تقسيم الدّين لأصول وفروع

منذ 2015-12-07

- هذه المسألة مما تكلم فيها الخلق بكلام كثير، أكثره فيه اضطراب، مرجعه لعدم تصور المقصود من التقسيم عند المتكلم به.

- فأهل السنة من تكلم منهم به كان له مقصد، ومن تكلم به من المبتدعة لهم مقصد آخر.

- فمن أثبته وتكلم به من أهل السنة يقصد بالأصول: الأمور العظيمة، التي يتوقع من عموم المسلمين معرفة مرتبتها من الدين، وجاء الدين بتعظيمها وتفضيلها على غيرها، ورتب على تركها ذما ووعيدا، أو ما يقارب ذلك من المعاني، ثم جعلوا الفروع ما دون ذلك، وهذا جامع ما فهمته من كلام من أثبت التقسيم، والله أعلم.

- ومن نفاه من أهل السنة إنما نفاه لأمور، كلها رد فعل لما ترتب على التقسيم من أمور تخالف الشرع، وذلك على تقسيم أهل البدع، كمن قال الدين فيه "قشر ولباب " أو من قال " انه لا عذر بالجهل في اصل الدين والتوحيد وقد يعذر المرء في فروعه وشرائعه"  إلى غير ذلك، وإنما يفهم هذا بفهم معنى المصطلح عند المتكلمين.

- فالمتكلمون اطلقوا المصطلح وعنوا به: أن الفروع هي ما اشترك في اثباتها العقل والنقل، والأصول هي ما استقل بها العقل وهو منقول عن الجويني في التلخيص (3/333)، وتارة يقولون أن الأصول هي أمور العقيدة، وأما أمور الفقه فهي من الفروع كما جاء في نهاية السول (1/29)، وليس الإشكال فقد في مجرد التقسيم ، إنما فيما رتب على هذا التقسيم.

- فمثلا من قسموا الدين لأصول؛ عندهم هي امور العقيدة، وفروع عندهم هي أمور الفقه، صار عندهم من يخطأ في الأصول بفهمهم هذا لا يعذر بجهله عند أغلبهم، وأما غيرها من أمور يعذر فيها، ولازم قولهم أن جهلك بمسألة كعذاب القبر ونعيمه، أعظم من جهلك بمسألة الصلاة والحج والصيام، وهذا واضح بطلانه .

- والذين رفضوا التقسيم من غير أهل السنة ، كالخوارج والمعتزلة والمرجئة، كان رفضهم لاشتراكهم في أصل واحد، وهو: الإيمان كل لا يتجزأ إما ان يبقى كله أو يذهب كله، فلا يصح تقسيمه عندهم.

- والصواب الذي لا ريب فيه أن الدين منه ما هو من أصوله، ومبانيه، وفرائضه، ومنه ما هو من شعبه التي يفضل بعضه بعضا، ومنه ما هو من سننه، ومنه ما جاء شرطه باستحبابه، وغير ذلك، ففيه أصول وفروع؛ بهذا المعنى، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]؛ فجعل لكلمة التوحيد أصلا وفرعا ، وكذلك سائر أمور الدين.

- وينبغي التفطن هنا لضابط معين ليستقيم معه التقسيم، وهو أن النظر إلى الدين من جهة القبول والانقياد والتصديق والاعتقاد لا فرق من هذه الجهة بين أصل الدين وفرعه، فالواجب على الخلق كلهم تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته في ما أمر فإن كذّب الرسول في أمر علم أن الرسول قد اخبر به فهو كافر لا فرق بين أصول وفروع خلافا للمعتزلة وأهل البدع وكذا في القبول والانقياد.

- أما بالنظر إلى الدين من جهة الإتيان والترك والموافقة والمخالفة فهنا يفرق بين الأصل والفرع، بما جعله الشرع دليلا على التفرقة.
- هذا كتقعيد عام للمسألة ، اما بالنسبة للوقوف على موقف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى من هذه المسألة فسأنقل كلام نفسي لسلطان العميري في بحثه الجيد في هذه النقطة، لكن بتصرف يسير:

- "عند التأمل في كلام ابن تيمية وفي أصوله ومواقفه من المصطلحات الحادثة يدرك المرء أنه غير منكر لأصل تقسيم الدين إلى أصول وفروع هكذا بإطلاق، وأنه لا يصح إطلاق القول بأن ابن تيمية ممن يحكم على ذلك التقسيم بالبطلان والبدعية، بل الذي يدل عليه كلامه أنه ممن يقول بانقسام الدين إلى ذلك التقسيم، وأنه من المعتبرين له، وأن جهة البطلان عنده في هذا التقسيم ليست راجعة إلى أصله، وإنما إلى تفاصيله المذكورة له إما من جهة الضابط أو من جهة الحكم المرتب عليه، وأن جميع إنكارات ابن تيمية لتقسيم الدين إلى أصول وفروع راجعة إلى هذين الأمرين أو أحدهما كما سيأتي تحريره.

والذي يدل من كلامه على كونه يرى صحة تقسيم الدين إلى أصول وفروع أمور كثيرة منها:

الأمر الأول: استعماله لتقسيم الدين إلى أصول وفروع في مقام التقرير والتأصيل؛ ومن كلامه في ذلك:
-"فصل: في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميع الدين أصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان ..." الفتاوى (19/155).

- فابن تيمية هنا استعمل مصطلح أصول الدين وفروعه في مقام تأصيل كمال الدين وكمال تبليغه؛ فلو كان مصطلحا منكراً أو مبدعاً من أصله لما استعمله هكذا بإطلاق من غير تنبيه على خطأه له كان خطأ.

- ومن ذلك قوله: "والمقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين التي تستحق هذا الاسم؛ وعلى البراهين والآيات والأدلة اليقينية بخلاف ما أحدثه المبتدعون والملحدون" الفتاوى (19/169).

- فهو هنا بين أن ثمة أحكاما ودلائل في الشريعة تستحق أن تسمى أصول الدين؛ وأن الشرع قد بينها ووضحها؛ وهذا التقرير دليل على إقراره بهذا التقسيم واعتباره له.

 الأمر الثاني: تصريحه بأن اسم أصول الدين اسم عظيم وأنه غير منكر؛ وإنما المنكر المعنى الذي ذكره له المتكلمون؛ فقد قال في معرض نقاشه للمتكلمين: "كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه أصول الدين؛ وهذا اسم عظيم؛ والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم؛ فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك؛ قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين؛ وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين؛ وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين؛ وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان؛ فالدين ما شرعه الله ورسوله؛ وقد بين أصوله وفروعه" الفتاوى (4/56)؛ وهذا الكلام منه يدل على أن الإش؛ لا في الاسم نفسه فهو اسم شريف مقبول.

الأمر الثالث: تعامله مع لفظ أصول الدين وفروعه على أنه لفظ مجمل؛ غدا محتملاً لمعاني متعددة منها ما هو صواب وهو ما اعتبره الشرع؛ ومنها ما هو خطأ وهو ما اعتبره أهل الكلام؛ ومن ذلك قوله بعد أن ذكر بعض العقائد الكلامية: "فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده".

وأما الدين الذي قال الله فيه: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"؛ فذاك له أصول وفروع بحسبه؛ وإذا عرف أن مسمى أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه إجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين فهو موروث عن الرسول" درء التعارض (1/41).

الأمر الرابع: تقريره للضابط الصحيح لكل من أصول الدين وفروعه؛ ومن ذلك قوله: "وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية وإن سميت تلك مسائل أصول وهذه مسائل فروع؛ فان هذه تسمية محدثة قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.

وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها . ....بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول والدقيق مسائل فروع" الفتاوى (6/56).

- ووجه الدلالة من هذا النص هو أنه بين أن إطلاق أصول الدين على المسائل الخبرية فقط أو المسائل الاعتقادية فقط إطلاق خاطئ لم يكن معروفا عند المتقدمين؛ ثم بين أن أصول الدين أوسع مما ذكر أولئك المتكلمون؛ وهذا يدل على أن الإشكال عنده فيما حدد به ذلك التقسيم لا في أصل التقسيم.

المسألة الثانية: كلامه الذي فُهم منه أنه ينكر أصل التقسيم.

ثمة أقول لشبخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فَهِم منها بعض الناظرين في كلامه أنه ممن ينكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع؛ وأن هذا التقسيم تقسيم مبتدع غير صحيح؛ وقد استندوا في نسبة هذا القول إلى ابن تيمية إلى عدة أقول له أهمها ثلاثة أقوال؛ هي:

  1. قوله: "ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع؛ بل جعل الدين قسمين أصولا وفروعا لم يكن معروفا في الصحابة والتابعين...؛ ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة" الفتاوى (13/125).
  2. ومن ذلك قوله: "فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان؛ سواء كان في المسائل النظرية أو العملية؛ هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام. وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.

فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان؛ ولا أئمة الإسلام؛ وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع؛ وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم؛ وهو تفريق متناقض؛ فانه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل؛ قيل له: فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا؟ وفى أن عثمان أفضل من علي أم علي أفضل؟ وفى كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الإعتقادية والعلمية ولا كفر فيها بالاتفاق......" الفتاوى (23/346).

- ومن ذلك قوله: "وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية وإن سميت تلك مسائل أصول وهذه مسائل فروع؛ فان هذه تسمية محدثة قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة ..." الفتاوى (6/56).

ولكن هذه الأقوال لا يصح الاعتماد عليها في نسبة القول بإنكار تقسيم الدين إلى أصول وفروع إلى ابن تيمية؛ وذلك لعدة أمور؛ هي:

الأمر الأول: أن نسبة إنكار تقسيم الدين إلى أصـول وفـروع إليه فيها مصادرة لـكلامه الـذي فيه الإقـرار بصـحة التقسيم؛ والذي هو في بعضه يقارب درجة الصراحة.
الأمر الثاني: أن منهج ابن تيمية في التعامل مع المصطلحات الحادثة يأبى أن يكون موقفه هو الإنكار لانقسام الدين إلى أصول وفروع.

وخلاصة ما سبق: أن ابن تيمية لا ينكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع؛ وإنما ينكر فيه أمرين هما:

- الضوابط التي ذكرت له.
- الأحكام التي رتبت على هذا التقسيم.

مراجع للبحث: (مسائل أصول الدين المبحوثة في أصول الفقه: د خالد عبد اللطيف بداية المجلد الأول، الاصول والفروع د سعد الشثري، حصول المأمول من كلام ابن تيمية في الأصول دار الوطن).

فارس يوسف المصري

يطلب العلم عند فضيلة الشيخ مصطفى العدوي منذ سنوات، وفي خلال هذه المدة وقبلها كان يتردد على مجموعة من العلماء والدعاة وكبار طلبة العلم

  • 12
  • 0
  • 56,222

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً