المقاومة السنية للدولة العبيدية في الشمال الإفريقي ومراحلها

منذ 2009-08-03

إذًا هي باطنية تتستر بالإسلام، ولكن القصد كما قال لهم العالم الشهيد أبو بكر النابلسي: "إنكم غيرتم الملة وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية" (15).

تمهيد:

سحابة مظلمة أطلت على القرن الرابع الهجري، إنه عصر التدهور السياسي المحزن فذاك القرن ومعه بداية القرن الخامس قد يكون من أسوأ الحقب التي مرت على المسلمين، وذلك حين استولى البويهيون على الخلافة في بغداد وأضعفوها وفتحوا الباب لكل المذاهب الضالة، وحين استولى القرامطة على شرقي الجزيرة العربية وجنوب العراق، وقاموا بالغارات على الشام ومصر والحجاز ورافق ذلك أيضا التدهور المالي، لأن هذه الفرق وهذه الدول لا يهمها إصلاح الأوطان بقدر ما يهمها العيث والفساد في الأرض وتنفيذ آرائهم الباطنية. وقد بلغت ذروة تمكن هذه الفرق في قيام الدولة العبيدية الملقبة بـ(الفاطمية) وكانت نشأتها في منطقة شمال أفريقيا (تونس) وقد أخذ دعاة هذه الدولة البيعة لعبيد الله الملقب بالمهدي في القيروان ثم بنى مدينة (المهدية) في الساحل الشمالي الشرقي من (تونس).

هل هذا نبش للتاريخ؟ نعم، إنه شيء لابد منه فمن الماضي يبنى الحاضر والمستقبل، وربما يكون في غفلة أهل السنة اليوم عما يدبر لهم من مكائد هؤلاء ما يدعونا لنبش التاريخ مرة ثانية وثالثة، ولأن كثيراً من الناس لا يقرؤون التاريخ، ولا يربطون الماضي بالحاضر.

وسنتكلم عن نموذج من هذه الدول الباطنية (الدولة الفاطمية) والمقاومة السنية التي وقفت في وجهها في شمال أفريقيا.

طبيعة هذه الدولة:

1- أنشأ هذه الدولة حركة باطنية فلسفية سياسية تدعي الانتساب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق والحقيقة أن الغموض يلف هذه الدعوة، فلا يوجد أي خبر صحيح أو صادق عن سلسلة النسب ما بين مؤسس هذه الدولة (عبيد الله بن ميمون القداح) وبين محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (توفي والده إسماعيل في حياة جعفر الصادق كما يقولون) وقد طعن علماء السنة وكثير من المؤرخين في نسب هذه الأسرة، وكتبوا محضراً في ذلك في بغداد، وكان من الموقعين عليه الشريف الرضي. وكثير من المؤرخين يُرْجِعون نسب عبيد الله إلى أصل فارسي وقضية التشيع لآل البيت إنما هي ستار لأهدافهم الباطنية ومنها التوسع على حساب الدولة العباسية أو القضاء على هذه الدولة والاستيلاء على العالم الإسلامي (1)، ولذلك لم تكن استراتيجتهم البقاء في شمال أفريقيا بل كان الهدف دائما هو الشرق، واختاروا مصر بالذات لموقعها المهم والمتوسط بين الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي. ولذلك نجدهم تخلوا عن الشمال الأفريقي بعد الانتقال إلى مصر، وتركوه لأسرة صنهاجية تحكمه وتدين لهم بالولاء.

والدليل على أنها دعوة باطنية أنهم كانوا هم والقرامطة حركة واحدة، ثم انقسم عنهم القرامطة لخلاف حول رئيس الدعوة، هل يكون نائباً عن الإمام الغائب أم يعتبر نفسه إماماً، وبعد أن استقروا في مصر رفضوا ذكر نسبهم رغم الحملات التي شنت ضدهم في هذا الموضوع، وعندما كتب خامس ملوكهم (نزار) إلى أحد ملوك الدولة الأموية في الأندلس يهجوه ويسبه كتب إليه الأمير الأموي: "أما بعد فقد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك والسلام".

2- اعتمدت هذه الدولة في تثبيت أركانها على المال الوفير الذي تجمعه من خلال التلاعب بعقول الناس الجهلة باسم حب آل البيت، وكذلك بالنهب والمصادرات لأموال الأغنياء (واعتماد هذا العنصر للتأثير على الناس وشراء ضمائرهم هو دأب أمثالهم من أصحاب المذاهب والعقائد) وهكذا تكدست الأموال عند عبيد الله وخبأها تحت الأرض، وصارت الدعوة (أكبر بزنس) (2) وعندما قرر رابع ملوكهم الملقب بـ (المعز) الانتقال إلى مصر، أرسل جوهر الصقلي مقدمة له، وحمل جوهر معه ألفاً ومائتي صندوق مليئة بالأموال غير الذهب الذي جمعوه في شمال أفريقيا، وبنى جوهر قصور القاهرة، وجند بها (المليشيات) المجلوبين من الجنوب، وقد وُجِدت دنانير (فاطمية) مضروبة في مصر قبل وصول جوهر، مما يدل على وجود دعاة لهم، يستميلون وجوه الناس بالمال وهذا ما اكتشفه القائد مؤنس الذي تصدى لهجوم الفاطميين، فقد تأكد من أن لهم عملاء في مصر. (3)

3- من الملفت للنظر في هذه الدولة اعتمادها الكبير واطمئنانها لغير المسلمين، يقول الأستاذ محمد كرد علي: "وكثر النصارى واليهود في خدمة الفاطميين على صورة مستغربة، وكانت أبداً سياستهم مع غير الدول الإسلامية لينة" (4)، ومن أشهر وزرائهم يعقوب بن كليس وهو يهودي من أهل العراق، أسلم زمن كافور، وهرب إلى مقر الدولة العبيدية حيث التقى ب (المعز) الفاطمي وأطلعه على ما تمر به مصر من أزمات سياسية واقتصادية فوجد المعز الفرصة مناسبة لإرسال جيشه لاحتلال مصر.

ولعل ابن كلس اعتنق المذهب الإسماعيلي وهو ما يزال في مصر وعندما دخل المعز القاهرة أسند له تنظيم الإدارة والإشراف على الدعوة نفسها (5)، وبعد هلاك ابن كلس عهد نزار (العزيز بالله) إلى عيسى بن نسطورس النصراني بتولي دواوين الدولة واستناب على الشام يهودياً يدعى (منشا بن إبراهيم القزاز)، وهذا ما دعا أهل الفسطاط (مركز المقاومة السنية) للتعبير عن سخطهم فأقاموا امرأة (ربما تمثال بصورة امرأة) تعترض العزيز وتقدم له ورقة: "بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بابن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا نظرت في أمري..."، واستمرت هذه السياسة ففي عهد الوزير الأفضل بن بدر الجمالي كان رئيس ديوان التحقيق يوحنا بن أبي الليث، وكاتبه أبو الفضل بن الأسقف، وفي عهد الحافظ تولى الوزارة بهرام الأرمني الذي أحضر إخوته وأهله من بلاد الأرمن حتى صار منهم بالديار المصرية الآلاف واستطالوا على المسلمين وصار كل رئيس منهم يبني كنيسة (6).

وعندما احتل الصليبيون المدن الساحلية في بلاد الشام، رحب بهم الفاطميون وطلبوا منهم تقاسم بلاد الشام، على أن يكون الجزء الجنوبي للدولة الفاطمية ولكن الصليبيين رفضوا هذا العرض، والقصد هو إبعاد السلاجقة (السنة) عن بلاد الشام. (7) وفي عهد الظاهر (ابن الحاكم) وقعت هدنة مع البيزنطيين حتى يتفرغ لمواجهة العباسيين ثم السلاجقة.

هذه طبيعة الباطنية: "كان دأب معتنقي المذهب (الشيعة) التردد بين العجز والتقية من جهة وبين الظهور والانتهازية من جهة ثانية" (8).

4- استعمال البطش الشديد مع المعارضين ونكث العهود:

في عام 407 هـ وصل إلى القاهرة فريق من الدعاة الفرس: الحسن بن حيدرة الفرغاني، حمزة بن أحمد اللباد، محمد بن إسماعيل أنوشتكين الدرزي، وأعلنوا تأليه الحاكم (أبو علي منصور) وحاولوا فرض هذه العقيدة على أهل الفسطاط، وقد ترك الحاكم هؤلاء الدعاة يقومون بالدعوة لهذه العقيدة، وتعاطف معهم، وكانت مقاومة من أهل الفسطاط وصدامات عنيفة، أدت إلى نهب هذه المدينة وحرقها من قبل الجنود وبناء على تحريض من الحاكم (9) وكان جده (المعز) قد أحرق كثيراً من أعيان مصر وأدبائها (10).

وكان جوهر الصقلي قد تعهد للمصريين قبل دخول (المعز) لمصر أن يجري المواريث على كتاب الله وسنة نبيه ولكن لم يمض إلا عام واحد حتى غير في المواريث (لا يرث مع البنت أخ ولا أخت ولا عم ولا جد ولا ابن أخ ولا ابن أخت...) (11)، وسنرى في الصفحات القادمة ما فعلوه بعلماء أهل السنة في القيروان.

المقاومة السنية في القيروان:

عندما أسفرت هذه الدولة عن وجهها الحقيقي مثل سب الصحابة (12) ومحاولة فرض عقيدتها على الناس، لم يرض فقهاء المالكية بهذا، ووقفوا في وجهها وكانت في البداية مقاومة (سلبية) حين قاطع أهل القيروان حضور الجُمَع التي يلعن فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان تمسك الشعب بالسنة في القيروان وغيرها من مدن الشمال الإفريقي تمسكاً شديداً لم تبرد حدته ولم تفتر قوته.

لم يكتف العلماء بهذه المقاطعة، بل جهروا بعقيدة أهل السنة فقد طلب عبيد الله علماء القيروان ليأخذ البيعة على مذهبه ومن هؤلاء العلماء: ابن التبان، وابن شبلون، وابن أبي زيد فقال ابن التبان لهؤلاء العلماء: أنا أمضي إليه وأكفيكم مؤونة الاجتماع به. أنا أمضي إليه وأبيع روحي في الله دونكم لأنكم إن أُتِي عليكم، وقع على الإسلام وهن واجتمع ابن التبان بعبيد الله واستطاع أن يفحمه في المناقشات التي دارت حول تفضيل علي على أبي بكر والكلام على عائشة رضي الله عنها، ومع ذلك فقد طلب عبيد الله من هذا العالم البيعة فقال له: شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه ويرد على اثنتين وسبعين فرقة يقال له هذا؟ لو نشرت بين اثنين ما فارقت مذهب مالك (13).

لم يترك فقهاء القيروان أرضهم، بل صمدوا عاملين للسنة بكل ما أوتوا من قوة، يقول ابن ناجي في كتابه (معالم الإيمان): "جزى الله مشيخة القيروان، هذا يموت وهذا يُضرب، وهذا يُسجن، وهم صابرون لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة.."(14)

إذًا هي باطنية تتستر بالإسلام، ولكن القصد كما قال لهم العالم الشهيد أبو بكر النابلسي: "إنكم غيرتم الملة وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية" (15).

ومن هؤلاء العلماء الشهداء الذين يجب أن لا ننساهم إذ جهروا بعقيدتهم السنية محمد بن خيرون المعافري، الذي قُتِل دوساً بالأرجل والعبيد يقفزون عليه من مكان عال، حتى فاضت روحه إلى بارئها، وهذا بأوامر من عبيد الله القداح المسمى بـ (المهدي) (16).

والإمام الشهيد ابن البردون تلميذ أبي عثمان الحداد، وُشي به إلى عبيد الله بأنه يطعن في دولتهم فأمر بقتله، ولما جُرّد للقتل قيل له: "أترجع عن مذهبك؟"، قال: "أعن الإسلام أرجع؟!"، ثم صُلب وكان ذلك في عام 299 هـ وكان بارعا في العلم رحمه الله (17).

والإمام القدوة أبو بكر النابلسي، أتي به من الشام في قفص من خشب، فقال له جوهر الصقلي وبحضور (المعز) أنت القائل: "إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي الروم بسهم وفينا بتسعة أسهم"، قال أبو بكر: "ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً"، فأمر به يهودياً فسلخه من مفرق رأسه، فكان يذكر الله ويصبر حتى بلغ الصدر فرحمه السلاخ فوكزه بالسكين في قلبه فقضى عليه، وكان الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ {كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [سورة الأحزاب: 6].

والإمام الشهيد قاضي مدينة برقى محمد ابن الحبلي لم يستجب لأوامر العبيديين فعلقوه بالشمس حتى مات، وكان يستغيث من العطش وما من مجيب ثم صلبوه. والقائمة تطول بما فعل بنو عبيد وفروعهم من الإسماعيلية الحشاشين بزعماء أهل السنة. (18)

وكان من نتائج هذا الحقد وهذا الإجرام أن انضم علماء المالكية إلى ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد رغم أنه من الخوارج ورأوه رجل الخلاص وقالوا: نكون مع أهل البدعة لمقاومة أهل الزندقة المغيرين للدين، وكادت ثورة أبي يزيد أن تقضي على دولة العبيديين لولا أن جاءتهم الإعانة الغذائية من زيري بن مناد الصنهاجي (19).

ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي القضاء نهائياً على بقايا الدولة العبيدية في المغرب العربي، وبخاصة بعد أن أعلن (الحاكم) في مصر عن عقيدته الفاسدة، فكانت انتفاضة القيروان وعلى رأسها العالم حسن البلوي الذي كان شديداً على أهل البدع والرافضة، وكانت العامة تتبعه، وكان من رجال السلطة من له هوى مع العامة، فكان عامل القيروان منصور بن رشيق يمشي وكأنه يُسَكّن الناس وهو يشير إليهم بالزيادة في ضرب الباطنيين، كما أن المعز بن باديس والي شمال أفريقيا كان ملتزماً للسنة مبغضاً لمذهب الرافضة، وقد أعلن عن مذهبه لأول ولايته وفي عام 440 محا اسم المستنصر العبيدي من الخطبة والسكة ودعا للقائم بن القادر الخليفة العباسي في بغداد.

لم تستطع هذه الدولة بدعوتها الضالة بالرغم من استمرارها خمسين عاما في الشمال الأفريقي أن يكون لها أثر،ولم يستجب لها إلا القليل الذين استهوتهم الأطماع ومالوا إلى الرتب، ولو كان عددهم كثيراً لقامت حرب داخلية، ولكن بمجرد أن أعلن المعز بن باديس المذهب السني انقرضت هذه الفرقة وكأن لم تكن. ومن أكبر الأسباب في ذلك صمود العلماء الذين قاوموا بإخلاص ووقفت الأمة معهم. وقد كان الإمام الماوردي في بغداد يسعى لتقوية جانب الخلافة العباسية لدرء أخطار هذه الفرق وكان هذا رأي علماء السنة أيضاً واعتبروا أن ذلك أوكد من مواجهة الروم، ولا تكون هذه القوة إلا عبر وحدة كبيرة بين المذاهب السنية، وربما لاحظ الإمام الغزالي بكل حزن وسخط أن جهل الناس بدينهم هو الذي أدى إلى انتشار هذه الفرق، ولشعوره بخطر هؤلاء ألف كتابه (فضائح الباطنية).
______________________

1- قارن بأطماع الخميني وتلامذته في تصدير الثورة والتحدث باسم المسلمين أمام الغرب والعالم.

2- كما يعبر الدكتور حسين مؤنس رحمه الله.

3- كما يحاولون اليوم التسلل إلى مصر من خلال شخصيات معينة ومن خلال الكتب والمجلات وإحياء الآثار الفاطمية (بزعمهم).

4- الإسلام والحضارة العربية 2 / 478.

5- أيمن فؤاد سيد: الدولة الفاطمية /133.

6- وانظر عدد المعابد اليهودية في طهران وفي المقابل لا يوجد مسجد واحد لأهل السنة.

7- ابن الأثير: الكامل 10 /11.

8- عبد الله العروي: السنة والإصلاح / 131.

9- أيمن فؤاد سيد: الدولة الفاطمية / 147.

10- محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية 2/ 478.

11- أيضا أيمن فؤاد سيد: الدولة الفاطمية /141.

12- وظفوا رجلا أعمى يمشي في الأسواق ويسب الصحابة (حسين السباب).

13- القاضي عياض: ترتيب المدارك 2/521.

14- الشاذلي النيفر: المازري الفقيه المتكلم /8.

15- الذهبي: سير أعلام النبلاء 16/ 148.

16- يعلق الإمام الذهبي: فيا ما لقي الإسلام وأهله من عبيد الله الزنديق.

17- سير أعلام النبلاء 14/216.

18- وانظر ما فعله الباطنيون في العراق من تقتيل للعلماء.

19- وهذا يؤكد مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية أن الرافضة وما تفرع عنهم لا تقوم لهم قائمة إلا بمعونة أهل السنة (المغفلين).








المصدر: مجلة البيان

محمد العبدة

رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.

  • 82
  • 1
  • 9,678

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً