النشيد الراحل والغناء الحاضر

منذ 2009-06-25

قد لا يُستغرب أن يكون التصوف مورداً لغناء المجون والفجور؛ إذ قد شهد بذلك من عاينَ مجالس الصوفية، وتحلَّى بطرقها، كما اعترف زكي مبارك قائلاً: "قد لاحظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحياناً إلى مجالس فنية، فهي مجالس تُعقد ظاهراً لذكر الله، والغرض منها


قد لا يُستغرب أن يكون التصوف مورداً لغناء المجون والفجور؛ إذ قد شهد بذلك من عاينَ مجالس الصوفية، وتحلَّى بطرقها، كما اعترف زكي مبارك قائلاً: "قد لاحظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحياناً إلى مجالس فنية، فهي مجالس تُعقد ظاهراً لذكر الله، والغرض منها الغناء..

وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين.. فالصوفية تفرَّدوا بين رجال الدين بالتشيُّع للموسيقا والغناء، فأقبلوا على الغناء، وتفرَّدت الطريقة المولوية باستجازة العزف على الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها أثناء مجالس الذكر" [1].

ولا عجب أن الروافض يعوِّلون على تأجيج العواطف الرعناء وتحريك مشاعر البكاء والعويل؛ فدين القوم أكاذيب في المنقول، وحماقات في المعقول؛ فلا يمكن أن يروج الكذب والشطح إلا بامتطاء هذه العاطفة الهوجاء، والمشاعر العــــوجاء، والعـــارية من الدليل والبرهان.. وهذا ما أوصى به خامنئي شيعته - بمناسبة عاشوراء عام 1426هـ - قائلاً: "إن مجالس العزاء[2] مستمرة إلى يومنا هذا، ولا بد من أن تستمر إلى الأبد؛ لأجل استقطاب العواطف؛ فمن خلال أجواء العاطفة والمحبة والشفقة يمكن أن تُفهم كثير من الحقائق" [3]!!

لكن العجب أن يضاهي أولئك ويسلك سبيلهم طوائف من متسننة هذا العصر؛ فما كان يُسمَّى إنشاداً - في الماضي القريب - قد أضحى غناءً ومجوناً.. فالترخُّص الـمُفْرِط في النشيد أفضى إلى الافتتان بالمؤثرات الصوتية، والولع بمعالجة الأصوات وَفْق تقنيات الحاسوب، والهيام بالآهات والترنُّمات..!!

فهذا الركام المتتابع من الانفلات أوقع ولوغاً في غناء الفجور، وسماع المعازف، فانحدر بعض المنشدين إلى خمر النفوس ورقية الزنى والمجاهرة باستعمال ألحان وموسيقى المجون.. بل تفوَّه أحد المنحدرين بأن إظهار الموسيقى هو مقتضى الصراحة!!

وهكذا البدع والانحرافات تبدأ شبراً، ثم تكون ذراعاً، ثم تصير باعاً، فأميالاً وفراسخ.. وكما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل" [4].

ومن المعلوم أن البقل ينبــت في الأرض شيــئاً فشيـئاً لا يحسّ الناس بنباته[5].

وهذه الأناشيد الموسيقية تحرِّك الشهوات الكامنة في النفس، وتثيرها تلك الأصوات والمعازف "فالنغمات المرتبة على النسب التلحينية هو المؤثر في الطباع فيهيجـها إلى ما يناسبها، وهي الحركات على اختلافها"[6].

فالأصوات الملحّنة تهيِّج وتحرِّك من كل قلب ما فيه من محبة مطلقة لا تختص بأهل الإيمان، "وكل إناء بالذي فيه ينضح"، فقد تحرِّك محبة الله تعالى، أو محبة الأوثان، والصلبان، والأوطان، والنسوان..[7].

كما أن هذه الأصوات المطربة يزداد أثرها وتعظم حركتها عند النسوان والصبيان والحيوان؛ لأنه ثوران الطباع، فيشترك فيه الإنسان والحيوان، وكلما ضعف العقل قويت حركة النفوس وتواجدها فرحاً أو حزناً.. لكنها حركة ووجد بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير[8].

قال ابن تيمية: "وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه، ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك، بل يعدُّون ذلك من قلة العقل، وضعف الرأي، كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة" [9].

وتحاكي الأناشيدُ الحاضرة الغناء المعهود، بل تماثله مماثلة القُذَّة للقُذَّة، بحيث يتعذر على أرباب الإنشاد والمونتاج التفريق بينهما فضلاً عن غيرهم!

فهذا النشيد الموسيقي والغناء:

رضيعا لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوْضَ لا نتفرقُ

ومع هذه المماثلة الظاهرة إلا أن بعضهم يصرُّ على تفريق موهوم بين إنشاده وغناء المجون، فليحذر من هذا التحايل البغيض والذي اتسع خرقه، وتتابع نقضه، فتلبَّس أصحابه بسماع الغناء الحرام مع المخادعة والاحتيال.

قال أيوب السختياني: "يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان. ولو أتى الأمر على وجهه لكان أهون عليّ" [10].

وها هو ابن القيم يحذِّر من التوثُّب على محارم الله - تعالى - باسم الحيل، فيقول: "فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تُبلى فيه السرائر، ويحصّل ما في الصدور.. هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهـــم كانــوا يلعبــون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون" [11].

ويتعلَّل بعض المولعين بالنشيد المتهتك بأن أصل النشيد مباح، فهي أصوات بشر وشجر ونحوهما، وتم تركيبها ومعالجتها حسب تقنيات الحاسوب.. وهذا تعليل عليل؛ إذ العبرة بالحقائق، ومآلات الأمور، فقد استحال هذا النشيد إلى غناء ومعازف، كما لو استحال العنب إلى خمر، وهذه المعالجة الحاسوبية أوقعت في تلاعب بالأصوات وتغييرها من صوت بشر وشجر وماء.. إلى صوت معازف وموسيقى..

فهذا الغناء الحاضر مركب من تلك الأصوات بعد تعديلها ومعالجتها.. فالعبرة بالنتائج وعواقب الأشياء، كما قال ابن الجوزي: "ولما يئس إبليس أن يسمع من المتعبدين شيئاً من الأصوات المحرمة كالعود نظر إلى المعنى الحاصل بالعود فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسَّنه لهم، وإنما مراده التدرج من شيء إلى شيء. والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج، وتأمَّل المقاصد" [12].

وكما يُحكى عن إياس بن معاوية (ت 122هـ) أن رجلاً قال له: "ما تقول في الماء؟"، قال حلال. قال: "والتمر؟"، قال: "حلال". قال: "فالنبيذ تمر وماء!"، فقــال له إيــاس: "أرأيــت لو ضربتُكَ بكفٍّ من تراب أكنتُ أقتلكَ؟"، قال: "لا". قال: "فإن ضربتُكَ بكفٍّ من تبن أكنتُ أقتلكَ؟"، قال: "لا". قال: "فإن ضربتُكَ بماء أكنتُ أقتلكَ؟"، قال: "لا". قال: "فإن أخذتُ الماء والتبن والتراب فجعلتها طيناً، وتركته حتى جفَّ، وضربتُكَ به أقتلك؟"، قال: "نعم!"، فقال: "كذلك النبيذ".

ومقصوده أن القاتل هو القوة الحاصلة بالتركيب، والمفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب[13]. فكذا النشيد الحاضر بعد التركيب؛ فقد تغيَّرت صفاته السابقة، وانمحت آثاره السالفة.

وأخيراً: فإن فتنة الأصوات والصور المحرمة قد وَلِعَ بها كثير من أرباب التعبُّد المحدث، وإن كانت فتنة الصور أشد فتكاً، ولئن سلم فئام من المتديِّنة من شراك الصور الفاتنة، لكن أسرتهم الأصوات الملحنة؛ فإن غناء المجون وفتنة الأصوات سبيل الولوج في فتنة الصور، فالغناء رقية الزنى..

قال ابن القيم: "أهل الأصوات طرقوا لأهل الصور الطريق، ونهجوا لهم السبيل، وطيَّبوا لهم السير، فساروا وجدّوا بهم إلى مطارح الجمال، فطاب لهم اللعب، ووصفوا لهم سمر القدود وورود الخدود وسواد العيون وبياض الثغور، ونادوا (حيَّ على الوصال)، فأجاب القوم منادي الهوى إذ نادى بهم بحيَّ على غير الفلاح، وباعوا أنفسهم بالغبن، وبذلوها في مرضاة الصور الجميلة" [14].

والمقصود أن هذا النشيد «المستنسخ» من الغناء حافل بمفاسد ظاهرة؛ كالصدِّ عن سماع القرآن، والإعراض عن التفقه في دين الله تعالى، واستثارة العواطف الرعناء، وتحريك الشهوات من مكانها، والتحايل على المحرمات، ومشابهة لحون أهل الفسق والفجور.. فهل من توبة نصوح عن ذاك الغناء؟!

ولقد أحسن القائل:

برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلتُ يا قوم أنتم على شفا جُرُف ما به من بِنَا

******

فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في بِنَا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تِنْتِنا تِنْتِنا
[15].

--------------------------------------------------------------------------------

[1] (*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض.

التصوف الإسلامي، 193 - 195؛ بتصرف.

[2] يعني: حماقات أتباعه من النحيب وضرب الصدور وإسالة الدماء..

[3] موقع علي الخامنئي مركز العهد الثقافي بدمشق 4/2/2006م.

[4] أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، 2/704.

[5] انظر: الاستقامة لابن تيمية 1/393، وإغاثة اللهفان 1/374، ومدارج السالكين 1/497.

[6] الاعتصام للشاطبي 1/280.

[7] انظر: العبودية لابن تيمية ص 71، والاستقامة 1/261.

[8] انظر: الاستقامة 1/306، 373. ومجموع الفتاوى 2/242، 10/76. والاعتصام 1/280.

[9] الاستقامة 1/374، وانظر: مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/313.

[10] انظر: مجموع الفتاوى 30/223.

[11] إعلام الموقعين: 3/163؛ باختصار.

[12] تلبيس إبليس، ص 249.

[13] السماع، ص 362 = باختصار. وانظر: الاستقامة: 1/346.

[14] انظر: الاستقامة لابن تيمية: 1/244.

[15] إغاثة اللهفان 1/346.







المصدر: موقع الشيخ عبداللطيف
  • 4
  • 0
  • 9,206
  • الشافعى احمد

      منذ
    [[أعجبني:]] فضيله الشيخ محمد حسين يعقوب قال عليه الصلاه والسلام رفع القلم عن ثلاث النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يبلغ وعن المجنون حتى يعقل او كما قال عليه الصلاه والسلام فضيله الشيخ هذه شريعه من الله شرعهالرسوله ولامته اى لى ولك ولكل من يدين بدين الاسلام واختار دين الاسلام ديننا وشريعتا اى والله اعلم كانه يقول لنا لا تحاسبوا ولا تعاتبوا ولا تلموا هؤلاء الثلاثه على افعلهم وتصرفاتهم وما ينتج عنهم من حديث او فعل او غير ذالك من امور الدنيا لانهم مرفوع عنهم القلم والله سبحانه وتعالى الذى يحاسب ويزن اعمالهم ويجزى بها لن يحاسبهم على افعالهم هذه فمن باب اولى علينا نحن البشر ان لانحاسبهم ولا نعاتبهم اولهم الصبى الصغير حتى يبلغ الحلم وتجرى الشهوه فى جسده ويشعر بحلاوتها فى قلبه وفى جسده ويكتمل كثير من عقله ويعرف الصواب من الخطا وما ينفعه وما يضره وثانيهم النائم اذا تكلم او فعل فعلا فى نومه فلا حساب عليه ولا لوم عليه ولو سب احد او شتم احد وهو نائم لان عقله غائب عن الوعى وهونائم فلا يتحكم بارادته وبكمال قواه العقليه فى تصرفاته واقواله وثالثهم المجنون الذى ولد مجنونا او الذى اصابه شىء من الجنون بسبب حاله مرضيه فلا لوم عليه ولا حساب عليه حتى يعود له عقله ويتحكم فى اقواله وافعاله وحتى ولو زنى وفعل الفاحشه فلا حد عليه ولو ارتكب اكبر الكبائر فذنبه مغفور كان لم يكن شىء حدث منه لان عقله مستور بسبب هذا المرض الذى اصاب عقله ويظل كذالك فى المجتمع وبين الناس حتى يرد اليه عقله ويبرا من الحاله التى هو فيها فبعد ذالك هو محاسب ومؤاخذ على تصرفاته وافعاله واقواله بمثاقيل الذر ففيه وامثاله قال سبحانه فمن يعمل مثقال ذره ومن يعمل مثقال ذره فبعد ان كان الشخص هوهو لا يحاسبه الله ولا يحاسبه المجتمع على اكبر الكبائر والذنوب والمعاصى ولو بلغ الامر به الا القتل وسفك الدماء فلا يحاسب على فعلته ولايقام عليه الحد حد القتل ولكن يوم يعود اليه عقله ويتحكم فى تصرفاته وافعاله وتكون خارجه منه هو بدون تاثئر خارجى لا ستر عقل او مرض او غير ذالك يحاسب على كل كلمه وكل فعله تنتج عنه اليس هذا يا فضيله الشيخ شريعه رسول الله التى درسناها وتعلمناه سنين وسنين منكم انتم انفسكم ووالله ثم والله انا لا ادرى لماذا قلت هذا الكلام ولماذا فعلت هذا معك ومعك انت بالذات وانت تعلم يا شيخ محمد كم انا احبك واحب الاستماع اليك والى شرحك وعرضك للعلم الشرعى وما فاتنى من دروسك ومحاضراتك على قناه الناس وقناه الرحمه الفضائيه منذ زمن بعيد درس واحد او محاضره واحده من برامجكك ومحاضراتك من فضفضه الى كيف واخواتهاهذه الايام ومن اصول الوصول وجنه الدنياواصل الحكايه وبدايه النهايه وشرح مدارك السالكين على قناه الرحمه فانا اتبعك منذ زمان ان كان هنا او هنا وما حدث فى هذه الساعه السوداء بالامس والله لا ادرى ما سببها ولماذا قلت هذا الكلام فاتقى الله واعفوا وسامح فانت تعلم ما انا فيه من اوله الى اخره فاجعل كل ما قلته لك وجهته اليك امسحه فيا انا كانى كنت احدث نفسى واسب نفسى وتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واجعله امامك كلما ذكرك الشيطان وجاء اليك وذكرك بهذه الكلمات البذيئه التى قلتها لك ليغضبك ويحزنك قل له ياعدوا الله اخسك واندحر فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ قال سبحانه انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوه والبغضاء فاللهم بلغت اللهم فاشهد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً