مفاتح التدبر - 4- القراءة حفظا والقيام بالقرآن

منذ 2015-11-16

المفتاح الثالث:  أن تكون القراءة حفظا
مثَل حافظ القرآن وغير الحافظ؛ مثل اثنين في سفر، الأول: زاده التمر، والثاني: زاده الدقيق، فالأول: يأكل متى شاء وهو على راحلته، والثاني: لا بد له من نزول، وعجن، وإيقاد نار، وخبز، وانتظار نضج.
وقال ابن تيمية: "أنا جنتي وبستاني في صدري أَنَّى رُحْتُ فهي معي"، وهو يريد بذلك القرآن والسنة التي في صدره تثبته وتزيده يقينا.
ويقول أبو عبد الله بن بشر القطان: "ما رأيت رجلا أحسن انتزاعا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل، وتلاوة القرآن، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه ينتزع منه ما شاء من غير تعب".

*العلاقة بين الحفظ والتدبر
إن الهدف من حفظ القرآن حفظ ما تضمنه من العلم بالله واليوم الآخر، ذلكم العلم الذي يعالج جميع قضايا الحياة ويحل كل المشاكل ويحقق السعادة والحياة الطيبة للإنسان، ويحقق له الثبات في الأزمات، والقوة للأمة في مواجهة أعدائها، هذا هو الهدف الأهم لحفظ القرآن والذي ينبغي أن يركز عليه القائمون على التربية.

إن حفظ الألفاظ وسيلة وليس غاية، وسيلة إلى حفظ المعاني، والانتفاع بها في الحياة. إن الاقتصار على حفظ الألفاظ فهو قصور في حق القرآن العظيم، وهو انحراف عن الصراط المستقيم في رعايته والانتفاع به في الحياة الدنيا والآخرة.

المفتاح الرابع: القيام بالقرآن
قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}[الإسراء:79]، فدلت الآية على أن التهجد بالقرآن طريق للوصول إلى المقامات العالية في الآخرة والآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته وإن كان مقامه صلى الله عليه وسلم أعلى من مقام بقية المؤمنين. وقول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:9]، فدلت الآية على أن العلماء هم الذين يقومون بالقرآن ليلا، وأنهم أعلى مكانا وأرفع مكانة.

*اجتماع القرآن والصلاة هو الحياة
إن اجتماع القرآن مع الصلاة يمكن أن يشبه باجتماع الأكسجين مع الهيدروجين حيث ينتج من تركيبهما  الماء الذي به حياة الأبدان؛ فكذلك اجتماع القرآن مع الصلاة ينتج عنه ماء حياة القلب وصحته وقوته. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ويطيل فيها قراءة القرآن.

إن القيام بالقرآن له معنيان: الأول: عام، وهو القيام بحق القرآن وتطبيقه والعمل به.
والثاني: خاص وهو المقصود في هذا السؤال، وهو قراءته في قيام أي في صلاة.

فإذا كان القيام بالقرآن ليلا فلا فرق بينهما، هذا هو الأصل لكن وجد من البعض من قصر معنى قيام الليل على الصلاة دون العناية بالقرآن وقصد تدبره وكثرة قراءته في صلاته فلذلك ترى قراءته للقرآن في صلاته بالليل لا يطبق فيها أيا من مفاتيح التدبر ومن أجل ذلك ترى انتفاعه بمثل هذا القيام يكون محدودا وضعيفا، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»؛ قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا؛ جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»(أخرجه ابن ماجه في سننه).

لذلك لا تستغرب أنه ربما وجد من يقوم الليل، وفي النهار يأكل الغيبة والربا ويأكل حقوق الناس ويغش ويخدع ويكذب وينافق ويجزع ويتسخط ويقلق....الخ من مظاهر الضعف والفشل في الحياة، وقد سمعت من يشكو حاله في أنه يقع في بعض المنكرات مع أنه يقوم الليل، فالسبب أن قيامه قيام ليل وليس قياما بالقرآن فهو خال من أي علم أو إيمان؛ إنه قيام أجوف مجرد حركات لا يعقل منها شيئا، وقد جاء عن ابن عباس قوله: "ركعتان مقتصدتان في ليلة خير من قيام الليل كله"، المعنى أنه ربما وجد من البعض قصد تكثير الركعات والتسليمات دون عناية بإقامتها على الوجه الصحيح، وقد تجد من يصلى عشر ركعات في عشر دقائق.
وأيضا وجد من بعض حفاظ القرآن من جعل الصلاة وسيلة لمراجعة حفظه دون أن يعي عظيم قدر الصلاة، فتراه قد قصر همه على قراءة أكبر قدر من حفظه في القيام، ثم يخطف بقية الأركان خطفا لا يطمئن فيها ولا يقيمها على الوجه المطلوب، وهذا من العجائب ولولا أنه وجد لما ذكرته هنا والسبب في مثل هذه الحالة هو أنه لمس فعلا أثر الصلاة في تثبيت الحفظ فقصر همه ونيته على هذا الأمر. وبعض الأئمة في صلاة التراويح والقيام في رمضان يطيلون القراءة مع سرعة عالية، ثم يطففون بقية الأركان والقصد من هذا تحصيل ختم القرآن والدعاء عند ذلك فهل مثل هذه القراءة تليق بالقرآن الكريم، وهل تم تحصيل المقصود من القيام بالقرآن؟

*ثواب القيام بالقرآن:
قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء:79]  
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر: 29-30]
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِين» (رواه أبوداود وصححه الألباني).

الصلاة دخول على الله تعالى وقرب من الله: ما جاء عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ مُنَاجٍ رَبَّهُ، وَرَبُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» (رواه البخاري ومسلم)؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدُكم في الصلاةِ فإنه يُناجي ربَه؛ فلا يَبْزَقَنَّ بينَ يديه، ولا عن يمينِه، ولكن عن شمالِه تحتَ قدمِه» (رواه مسلم).

*مقاصد الصلاة:
إن بعض الناس يصلي الصلوات المفروضة على أنها واجب يؤديه، وربما صلى بعض النوافل طمعا في زيادة الثواب والحسنات أو تكفير الذنوب ومحو السيئات،  نعم هذه بعض مقاصد الصلاة، وبهذا الفهم كانت عائشة رضي الله عنها تنظر إلى الصلاة - وهي ما زالت جارية حديثة السن - فلذلك تعجبت من كثرة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تظن أن من غفرت ذنوبه لا يحتاج إلى الاجتهاد في الصلاة فجاء توجيه العالم بربه العارف بما يجب له نحوه فقال كلمته العظيمة: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا»(متفق عليه).  لكي تكون صلاتنا قرة لأعيننا، وبهجة ولذة لأنفسنا علينا أن نتفقه في مقاصد الصلاة، وهذا يحصل في تدبر نصوص القرآن والسنة الواردة في هذا المعنى وليس هذا موضعه لكن أردت التذكير به والتأكيد عليه لما له من أهمية عظيمة لا يصح أن تفوت.

=> للمقال بقيّة

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

هدى عبد الرحمن النمر

كاتبة وأديبة ومترجمة ومحاضِرة ، في مجالات اللغة والأدب والفكر والتعليم مدونة الكاتبة : https://hmisk.wordpress.com/

  • 6
  • 1
  • 12,896
المقال السابق
3- وسائل تحصيل حب القرآن وأهداف قراءته
المقال التالي
5- علامات النجاح في تدبر القرآن

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً