، صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا:

- مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بحي من بني النجار؛ وإذا جوار صغار يضربن بالدف يقلن: 

نحن جوار من بني النجار *** يا حبذا محمد من جار.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله يعلم أن قلبي يحبكن» (السلسة الصحيحة[7/438])، وفي البخاري: "فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله، يا محمد يا رسول الله"، عن أنس قال: " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبت الحبشة بحرابهم فرحا لقدومه"، وكان لا يمر بدور من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة.

فجميع شرائح المجتمع فرحت بحدث الهجرة واستبشرت بالمهاجر.

أول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: في سنن الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئت -وكان يومئذ حبرا من أحبار اليهود- قال: فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب؛ فكان أول ما قال: «يا أيها الناس؛ أفشوا السلام؛ وأطعموا الطعام؛ وصلوا الأرحام؛ وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» ( صحيح ابن ماجة[2648])،أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم : بناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وكتابة وثيقة تنظم العلاقات في المجتمع الجديد.

الحدث الأول: بناء المسجد لإصلاح العلاقة بين المسلم وربه وإصلاح المجتمع:

لم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلاة فحسب، بل كان جامعًا يتلقى فيه المسلمون أحكام الإسلام وتوجيهاته، ومكانًا تلتقي وتتآلف في العناصر القبلية المختلفة التي طالما باعدت بينها النزاعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع شؤون المدينة وبث الانطلاقات المباركة، ومكانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية، وكان يسكنه فقراء المهاجرين الذين لم يكن لهم سكن ولا مأوى ولا مال ولا أهل ولا بنون.

الحدث الثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار(إصلاح علاقات المسلمين فيما بينهم):

لما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتآلف؛ قام بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حتى تذهب عنهم وحشة الغربة، ويستأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة (شيء من الطيب)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم يا عبد الرحمن (كلمة يمنية بمعنى: ما الذي أرى بك)؟"قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، قال: "فما سقت فيها؟" قال: وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة» (صحيح البخاري[3937])،عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قالت الأنصار أقسم بيننا وبينهم النخيل، قال: "لا"، قال: "يكفوننا المؤونة، ويشركوننا في الثمر"، قالوا: سمعنا وأطعنا» (صحيح البخاري[2325]).

الحدث الثالث: كتابة وثيقة تنظم العلاقات

وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاة بين المؤمنين، قام بعقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية والنزاعات القبلية، ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية

أهم بنود الكتاب من خلال الأحاديث الصحيحة الواردة:

- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل" وقال: "وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل". وعن علي رضي الله عنه قال: "فيها(الصحيفة)العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر". وفي مسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من آوى محدثا"، ومن طريق لإبراهيم التيمي قال: "فيها الجراحات وأسنان الإبل، قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها".

خاتمة ونتيجة:

الهجرة النبوية محطة عظيمة من محطات الأسوة والقدوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فيها من الدروس والأبعاد ما يعدُّ أساسًا لكلّ بناء وتغيير حضاري في مستقبل الإسلام، وقد كان لها أعظم الأثر على المجتمع الناشئ، حيث انتقل من صورة التجمع الجاهلي على مجرد النسب والتراب والصيد إلى التجمع على إعلاء عقيدة وحمل رسالة ونصرة أعظم قضية في الأرض.

 

رشيد بن إبراهيم بو عافية.

  • 27
  • 7
  • 45,146

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً