التفكير فريضة إسلامية: مناقشة لـ عباس محمود العقاد الحلقة الثالثة

منذ 2009-06-26

(العلوم التقنية)، و(الموسيقى)، و(الغناء)، و(التمثيل)، و(التماثيل)، و(الفنون الجميلة) ليست حرام عند عباس العقاد. في هذا يتكلم عباس العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية...


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

التفكير فريضة إسلامية: مناقشة لـ عباس محمود العقاد
الحلقة الثالثة


توطئة:

علاقة الإسلام بالعلم التقني الحديث، أو طلب العلم التقني الحديث من عند الغرب، قضية ثائرة منذ اتصل الشرق بالغرب في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا. والحديث في علاقة الشريعة بالعلوم التقنية الحديثة أو طلب العلوم التقنية الحديثة من الغرب حديثٌ لا يراد لذاته وإنما يراد لأشياءٍ أخرى. يتضح ذلك بالنظر في حال المتحدث ـ في هذه القضية أعني ـ ، وبالنظر في سياق الحال الذي تعرض فيه هذه القضية.

عامةُ المنادين بالتقدم تقنياً كما تقدم الغرب ليسوا من المنشغلين بالتقنية الحديثة، وليسوا من القائمين على تطوير المجتمعات الإسلامية تَقَنِياً وإنما من المنشغلين (بالفكر).. من المنشغلين بـ (الفن) و (الأدب)، أو من الشرعيين المنشغلين (بتحسين) صورة الإسلام أمام الغرب والشرق.

هذا ملحظ لابد من الانتباه إليه!!

والسياق العملي الذي يطرح فيه الحديث عن (تخلفنا التقني)، أو طلب ما عند الغرب والشرق من (تقدم تقني) هو القول بأن (التقدم)، و(التطور)، و(الرقي)، و(التحضر) لا يكون مع سيطرة المتدينين على عباد الله، كانوا مسلمين أم كانوا كافرين، وبالتالي على من يريد أن (يتقدم)، و(يرتقي)، و(يتحضر) أن ينبذ الدين وراء ظهره، تماماً كما فعلت أوروبا مع النصرانية.

هذا إن كان المتكلم علمانياً لا يؤمن بما أنزل على محمد وهو الحق من ربه.

وإن كان المتكلم من (الشرعيين) فإن الحديث يأخذ طريقاً ملتوياً إلا أنه يصل إلى ذات النتيجة أو قريباً منها!!

فتجد هؤلاء (الشرعيين) أو (الصحويين) يتحدثون عن (الانغلاق)، و(التشدد)، و(الكهنوت)، و (احتكار تفسير النص)، وكل هذا إزاحة للدين عن طريق التطاول على المتدينين، وليس ثَمَّ مَنْ يَطْعَنُ مباشرة في الدين، وإنما يطعنون في المتدينين؛ كل الطاعنين في الدين يأتونه من قبل الطعن في المتدينين!!

الدعوة إلى التقدم التقني وما يتبعه من رقي مادي وحضاري ورفاهية في المعيشة... الخ هي النقطة التي انطلق منها دعاة التغريب بالأمس، إذ كان الهدف المُعلن من الاتصال بالغرب عند من اتصل بهم وزيَّن للناس الاتصال بهم هو التقدم كما تقدموا، وغني عن الذكر أننا لم نحصل على شيء مما تكلموا به، وصار حالنا اليوم على هذه الحالة من التخلف المادي والعلمي، مع أننا امتثلنا أمرهم، وسرنا في دربهم واقتفينا آثارهم!!

ما شأن هذا بعبَّاس العقاد؟
أو ما شأن عبّاس العقاد بهذا؟

عبّاس العقاد كان يكتب في كل شيء بدعوى الثورة على التخصصية، وبدعوى أنه موسوعي يفهم في كل شيء!!

وفي كتابه (التفكير فريضة إسلامية) تحدث باسم الشريعة لعامة المسلمين بأن يخرجوا ويتعلموا العلوم التقنية كي نتقدم كما تقدم القوم.. ينادي في الناس بأن ليس ثم ما يمنع من تعاطي ما يأتي من الغرب.. كل ما يأتي من الغرب.. (العلوم التقنية الحديثة)، و (الموسيقى)، و(الغناء)، و(التمثيل)، و (التماثيل)، و(الفنون الجميلة).. وليس فقط (العلوم التقنية الحديثة)!!

وقف يقول كل ذلك حلال!!

عبّاس في هذا الكتاب يتسلل من أن العقل محل احترامٍ في الإسلام، وأن (التفكير فريضة إسلامية) إلى القول بأن نُعمل التفكير فيما يأتينا من الغرب.. ثم يُعْمِلْ هو التفكير ويقول: لا شيء حرام!!

يبيح التمثيل والتماثيل

(العلوم التقنية)، و(الموسيقى)، و(الغناء)، و(التمثيل)، و(التماثيل)، و(الفنون الجميلة) ليست حراما عند عباس العقاد. في هذا يتكلم عباس العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية.

ويستدل بأن لا تحريم مع انتفاء الضرر، وأن الزينة مباحة في الإسلام، وأن الصحابة كانوا يسمعون الغناء!!

وهذا ينقله عن أستاذه محمد عبده، وعن ما تسرب من دراسات الاستشراق، وبرز هذا الكلام بشكل موسع في تلك الأيام، وكان الإطار العام هو التحدث للغرب بأننا مثلكم، لا (خير) عندكم لا يمكن لنا أن يكون عندنا مثله، وإن كان (رقصا)، وإن كان (تمثيل)، أو (تماثيل)، فلم يكن العقاد وحده من تكلم بهذا، وإنما نفر قبله ونفر بعده.

وكل الضرر في التماثيل، فثلثي بني آدم ممن يعبدون الأحجار في شرق المعمورة، بل تسعة أعشارهم (إذا اعتبرنا أن النصارى وثنيون بتقديسهم للصورة والأيقونات، بل إن النصرانية انحراف وثني لم يخرج عن الوثنية كثيراً، هي الحقيقة وإن أنكروها)، وقد حدثنا الصادق الأمين بأن الناس سيعبدون ثانية اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. ومن له معرفة بعقلية إبليس، وكيف يفكر، يعلم أن الأصنام.. أو الصور.. أو الأوثان.. أو المشاهد هي محور أساسي في عقلية إبليس وقد شرحت هذا وبينته في مكانٍ آخر (1). فكيف يقول عباس وغيره بأن لا ضرر مع التماثيل؟!،
والصحابة لم يسمعوا الغناء، بل حرموه والعقاد يكذب عليهم (2).

ولا أحد يقول بأن ما يعرضه أهل التمثيل مباح؟، لا أحد يقول بهذا. وقد كان حال التمثيل والممثلين في زمن العقاد أسوء بكثير من حالهم اليوم، حتى لا يبادرني أحدهم بالقول بأن الرجل رأى أطهاراً على الشاشات فتكلم بتلك الكلمات.

فالتمثيل و(الفنون الجميلة) ليست أبداً من المباح. وعملياً لا تنهض بالمباح (3) فلم يقل أحد أن النظر للساقطين والساقطات في شاشات السينما والتلفاز مباح أبداً، إلا عباس العقاد ومن قال بقوله.

قلتُ: أكثر الرجل من غزو النساء، وكانت كتاباته (الإسلامية) حال عشقه لإحدى الممتثلات (الفنانات) الصغيرات (مديحة يسري أعني)، ومعلوم أنها رفضته مع إعجابها بشخصه لكبر سنه ربما، إذ قد تجاوز الخمسين، فلربما حاول أن يركب حماراً من (الحلال) ليتفيء ظلالها.. ربما، وقد سبقه نموذج شهير، انحرف حين أعجب بإحداهن، وما وجد سبيلاً غير محاولة تحريف الملة لينال من قدِّ حبيبته، أعني بن عربي.

فقط أبين لحضراتكم فيما يتكلم العقاد في كتابه (التفكير فريضة إسلامية)، ذاك الكتاب الذي ذاع صيته في كل مكان. وأبين لحضراتكم إلى أين ينتهي العقاد حين بدأ الحديث عن (التفكير)، أو عن احترام الإسلام للعقل، إلى حيث طه حسين، وقف بجواره يدعو بدعوته!!

العقاد في هذه الجزئية مثل طه حسين ـ في هذه الجزئية أعني ـ فطه حسين (وهو صديق العقاد) قال: "نأخذ منهم كل شيء"، فثارت الدنيا عليه، وعباس العقاد عاد إلينا وسنَّ قلمه وراح يقول لنا ليس في ديننا ما يمنع ما يأتينا من الغرب من فنون وتمثيلٍ وتماثيل.. الخ . فما الفرق؟!

أَثَمَّ فرق؟!

الفرق فقط في الأسلوب. بل حين تدقق النظر تجد أن العقاد أشد وطئة علينا من طه حسين.

فلا داعي ثانية أن نحفل بالعقاد، ونقول مفكر إسلامي يدافع عن الدين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولا داعي أن نحفل بكتابه (التفكير فريضة إسلامية).

تخلفنا التقني من السبب؟
يا سادة!!

التحدث عن (التطور)، و(الرقي)، و (تعلم العلم الحديث) ذر رمادٍ في العيون، الحقيقة أننا حين اتصلنا بالغرب ذهبنا إليهم لنتعلم منهم ما نهدم به ديننا، كانت البعثات أدبية.. عقدية.. تتعلم ما يضاد العقيدة، ولم تكن البعثات علمية تقنية كبعثات اليابان. فقد كان المتحدثون عن ضرورة أخذ ما عند الغرب من علوم حديثة في وادٍ وما يحدث على أرض الواقع في وادٍ آخر. والحقيقة أننا لم نحصل على شيء مما تكلموا به، وصار حالنا اليوم على هذه الحالة من التخلف التقني، مع أننا امتثلنا أمرهم، وسرنا في دربهم واقتفينا آثارهم!!

والعجيب أنه إلى اليوم تجد بعض الشرعيين ممن يجنح للعقلانية في تناول المسائل الشرعية يتكلم من وقت لآخر عن التقدم التقني وأنه ضرورة، ويظنون أن سبب تخلفنا التقني ـ وبالتالي الحضاري كما يحلو لبعضهم تسميته ـ هو وجود النظرة المتشائمة للعلوم التقنية عند الإسلاميين، أو أننا بعد لم نأخذ بالأسباب اللازمة لذلك، ولم نحاول تلك المحاولة الجادة، وعلينا المحاولة من جديد وبذل الأسباب المادية وتيسير الفتاوى الشرعية المؤدية لذلك، فنشجع الموهوبين ونبرز مدى اهتمام الشرع بعلوم الطبيعة وتحريضه على عمارة الأرض.

وهذا الكلام منقوص ـ أقول منقوص ـ لا يمكن أن يُقبل وحده بل يحتاج لكلامٍ قبله وكلامٍ بعده، وهذه بعض الملحوظات تزيل الغبش وتجلي الحقائق في هذه القضية التي تتجدد من وقت لآخر.

أولا: من البديهي أن نتاج التقدم التقني في شتى المجالات عبارة عن وسائل تخضع لمن يتعامل بها، فهي في ذات نفسها لا توصف لا بحلال ولا بحرام، وإنما على حسب من يستخدمها، فمثلا الحاسوب (الكومبيوتر) والتلفاز، والأسلحة المتطورة، وفن العمارة، قد يستخدم في النافع وقد يستخدم في الضار، وذلك تبعا لمن يستخدمه.

وقد رأينا الكيمائي حين تَفْسُد أخلاقة ينتج المواد المتفجرة، والسموم المخدرة، ورأينا الطبيب حين تفسد أخلاقه يتاجر بالطب ويبتز المريض وقد يتعدى على الحرمات حال التشخيص. وجملةً لم تستفد البشرية كثيرا من الرقي المادي الذي جاءها على يد من لا خلاق لهم من العلمانيين، وتحولت المعمورة لساحة من الصراع والاقتتال، والمتاجرة بأرواح الناس وأموالهم، وفسد الجو والبر والبحر بل والطعام والشراب من نتاج الحضارة والرقي، كونها وسائل يتحكم فيها مَن لا خلاق لهم.

فالقضية الأولى التي لا بد من حسمها أولا هي ضبط الأخلاق... ضبط القيم قبل التقدم التقني حتى لا يعود علينا شرا ونجني منه حنظلا. وذلك عند الأفراد الذين يعملون في هذا المجال وعند الأمة التي تستعمل نتاج هذه العقول. والتقدم التقني بلا قيم صحيحة لا يأتي أبدا بخير؛ لذا إصلاح العقيدة أولاً، وهي قضية لا نتحرك إلا غيرها قبلها، أو معها، بل هي أولاً، ثم نتحرك منهاإلى غيرها. أو نتحرك لغيرها مستوثقين بوثاق منها.. هي الثابت ندور في فلكه بما يسمح لنا.

ثانيا : في الشرع ربطٌ واضح بين الإيمان بالله والرقي المادي والحضاري، أو بتعبيرٍ أدق جُعلَ الرقي الحضاري والمادي إحدى ثمار الاستقامة على شرع الله. قال الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف: 96]، والمصائب، والفساد في البر والبحر كله بسبب البعد عن طاعة الله عز وجل. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم: 41]، وقال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى : 30].

فبغير الإيمان بالله تنقلب وسائل التقدم على البشر ولا يستفيدون منها كما هو حاصل اليوم. ولهذا الأمر تنظير عقلي وتاريخي أوضحه في النقطة التالية.

ثالثا: لَمْ يتقدم العلم التقني مع اليونانيين والإغريقيين وتقدم مع العرب البدو الأميين ـ وهم أجدادي يرحمهم الله ـ .كيف حدث ذلك؟

في جملة واحدة: حدث ببركة الامتثال لأمر الله.

وتدبر... جاء في القرآن الكريم الحديث عن النظر في الأرض والتدبر في مخلوقات الله، مرة بصيغة الأمر بأن يسيروا في الأرض من أجل النظر وتدبر آيات الله في خلقه، ومرة بأسلوب الحض، ومرة بصيغة التراخي (ثم) تنادي على من ضرب في الأرض غازيا أو تاجرا أو زائرا أو مهاجرا أن ينظر حال السير.

ففهم العربي البدوي الأمي ـ جدِّي يرحمه الله ـ المحب لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مأمور بتدبر آيات الله الكونية ، فعاد من الغزو ومن الترحال يتكلم عن أنواع الجبال (صخرية ورملية.. الخ) وعن أنواع الصخور، ويصف بعض الظواهر الغريبة وبالتالي يبحث لها عن تفسير، كأن يرى بحيرة ملحاء في وسط الصحراء فيقول أن البحر كان ها هنا يوما ما ثم انحسر بفعل الريح التي حملت الرمل... وانتهى الأمر بعلم الجيولوجيا، وعاد بعضهم يصف النباتات وخرجوا علينا بعلم (المورفولوجي Morphology)، وقل مثل ذلك في نظريات الفلك والهندسة والطب... الخ. تحول العلم من نظري إلى تجريبي فحدثت النقلة النوعية في العلم التقني، كل هذا ببركة الامتثال لأمر الله.

رابعا: الخطاب الشرعي أخروي. معنيٌ بالآخرة، وصلاح الدنيا يكون إحدى ثمار طاعة الله. بكلمات أوضح أتت الشريعة لتعبيد الناس لله، وعمارة الأرض يأتي في سياق مستلزمات تعبيد الناس لله، والعدل بين الناس يأتي كثمرة من ثمار عبادة الله في الأرض. فالخطاب الشرعي أخروي في جميع مفرداته وقضايا الدنيا تكون تبعا لقضايا الآخرة، مثلا الصلاة تعبد في جوهرها إلا أنها تثمر إصلاحا في واقع الناس {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [سورة العنكبوت: من الآية 45]، ولكنها ما شرعت أساسا للنهي عن الفحشاء والمنكر بل النهي عن الفحشاء والمنكر إحدى أهدافها الفرعية، والزكاة فيها تكافل اجتماعي، ولكن التكافل الاجتماعي وسدِّ حاجة الفقراء ليس هو الأساس من فرض الزكاة وتشريع الصدقة وإنما {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة التوبة: 103]، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الحج: 37]، فتزكية النفس وتطهيرها لتنال رضوان الله والفوز في الآخرة هو المقصد الأول وغيره فرغ عليه ولا يقبل بدونه، وفي موسم الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [سورة الحج: من الآية 28]، ولكن الحج لم يشرع أساسا لأغراض اقتصادية وإنما تأتي الأغراض الاقتصادية إحدى الأهداف الجانبية، وكذا الصوم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 183]، هذا هو هدفه الرئيسي تحقيق التقوى، وتأتي أهداف جانبية للصوم منبثقة من هدفه الرئيسي مثل صلاح الفرد (الصائم) في بيئته «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (4)، فخطاب الشرع في الأساس لم يَفْصل الدنيا عن الآخرة ، بل رتبهم فجعل هذا من ذاك، الأخروي يتحكم في الدنيوي والأخروي هو الأساس.

وفائدة هذا الكلام هو أننا لسنا معنيين بتقدم تقني وحضاري دون أن ننطلق من أساس شرعي دون بناء قاعدة صلبة على مستوى الأمة والجماهير والأفراد المعنية بالبحث في هذا المجال. والنقطة التالية تزيد هذا الكلام وضوحا.

خامسا: إبراز التقدم التقني على أنه مطلب أساسي وملح، وخاصة حين يتكلم بهذا الكلام الشرعيون أدى إلى أن توجه طاقات الأمة إلى هذا المجال وانفضوا عن العلم الشرعي، فنحن نرى اليوم المتفوقين من أبنائنا يتجهون للكليات الخدمية مثل الطب بفروعه، وبالتالي توجَه إلى العلم الشرعي من لا يرغبه... من حَمَلَهُ (المجموع) على دخول الكليات الشرعية، وانعكس ذلك على مستوى الدعاة في المساجد، فقد اعتلى المنابر قوم مكرهون، وتجرأ عليهم العامة وصاروا يتندرون بفعالهم، وهي صورة واضحة جداً في مصر.

وبما قدمت من أنه لابد أولا من ضبط القاعدة الشرعية عند الجماهير وعند من يتوجهون للمجال التقني يلزم علينا أن نوجه طاقتنا الفاعلة للمجال الشرعي والتربوي حتى نفرغ من ضبط القيم؛ فهذه المرحلة ليست مرحلة التوجه للمجال التقني تحديدا، وقد قدمت أسباب ذلك.

سادسا: المساحة التقنية التي نتحرك فيها ـ نحن المسلمين ـ محدودة جدا ، وهذا الكلام يفهمه كل ذي عقل ، فالعقول تُستقطب لصالح الغرب الكافر أو الشرق الملحد، ولا يسمح لها أن تثمر في بلدها، ووسائل التقدم الحديثة بيد غيرنا ونحن المسلمين في البلاد الإسلامية سوق استهلاكية لما تنتجه عقول هؤلاء أو عقول أبناءنا عندهم ممن يحملون جنسيتهم.

في إحدى حلقات برنامج ساعة حوار بإذاعة (B . B .C) سأل مقدم البرنامج أحد أساتذة الاقتصاد في جامعة القاهرة: لماذا لم تتقدم مصر مع أنها تمتلك كل إمكانات التقدم من عقول وأرض وثروات الخ؟

فأجاب بجملة واحدة: لأن التقدم قرار سياسي في الأساس.

وهو والله الرأي... خريجي العلوم والهندسة والصيدلة ـ وهي الكليات المعنية بالتقدم التقني ـ مطحون بين الناس بحثاً عن رزقه، وحاملي الدراسات العليا بالكاد يجدون قوت يومهم، وبعد أن يتخرجون يتحولون إلى أدوات لابتزاز الناس من أجل الحصول على لقمة عيشهم، وسلوا المستوصفات والمستشفيات الخاصة، ومصانع الأدوية وشركات الدعاية الدوائية.

إنه سياج غليظ مرتفع من حديد مطلي بالقطران لا تكاد تبصر آخره. أزيحوا هذه السدود ولن تجدوا حاجة للكلام على التقدم التقني؛ فهؤلاء هم السبب الرئيس في تخلفنا التقني، أبعدونا عن شرع ربنا، وفرطوا في ثرواتنا الفكرية والمادية، فهل يعقل قومنا؟!

سابعا: التكلمُ في التقدم التقني من قبل الشرعيين في القديمة، محمد عبده، وعباس العقاد ومَن يتكلمون اليوم، توريطةٌ من الخبثاء المكّارين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، هدفها الرئيس هو تقديم بعض التنازلات الشرعية. ويتضح هذا حين يوضع أصحاب العمائم أمام أصحاب الكرافتات ويتصبب الشرعيون عرقا حين تتكلم هذه الذئاب البشرية بأنها أنطقت الحديد، وركبت الجو والبحر ونقلت بالصوت والصورة كل شيء من كل مكان وماذا قدم العمائم للناس... اللهم هذا حلال وهذا حرام أو كما يعبر بعضهم بسخرية أحيانا: (هذا حرام وهذا حرام)؟!

وينقلب هؤلاء على الشريعة ليفكوا حالة الحرج والضيق هذه فيقولون الشرع لا يعارض العقل والشرع مع التقدم التقني والله أمرنا بعمارة الأرض، ويبترون النصوص من سياقها الفعلي والقولي لتنطق بمراد هذه الذئاب البشرية, و...، و ينتهي الأمر بانحراف جديد في مفاهيم الشرع وليس بتقدم تقني كما أراد المشايخ ـ وفقهم الله ـ (5).

ثامنا: والعلوم التطبيقية بوضعها الحالي تحتاج لمراجعة شرعية أيضا، فهي تُدَرَّس بخلفيات علمانية، فآيات الله في كونه تفسر على أنها ظواهر طبيعية، والأمراض في مناهجنا نتيجة اختلال فسيولوجي (وظيفي) في جسم الإنسان، والعلاج بالدواء، والدواء هو المؤثر في المرض، وحين لا يؤثر العلاج فذلك إنما لأسباب تتعلق بكذا أو كذا، ودارسي هذه العلوم ومدرسيها بهم حالة من الاستعلاء على العلوم الشرعية وطالبي العلم الشرعي بل ومفاهيم الشريعة . ـ أتكلم عن المجموع لا الجميع ـ وبهذا تضيع الفائدة الشرعية التي يستند إليها الشرعيون في تدريس هذه المواد، فإن كنتم لا بد متكلمون ومزينون للناس تعلم هذه الأشياء فراجعوا هذه العلوم أولا من ناحية شرعية حتى لا تخرج لكم تقنيون يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

مقالات للمؤلف:

قــراءة في عقـلية إبـليس

أثر الشيطان في تحريف الأديان

محمد عبده: من زرعة ومن حصده؟

تطاول عباس العقاد على الصحابة

مقالات ذات صلة بالمـــوضوع

التفكير فريضة إسلامية: الحلقة الأولى

التفكير فريضة إسلامية: الحلقة الثانية

من هو عباس العقـــاد؟

هل كان عباس العقــاد نصرانياً؟

التوحيد والأنبياء عند عباس العقاد

عبقريات عباس العقاد: ليست إنتصاراً للإسلام

عبقريات عباس العقاد: إنكار للوحي 1

نعم لم يكن عباس العقاد يؤمن بالوحي

عبقريات عباس العقاد: ركوب للكذب واستخفاف بالعقول


=======================

(1) انظر للكاتب (قراءة في عقلية إبليس) و (دور الشيطان في تحريف الأديان) بالصفحة الخاصة في صيد الفوائد وطريق الإسلام.

(2) انظر تطاول عباس العقاد على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3) عبارة عباس العقاد ملتوية يقول: (وليس من الحق أن فن التمثيل يضيق بالمباح المقبول من الشريعة الإسلامية) 905من موسعة دار الكتاب، ومفاد كلامه وكلام من ينقل عنه ومن يتكلمون بجواره في ذات الموضوع، أن التمثيل مباح. ولا داعي لاستحضار صورة ذهنية ليست موجودة اليوم ولم تكن موجودة في زمن العقاد لنتكلم عنها، فتلك من حيل من لا خلاق لهم.

(4) جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ عند البخاري كتاب الصوم / 1771، ومسلم. كتاب الصوم / 1944.

(5) ولمزيد بيان راجع (محمد عبده : من زرعه ومن حصده) للكاتب، بالصفحة الخاصة في موقع صيد الفوائد، وشبكة القلم الفكرية، وموقع المختار الإسلامي.








المصدر: طريق الإسلام
  • 5
  • 1
  • 10,695

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً